ذة. مستحسان: لا يمكن الحديث عن نجاعة “المقاربة القانونية” في تعديل مدونة الأسرة دون إصلاح سياسي جوهري

Cover Image for ذة. مستحسان: لا يمكن الحديث عن نجاعة “المقاربة القانونية” في تعديل مدونة الأسرة دون إصلاح سياسي جوهري
نشر بتاريخ

أجرت بوابة العدل والإحسان حوارا مع الأستاذة مستحسان خديجة، عضو اللجنة المشتركة للنظر في المدونة التابعة للجماعة والكاتبة الوطنية للقطاع النسائي، حول الوثيقة التي أصدرتها الجماعة في هذا الصدد، ومرتكزاتها، وسياقها، ودواعيها.

عضو اللجنة أجابت عن عدد من الأسئلة والملاحظات، كعدم دخول الوثيقة إلى التفاصيل واكتفائها بالكليات العامة، وجدوى طرح الوثيقة أصلا مادام أن النظام لن يأخذ بها، وطبيعة المرجعية الإسلامية التي تشدد الجماعة على ضرورة اعتماد أي إصلاح عليها، وعلاقة الإصلاح السياسي بإصلاح المدونة، ومحدودية المقاربة القانونية، وتحفظ الجماعة على “المساواة الجندرية”، ودعوتها إلى “الاجتهاد الجماعي”، ومقترحها بخصوص منهجية الإصلاح المثلى… وغيرها من القضايا الهامة.

فإلى نص الحوار:

بداية أستاذة مستحسان، ما الغاية من إصدار وثيقة تعرض فيها جماعة العدل والإحسان رأيها في مسألة تعديل مدونة الأسرة؟ أو بعبارة بسيطة ماذا تريد أن تقول الجماعة للناس في هذا الموضوع الحسّاس؟

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين، شكر الله للإخوة والأخوات في بوابة الجماعة هذا الحضور الدائم والتفاعل القوي والوازن مع قضايا الأمة وهموم المستضعفين، وشكر لهم طيب الاستضافة.

 بالطبع نحن جماعة دعوية وجزء من الحركة الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي، وجزء من الحركة التغييرية والسياسية في المغرب، لذا ننخرط في كل فرصة نراها مناسبة لإبلاغ صوتنا وتوضيح مواقفنا من القضايا الكبرى التي تشغل مجتمعنا وأمتنا، ونحن نرى أنه من منطلق مسؤوليتنا الشرعية والسياسية والتاريخية، واستجابة لأمر ربنا عز وجل لنا وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (آل عمران/ الآية 104) كان من الواجب علينا عرض موقفنا بالوضوح والقوة اللازمين من هذا النقاش المجتمعي الذي يمس واحدا من أهم بنى المجتمع هو الأسرة، المجال الذي يعتبر آخر معاقل الشريعة الإسلامية تشريعيا وقانونيا في بلدنا. وبالمناسبة هذه الوثيقة ليست أول إصدار لنا في الموضوع، بل سبقتها رسالة إخواننا في مجلس الإرشاد -حفظهم الله-التي بينت موقف الجماعة من نقاش المدونة والتعديلات المرتقبة، وأكدت من بين ما أكدت عليه على خطورة أي مساس بالمرجعية الإسلامية والهوية الحضارية للأمة.

قد يستغرب البعض كيف أن الجماعة تصدر وثيقة وهي لن تعرضها على اللجنة المكلفة رسميا بإعداد مشروع المدونة الجديدة والمعنية بتلقي مذكرات ومقترحات القوى المجتمعية والسياسية والمدنية. إذ المعروف أن العدل والإحسان تصطف خارج النسق السياسي الرسمي وتعارض اختياراته وسياساته العامة، فما الجدوى إذا من إصدار وثيقة لن يأخذ بها نظام تعارضونه ويعارضكم؟

