ذ. بناجح: معركة غزة اليوم امتحان للضمير والرجولة والإرادة السياسية والشعبية

Cover Image for ذ. بناجح: معركة غزة اليوم امتحان للضمير والرجولة والإرادة السياسية والشعبية
نشر بتاريخ

أجرى موقع “عرب حورنال” حوارا مع الأستاذ حسن بناجح عضو الأمانة العامة للدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان، تطرق للمعركة الجارية في غزة وحرب الإبادة الشاملة التي يمارسها الكيان الصهيوني في حق الفلسطينيين خاصة في القطاع.

الحوار محاولة لقراءة التحولات الاستراتيجية الكبرى في المنطقة، واستنطاق لسياق “طوفان الأقصى” وتداعياته، وتحليل لمواقف الأطراف الفاعلة خاصة الأنظمة العربية وشعوب الأمة، ونظرة في سير المعركة والسيناريوهات الممكنة، وإطلالة على الأحداث من زاوية السنن الإلهية، واستشراف لمستقبل الأمة الموعود.

فإلى نص الحوار:

ما الذي يمكن قوله في ظل استمرار مجازر الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتي يشنها العدو الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة على مدى أكثر من عام ونصف، وسط تآمر دولي وتواطؤ عربي إسلامي؟ وما عواقب الخذلان العربي الإسلامي لأبناء غزة في هذه اللحظة الحرجة التي تشهدها الأمة؟ وما الذي غيّرته وكشفته معركة طوفان الأقصى والأحداث المصاحبة لها سواء في الداخل الفلسطيني أو على المستوى الإقليمي والدولي، برأيكم؟

ما يتعرض له قطاع غزة من حرب إبادة شاملة منذ السابع من أكتوبر 2023، ليس حربا تقليدية، بل مشروع محو شامل لشعب بأكمله، وتدمير منهجي لحجره وبشره. لقد تخطى العدوان كل الخطوط الحمراء، وتحولت غزة إلى مسرح لأبشع جرائم العصر الحديث:

–  أكثر من 50 ألف شهيد، جلهم من النساء والأطفال.

–  حوالي 120 ألف مصاب، كثير منهم بإصابات دائمة.

–  تهجير أكثر من 2 مليون إنسان.

–  تدمير شبه كامل للبنية الصحية والتعليمية والخدمية.

–  استهداف مباشر للمستشفيات، والمساجد، والكنائس، والجامعات.

هذا الدمار يصنف سياسة تطهير عرقي ممنهجة، بغطاء غربي معلن، وصمت عربي مخز، بل تواطؤا فعليا.

وما يضاعف الجريمة أن الشعوب تتابع ذلك في بث مباشر، بينما جل الأنظمة الحاكمة تلتزم سياسة التفرج أو التبرير أو التطبيع والتآمر.

أما الخذلان العربي والإسلامي فهو الخطيئة الكبرى التي سيسجلها التاريخ بمداد العار، إذ كيف يعقل أن تبقى غزة وحيدة في وجه أحد أقوى جيوش العالم مسنودا بالدول الغربية الكبرى؟ وكيف تُغلق المعابر في وجه النازحين، وتُفتح العواصم في وجه القتلة؟ وكيف تستمر دول في صفقات الغاز والسلاح والتطبيع وفتح الموانئ لعبور سفن الاحتلال وداعميه، في ذروة المجازر؟

الخذلان اليوم صار شراكة في الجريمة، وسكوتا عن القتل، بل تسهيلا له .

والنتيجة؟ اهتزاز ثقة الشعوب في أنظمتها، وتعمّق الهوة بين إرادة الشعوب وتوجهات الحكام، وتآكل المشروعية الأخلاقية والسياسية لكثير من العواصم.

وسط هذه العتمة، جاءت معركة طوفان الأقصى لتكشف المستور، وتقلب الطاولة.

فقد كان الطوفان زلزال سياسيا وأخلاقيا عالميا. وأبرز ما كشفه الطوفان:

1- أظهر هشاشة الكيان الصهيوني، رغم امتلاكه سلاح الجو والاستخبارات والدعم الغربي، حيث لم يستطع إيقاف المقاومة رغم القصف الجنوني، وفشل في استعادة أسراه مما فضحه أمام العالم وأمام جمهوره.

2- أحيا روح الأمة التي ظنّوا أنها ماتت؛ فإذا بالشعوب تنتفض، في الرباط، وصنعاء، وعمان، وكوالالمبور وغيرها.

3- عرى النفاق الغربي الذي يدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان، فإذا به يبارك الإبادة، ويوفر الغطاء السياسي والعسكري لها، بل بعض دوله تشارك في الحرب بشكل مباشر وفي مقدمتها أمريكا.

4- كشف زيف ما يسمى مشاريع السلام والتطبيع التي راهن عليها البعض كبديل للمقاومة، فإذا بها تتهاوى تحت صواريخ المقاومة البطلة.

5- أعاد فلسطين إلى قلب العالم، لا كملف تفاوضي، بل كقضية تحرر وجودي.

باختصار، ما بعد طوفان الأقصى ليس كما قبله؛ فقد سقطت أقنعة، وانكشفت تحالفات ومؤامرات، وارتسمت ملامح محور جديد للممانعة الشعبية، وأصبح الحديث عن الانتصار ممكنا أكثر من أي وقت مضى، لا لأن العدو ضعف، بل لأن روح المقاومة اشتدت، ولأن الأمة بدأت تستفيق من سُباتها الطويل.

شهدت المغرب خلال الآونة الأخيرة، احتجاجات شعبية دعماً لغزة ورفضاً للتطبيع مع الكيان الصهيوني وقطع العلاقات معه، والتي كان آخرها الاحتجاجات الرافضة لرسو سفن الاحتلال في ميناء طنجة.. ما تقييمكم للموقف الشعبي والرسمي في المغرب من جرائم الإبادة الجماعية في غزة؟ وأي موقف وطني يجسده الشعب المغربي في الانتصار لقضية الأمة العربية والإسلامية رغم محاولات جره إلى مستنقع التطبيع؟ وهل تعتقدون أن هذا الرفض الشعبي سيفشل هذه المحاولات ويقطع الطريق أمام الكيان المحتل في التوغل في المغرب العربي؟

المغرب يعيش هذه اللحظة التاريخية بتمايز صارخ بين موقف شعبي مبدئي مقاوم، وموقف رسمي خاضع لصفقة سياسية انفرادية مناقضة للإرادة الشعبية.

فعلى المستوى الشعبي، سجل المغاربة حضورا استثنائيا في نصرة غزة، من خلال آلاف الوقفات والمسيرات التي انطلقت منذ الساعات الأولى لطوفان الأقصى، وتواصلت بلا انقطاع، رغم القمع والمنع، إضافة إلى مقاطعات واسعة للمنتجات الداعمة للكيان، وحملات إلكترونية وإبداعية ضد التطبيع، ومبادرات شبابية متتالية..

ولم يكن التميز فقط في الكثافة، بل في المضمون، حيث أصبح الشارع المغربي يربط بين دعم غزة ورفض التطبيع، وبين تحرير فلسطين وتحرير الإرادة.

فحين يحتج الناس ضد رسو سفن الاحتلال في ميناء طنجة، فهم لا يرفضون فقط مرور البضائع، بل يرفعون الصوت في وجه التحالف الأمني والاقتصادي مع العدو الصهيوني.

إن الشعب المغربي، اليوم لا يدافع عن غزة فقط، بل يدافع وكرامته، عن استقلاله، عن سيادته، عن قيمه.

أما الموقف الرسمي، فمخيّب للآمال إلى أبعد الحدود في ظل الإصرار على استمرار اتفاقيات التعاون العسكري والتجاري مع الكيان، ودخول علني لشخصيات صهيونية في عز المجازر، وتواصل رحلات الشحن والتبادل رغم المقاطعات الشعبية.

لقد بات واضحا للجميع أن التوجه الرسمي يراهن على التطبيع بوصفه ورقة سياسية مرتبطة بملف الصحراء، وهو رهان خطير، لأنه يقوم على مقايضة الأرض بالشرف، والسيادة بالكرامة.

لكن مهما بلغ التورط الرسمي، فإن الشعب المغربي أثبت –وسيثبت– أن التطبيع فُرض من فوق، لكنه مرفوض شعبيا رفضا مطلقا.

إن كل محاولة توغل صهيوني في المغرب تواجه بجدار شعبي صلب، يتكون من موروث تاريخي وباعث ديني، ويقظة وطنية.