ما ذنبنا إذا ضاقت ديموقراطية المخزن بنا وبآرائنا ومواقفنا واختارت إقصاءنا ومحاصرتنا، ووأد كل الأصوات المعبرة عن قناعاتنا ومواقفنا؟ فهذا ما ينبغي أن يثير الاستغراب وليس موقفُنا. فخيارنا المبدئي رغم الحصار المضروب على الجماعة وآرائها منذ ما يقارب خمسة عقود من الزمن، كان هو الحضور المتجذّر وسط أبناء وطننا وأمتنا، والجهر بكلمة الحق، ومناهضة الفساد والظلم، والاصطفاف إلى جانب المستضعفين. تحركنا مسؤوليتنا وما يمليه علينا دورنا الدعوي والتربوي والتعليمي. ولذلك نعتبر انخراطنا في نقاش المدونة حقا من حقوقنا المشروعة لأننا جزء من المغاربة المعنيين بهذه التعديلات وما يهم الأسر المغربية يهمنا جميعا، ومن جهة ثانية كان من واجبنا التنبيه إلى منطلقات وشروط أساسية ينبغي أن يتأسس عليها مشروع إصلاح مدونة الأسرة، حتى لا ينحصر النقاش في أمور فرعية وجزئية، بينما القضايا المفصلية في البلاد، والأسباب الحقيقية لما يعانيه المغاربة من مشاكل أسرية واجتماعية وغيرها مسكوت عنها.

لوحظ أن الورقة عرضت منطلقات كلية ومداخل عامة وشروط أساسية للإصلاح، لكنها لم تقدّم لنا تفاصيل رؤية جماعة العدل والإحسان للقضايا الأساسية المثارة المرتبطة بالمدونة (الإرث، الحضانة، النسب، الأموال المكتسبة…). لماذا؟

هذه الورقة تمثل إطارا مرجعيا يحدد المنطلقات والغايات الكبرى، وتبين مواقفنا المبدئية من الخلفيات الإيديولوجية والفكرية والسياسية التي تحكم التعديلات المقترحة وسياقاتها، وشروط نجاح المدونة في تحقيق العدالة إذا كانت هناك إرادة إصلاح حقيقية عند النظام والداعين إلى هذه التعديلات. وبالتالي مناقشة التفاصيل والمواد والبنود والإجراءات المسطرية والقانونية هي قضايا اختارت اللجنة المعدة للوثيقة عدم إثارتها حاليا، لتقديرها أنه إذا توضّحت الكليات من قبيل ضرورة تحقيق العدل وحماية الأسرة بكل مكوناتها، واحترام هوية الشعب المغربي ودينه، والتحرر من ربقة التبعية للآخر… سيتيسّر حينها الغوص في التفاصيل. وهو اختيار يروم تجنّب التشويش على غير المتخصّصين، حتى لا تحيد الوثيقة عن هدفها، خاصة أنها وثيقة موجهة لعموم الأمة. ومع ذلك فإن مؤسسات الجماعة كل واحدة من مجال تخصصها قد استطاعت بفضل الله تعالى وبفضل مجهوداتها الدؤوبة بلورة مواقف معتبرة من أغلب القضايا موضوع المراجعة، قد تتاح فرص قريبة لعرضها وتقديمها، مواقف تتأسس على المنطلقات التي حددتها الجماعة، نابعة من رأي حر مستقل، لا ينحني للإملاءات الخارجية، ولا يعبأ للمزايدات أو الحسابات السياسوية. مواقف وخيارات نابعة من رؤية جامعة تستحضر روح الشريعة الإسلامية في تحقيق العدالة وضمان الحقوق، وتراعي مقصد استقرار الأسرة وتماسك المجتمع المسلم، كما تراعي تبدلات الواقع وضرورة التجديد والاجتهاد فيما تقتضيه الضرورة والمصلحة.

شدّدت الورقة على أن المرجعية الإسلامية حاسمة في اعتماد أي تعديل وأي مشروع يهمّ الأسرة المغربية المسلمة، كما ذكّرتنا بما أكد عليها سلفا بيان مجلس إرشاد الجماعة، والذي كان حاسما في هذه المسألة. وهو ما يتقاطع مع رأي عدد من القوى الإسلامية والعلمائية والمدنية والسياسية. لماذا تعتبرون اعتماد المرجعية الإسلامية مسألة قاطعة في أي تعديل يهم مدونة الأسرة؟

ببساطة لأننا نرى أن هناك ضغطا دوليا قويا على الدول الإسلامية وابتزازا خارجيا غير مسبوق لإجبارها على تقزيم دور الدين في المجتمعات، وأن هناك حرصا كبيرا من طرف العديد من التيارات العلمانية المتطرفة المستقوية بالغرب، والتي تحظى بالدعم الفكري والتمويل الإعلامي والتوجيه من المؤسسات الغربية، على التحقير الصريح للمرجعية الإسلامية وإعطاء السمو المطلق للاتفاقيات الدولية والمرجعيات الأممية، ضدا على هوية مجتمعنا المغربي وقيمه وأخلاقه ومبادئه. فهذا ما يجعلنا نؤكد على أن الشريعة الإسلامية في أحكامها القطعية خط أحمر، ولا يمكن تجاوزها. فالإسلام دين المغاربة المتجذر في الأرواح والقلوب، ومرجعيتهم الأسمى واقعيا وتاريخيا ودستوريا، وهذه مسألة لا تقبل التشكيك أو المزايدة.