وما دامت فلسطين هي بوصلتنا، فإن الكيان لن يجد في المغرب سوى الرفض، فالشعوب لا تُهزَم، حتى إن هُزِمت أنظمتها.

جسّد اليمن وقواته المسلحة موقفاً عملياً قويا في دعم غزة من خلال العمليات العسكرية المباشرة في عمق الكيان الصهيوني والحصار البحري على الملاحة الإسرائيلية.. ماذا تقولون بحق هذا الموقف التاريخي خصوصاً في ظل التأثيرات البالغة للحصار اليمني على اقتصاد الكيان الصهيوني باعتراف العدو نفسه؟ وماذا تعني العمليات العسكرية اليمنية المساندة لغزة اليوم لكم كشعب عربي؟ وهل تعتقدون أن نجاح اليمن في استمرار دعم غزة عسكرياً رغم العدوان الأمريكي قد فرض معادلة ردع جديدة في المنطقة؟ وأي تداعيات لهذه المعادلة في تهشيم مستقبل الهيمنة الأمريكية في المنطقة والإقليم؟

ما قام به اليمن الشقيق من عمليات عسكرية متواصلة دعما لغزة شكل اختراقا عسكريا حقيقيا بطوليا لمنظومة الحصار الصهيوني المفروضة منذ عقود.

لقد استطاع اليمن، رغم الحصار والتجويع والحرب الشرسة عليه، أن يفرض معادلة ردع جديدة عنوانها: “لن تمر السفن إلى الكيان إلا على أجسادنا”.

إننا اليوم أمام موقف تاريخي سيكتبه التاريخ بأحرف من نور، لأنه كسر ثلاث محرمات:

1- محرم الرد العربي المسلح، الذي ظل مشلولا منذ عقود؛

2- محرم استهداف الكيان خارج حدود فلسطين، حيث اعتادت “إسرائيل” أن تضرب دون أن تُضرب؛

3- محرم الحصار العكسي، إذ لطالما كان الكيان الصهيوني هو من يفرض الحصار على غزة، فجاء اليمن ليحاصره من باب البحر الأحمر، ويقطع شريان تجارته.

وقد اعترف قادة الكيان أنفسهم، أن الحصار البحري الذي فرضته القوات اليمنية كبدهم خسائر بمليارات الدولارات، وأدى إلى تعطيل أكثر من 90% من شحناتهم.  والأهم من كل ذلك، هو الرسالة الرمزية والسياسية التي بعثها اليمن: أن غزة ليست وحدها. وأن الأمة –رغم ما بها من خذلان– لا تزال قادرة على أن تفاجِئ، وأن تهاجم، وأن تقلب الطاولة.

 إننا نعتبر هذا الموقف اليمني امتدادا طبيعيا لروح المقاومة في الأمة، وتأكيدا على أن فلسطين ليست عبئا كما يصورها المطبعون، بل بوصلة تحرر وكرامة.

كما أنه أعاد تعريف العلاقة بين الشعوب وجبهات المقاومة، فغزة لم تعد تقاتل نيابة عنا، بل صار من الواجب أن نقاتل معها، بكل الوسائل الممكنة.

بل إننا اليوم أمام تحول مفصلي فارق، إذ للمرة الأولى يُفرض توازن رعب خارج أرض فلسطين، وللمرة الأولى ترتجف “إسرائيل” من تهديدات صادرة من بلد عربي مُحاصر.

هذا التحول حشم هالة الردع الأمريكي أيضا، فحاملات الطائرات لم تمنع الصواريخ والطائرات المسيّرة من الوصول إلى عمق البحر الأحمر، ولم تستطع حماية السفن التجارية، ولا منع التحول الاستراتيجي في المنطقة، ولا استطاعت منع وصول الصواريخ إلى عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة.

فحيى الله شعب اليمن.

تتسارع الأحداث الساخنة والمتغيرات الدراماتيكية على الساحة الإقليمية على وقع معركة طوفان الأقصى والأحداث المصاحبة لها.. برأيكم، المنطقة إلى أين على ضوء كل هذه المتغيرات الراهنة؟ وهل نحن قادمون على حلحلة لكل الحروب والأزمات القائمة، أم أننا مقبلون على حرب جديدة أو ربما حرب شاملة؟ وما تقييمكم لكل ما يجري في المنطقة العربية والإسلامية اليوم في العموم، والخيارات المتاحة لمواجهة هذه التطورات والمتغيرات؟

نحن نعيش لحظة تحول جذري في تاريخ المنطقة، لحظة كأنها تعيد رسم الخرائط وتوزيع الأدوار وتفكيك التحالفات، على وقع صمود غزة، وضربات المقاومة، وخيبة الهيمنة الغربية.

معركة طوفان الأقصى ليست معركة عابرة، بل هي نقطة ارتكاز لميلاد إسلامي جديد، تُراجع فيه القوى المستكبرة حضورها ومكانتها، وتهتز فيه “إسرائيل” أمنيا وعسكريا واقتصاديا، وتعيد فيه الشعوب تعريف علاقتها بالأنظمة والخيارات السياسية، وتصاغ فيه تحالفات ميدانية لم تكن واردة من قبل.

هذه المتغيرات تضع المنطقة أمام مفترق طرق حقيقي:

1- السيناريو الأول: الانفجار الشامل

تصعيد الحرب في غزة مع تدخلات إقليمية أوسع –من اليمن ولبنان والعراق وإيران– قد يفضي إلى حرب إقليمية شاملة، خاصة مع تزايد التورط الأمريكي المباشر.

وهذا السيناريو، رغم مخاطره، يكشف عن تصدع الجبهة الصهيونية، وانكشاف الغطاء الأمريكي.

2- السيناريو الثاني: التحول نحو التسوية القسرية

تحاول قوى دولية، بقيادة واشنطن، فرض حل على حساب المقاومة، وتهدئة شكلية تفرض “سلاما اقتصاديا” وتعيد ترتيب المنطقة لصالح التطبيع والانفتاح مع الكيان، مع تطويق إيران وقوى المقاومة.

لكن هذا السيناريو يواجه رفضا شعبيا متزايدا، وإرادة مقاومة لا تُشترى.

3- السيناريو الثالث: نهوض شعبي متكامل

ما رأيناه من موجات احتجاج، ومن يقظة ضمير، ومن دعم شعبي واسع للمقاومة، سيشكل بإذن الله قاعدة لمرحلة نهوض جديدة، تعيد للأمة وعيها، وتدفع باتجاه خيار تحرري شامل.

وهذا هو الرهان الأهم، لأنه يمنح الشعوب زمام المبادرة، ويوحدها حول فلسطين، لا كقضية، بل كمشروع تحرر شامل.

وهذا ليس أماني جانحة، وإنما هو ينطلق أولا من ثقتنا في تمكين الله عز وجل للأمة، ثم هو مبني على معطيات الأرض التي يمكن إجمالها فيما يلي:

– الكيان الصهيوني يتآكل من الداخل، سياسيا وأمنيا واجتماعيا، وقد عجز عن حسم معركة غزة رغم المجازر.

– الهيمنة الأمريكية تتراجع، بفعل إخفاقها في فرض إرادتها، وفقدان حلفائها للثقة.

– المحاور التقليدية تتغير، والمقاومة باتت فاعلا إقليميا قويا حضورا وهيبة.

وهذا ما يملي على كل الأمة ومكوناتها أن تتجه إلى ما يلي:

1- التحرر من الهيمنة الأجنبية والوصاية السياسية.

2- دعم حركات المقاومة وتوسيع حواضنها الشعبية.

3- بناء مشروع متكامل يربط بين تحرير فلسطين والتحرر الداخلي.

4- توحيد الصفوف الشعبية والنخبوية حول المبادئ الجامعة: الحرية، العدل، الكرامة، السيادة.

في خلاصة فإن المنطقة على أعتاب فرصة تاريخية، إما أن تنهض من بين ركام النكبات، وإما أن تستسلم لموجة تطبيعية لا تُبقي ولا تذر.

ومعركة غزة اليوم، هي امتحان لكل ذلك.

امتحان للضمير، وللرجولة، وللإرادة السياسية والشعبية.

فمن انحاز لغزة اليوم، سيكون في صف النصر غدا، ومن خذلها، حُكم عليه بالخزي.

إنها لحظة من لحظات السنن الربانية التي تمر بها الأمم وهي تخرج من محنها إلى منحها، ومن ليلها إلى فجرها. وتلك الأيام نداولها بين الناس.

وإن هذه المتغيرات ليست إلا من بشائر التغيير الذي وعد الله به عباده الصابرين المجاهدين: إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.