وأنتم تؤكدون على هذا المنطلق الأساس، دعوتم إلى ما أسميتموه “إعادة قراءة النصوص وتمحيص التجارب بما يتماشى مع فقه المرحلة” وأكدتم أن “المرجعية الإسلامية لا تمانع من الانفتاح على التجارب البشرية”. ماذا تقصدون بهذه القواعد التي يُتلّمس منها الكثير من المرونة والوُسع؟ وكيف تلائمون بينها وبين حديثكم عن الأصول والثوابت التي لا معنى للمرجعية الإسلامية بدونها؟

من أهم خصوصيات مدونة الأسرة المغربية أنها مؤطرة بنصوص دينية ومؤسسة على أحكام فقهية، في أبواب الزواج والطلاق والنفقة والحضانة والإرث وغيرها. وهذا أمر جوهري ينبغي استحضاره ابتداء وانتهاء. وفي هذا السياق أود التأكيد على مسألة مهمة جدا، وهي أن الفقه الإسلامي بما يشتمل عليه من المرونة والحيوية قادر أن يواجه مشاكل الناس ويعطي للحوادث والقضايا المستجدة ما يناسبها من أحكام، ولا يدع للمسلمين حاجة إلى الالتجاء إلى تشريعات وضعية بعيدة عن دينهم وثقافتهم وقيمهم. وهذه خاصية يشهد بها المنصفون من غير المسلمين، وقد أورد الدكتور عبد الفتاح طبارة في كتابه “روح الدين الإسلامي” شهادة لعالم يدعى سانتيلا قال فيها: “إن في الفقه الإسلامي ما يكفي المسلمين في تشريعهم المدني، إن لم نقل أن فيه ما يكفي الإنسانية كلها” (نقلا عن كتاب روح الدين الإسلامي للدكتور عبد الفتاح طبارة ص 301).

ولأن الوقائع في الوجود لا تنحصر، وأحوال الناس تتطور وتتبدل، أقر الإسلام الاجتهاد بنصوص الكتاب والسنة ودعا إلى التوسعة على الناس ورفع الحرج عنهم. فحصل إجماع العلماء على ضرورة الاجتهاد والنظر فيما لم يرد فيه نص أو ورد فيه نص ظني على مستوى الثبوت أو الدلالة تجلية للأحكام وتبصرة للعباد. أما الأصول والثوابت التي مصادرها نصوص قطعية الثبوت والدلالة فلا مجال للاجتهاد فيها، إلا بإزالة ما علق بها من شوائب شوشت النظر إليها. ولذلك ما فتئنا نحذر في هذا السياق من مغبة الانسياق وراء المتلاعبين والمفسدين الذين يريدون التأسيس لفقه “تبرير الواقع”، فيحولون على أساسه القطعي إلى ظني والمحكم إلى متشابه لأنه لا يناسب أهواءهم ومصالحهم، حتى لا يبقى للمسلمين معول يعتمدون عليه أو أصل يحتكمون إليه.

هذا من جهة. من جهة ثانية نحن ننتمي إلى مدرسة دعوية وتربوية وعلمية يعلم كل من يعرفها عن قرب، أو اطلع على أدبياتها المكتوبة والمنشورة، أنها تملك قراءة تجديدية اجتهادية منفتحة إلى حد بعيد في العديد من القضايا ومنها قضية المرأة، قراءة تؤمن بالتعدد والاختلاف، تستحضر مختلف الآراء والمذاهب من داخل المرجعية الإسلامية، وتدعو إلى الانفتاح على التجارب الإنسانية في مختلف المجالات شريطة ألا تتعارض أو تتصادم مع أصول ديننا وقطعياته، إذ الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.

فنحن ننطلق من أرضية الإسلام الصلبة، ونميز بين كليات أحكام الإسلام الجامعة والنهائية، وبين ما أنتجه العقل الإسلامي أو المسلم تاريخيا وكان مظروفا بزمانه ومكانه ومصالحه، ولهذا فنحن دائما ندعو إلى إعادة قراءة وتدبر النصوص الشرعية، ومراجعة تراثنا الفقهي، وتمحيص تجارب المسلمين عبر تاريخهم، واعتبار تحولات الواقع، والتمييز بين الأحكام التي  تمثل ثوابت الشريعة القطعية ومقاصدها وغاياتها الكبرى، وبين الموروث الفقهي الذي هو اجتهاد بشري مهما بلغ من الكمال فقد يعتريه النقص، وتجري عليه عوادي الزمان، وقد يستدرك عليه من علماء لاحقين، ف”فوق كل ذي علم عليم” كما يقول ربنا عز وجل.

ألمحت الورقة إلى إمكانية انتفاع المجتمعات الإسلامية من مزايا “الحداثة التنظيمية والتدبيرية” واهتمامها بالحاضر والمستقبل وتعظيمها للوقت وقيم التطور والتقدم، مقابل تجاوز “مظاهر العلمنة والعقلانية المتطرفة”. ما الوصفة التي يمكن أن تحقق لنا ذلك؟

نحن لا إشكال لدينا مع ما أنتجه العقل المعاشي التجريبي البشري في مجالات الإدارة والتدبير والتنظيم، وما أثله في مجالات علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع. فهذا ميراث إنساني مشترك بين البشرية، ولكن ملاحظاتنا نسجلها على الخلفيات الفكرية والفلسفية التي تتغذى منها هذه العلوم والتي يَسِمها الكفر والإلحاد والتفسخ والانحلال وإقصاء الوحي، فهي تؤله العقل والجسد وتنصبهما آلهة تعبد من دون الله، وتعتبر المجتمع المصدر الوحيد للقيم والأحكام دون اعتراف بالقوانين الإلهية، وتضع “تحطيم الإسلام” شرطا أساسيا لانتشار الحضارة الأوروبية، كما ورد على لسان رينان أرنست أحد مؤسسي الحداثة.

فالإنصاف يقتضي منا الاعتراف بمزايا الحداثة، والمسؤولية التاريخية تقتضي منا شرح عيوبها، ومواجهة مفرزاتها بفكر يكون قادرا على مقارعة التحديات بما يملك من وسائل الاجتهاد والاستنباط والبناء، والسعي إلى أسلمتها، فنعرضها على ميزان الشرع الأسمى، ونؤمن أن شرع الله الذي وضعه لخلقه هو الأصلح والأقوم والأنفع لهم في الدنيا والآخرة “ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير” وهذه إحدى المنطلقات التي نختلف فيها كليا مع التيارات اللائيكية.

حذّرت الوثيقة بشكل واضح من “المساواة الجندرية” معتبرة أن المساواة المطلقة تجحف بالمرأة نفسها. قد يستغرب البعض كيف أن المساواة المطلقة، هذا الشعار البرّاق، يمكنها أن تضر المرأة ومعها الأسرة؟

صحيح أن شعار ومطلب “المساواة المطلقة” له بريق وجاذبية خصوصا في أعين من يجهلون خلفية المصطلح وحقيقته. والمؤسف أن نجد من بني جلدتنا في المجتمعات الإسلامية من يتبنى مطلب المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات والوظائف والأدوار جملة وتفصيلا دون مراعاة للخصائص الفطرية والبيولوجية للطرفين، وكأنهما عنصران متماثلان متطابقان.

 وهنا أود التنبيه إلى خلفية المصطلح ونشأته كأساس في فكر الحركة النسوية الراديكالية، الذي يقوم على رؤية نابعة من الإيمان بأن الأنثى كيان منفصل عن الذكر، متمركزة حول ذاتها، وعلى مبدأ الصراع بين الجنسين -الإناث والذكور- انطلاقا من دعوى أن العداء والصراع هما أصل العلاقة بينهما، وبالتالي فلا سبيل أمام المرأة لتحرير ذاتها من مشاعر النقص والدونية، إلا بالمساواة المطلقة مع الرجل، مساواة النّدين المتماثلين، ومزاحمته في جميع المجالات والوظائف، والتغلب عليه في الصراع الأزلي الذي يحكم العلاقة بينهما.

وقد حذرت الوثيقة فعلا من مخاطر تبني مطلب “المساواة المطلقة” المؤسس على مفهوم “المساواة الجندرية”، لأنه في جوهره يجحد جميع الخصائص الفطرية التي خلق الله تعالى عليها الذكور والإناث، ويدعو إلى إلغاء جميع الفوارق بين المرأة والرجل، وتقاسم جميع المسؤوليات والمهام بالتساوي، على الوجه الذي تختلط فيه الوظائف، وتتضارب فيه الأدوار داخل الأسرة، بحيث تصبح القوامة والإنفاق والأمومة ورعاية الأبناء مسؤوليات مشاعة بين الطرفين، تُحَمِّل المرأةَ أعباء فوق طاقتها، وتلزمها بالعديد من الوظائف والأعمال التي لا تنسجم مع طبيعتها الأنثوية، وخصائصها الجسمية والنفسية، مما يلحق ضرراً كبيراً بأنوثتها وصحتها الجسدية والنفسية. وأعتقد أن تبني هذا النموذج العلائقي بين الرجل والمرأة في واقعنا المغربي كفيل بزعزعة النسيج المجتمعي وإذكاء الصراعات داخل الأسر وتهديد تماسكها واستقرارها.

والغريب أنه في الوقت الذي يتمسك فيه دعاة تمكين المرأة في المجتمعات المسلمة بمطالب المساواة المطلقة بينها وبين الرجل ومحاربة أشكال التمييز ضدها، نجد عددا كبيرا من المثقفين والمثقفات حتى من بين زعماء وزعيمات التيارات النسوية العالمية وصلوا إلى حقيقة أن كثيرا من هذه الشعارات والمعارك لم تصل بالمرأة إلى بر الأمان والاستقرار الاجتماعي والعاطفي والنفسي وحتى الرفاه الاقتصادي، ولم تحسّن وضعية المرأة في الغرب، فهي ما زالت ضحية العنف والتحرش والاستغلال بكل أنواعه، وبالتالي بدؤوا مراجعة هذه الأفكار بعد صدمة ما بعد الحداثة، ومن ضمنها مفهوم المساواة الذي نستبدله بمصطلحات التكامل والعدل، وهي مفاهيم أشمل وأقرب لتحقيق مصالح المرأة وضمان استقرار وسعادة الأسرة.

حذرت الوثيقة أيضا من الضغوطات الأجنبية والإملاءات الخارجية التي تستهدف تفكيك روابط أسرنا، وتهدد النسيج القيمي والأخلاقي الضامن لتماسك المجتمع واستقراره. ما تعتبرونه خطرا تحذرون المجتمع المغربي منه، تراه جهات أخرى مغربية نموذجا غربيا مشرقا يُراد تعميمه وما يحمل معه من حقوق وحريات، عبر آليات التزامات المغرب الأممية.

ينبغي أن نعترف أننا لسنا وحدنا في هذا العالم، وأن هناك مرجعيات وفلسفات وديانات وإيديولوجيات وهناك مشاريع دولية للهيمنة على الشعوب سياسيا وثقافيا واقتصاديا وحتى عسكريا، وأن هذه المشاريع لها أذرع سلطوية وثقافية وإعلامية من بني جلدتنا تتبنى أفكارها وخططها، وتعمل بشكل ممول أو تطوعي لتحقيق أهدافها، وعلى رأسها أليكة المجتمعات المسلمة أو بشكل أعم المجتمعات المتدينة، أي ضرب المرجعيات الدينية والقيمية والأخلاقية، بل وتسعى من خلال الاتفاقيات والمواثيق الدولية لعولمة وشرعنة هذا الإفساد الجاهلي غير المسبوق والذي عنوانه الأكبر “الصد عن الله”. ولهذا حذرنا من الرضوخ لهذه المشاريع تحت أي ضغط سواء كان دعما ماليا أو سياسيا أو ثقافيا، فالمجتمع المغربي له هويته الثابتة، ومرجعيته الدينية التي يعتز بها، وخصوصياته الثقافية التي تميزه ويفتخر بها، كما أن استقرار الأسر المغربية وتماسكها في ظل قيم الإسلام وأخلاقه المثلى أمور لا تقبل المساومة والمزايدة مهما كان الثمن. ومن هنا نجدد دعوتنا للعلماء من موقع مسؤوليتهم الدينية والتربوية والأخلاقية للتصدي لكل محاولات الإفساد داخل المجتمع، والجهر بكلمة الحق التي لا تخشى لومة لائم.

اعتبرت الجماعة أن اختزال ورش إصلاح الأسرة في تعديل نص قانوني هو مقاربة تجزيئية سطحية. كيف ذلك والقانون هو الإطار التشريعي العام الذي تسير عليها المجتمعات بمختلف شرائحها وأفرادها؟ بينما ركزت في المقابل على شرط ضرورة توفر المغرب على نظام سياسي ديموقراطي قائم على العدالة الاجتماعية لإنجاح أي محاولة للإصلاح؟

في هذه النقطة بالذات أود الإشارة إلى مسألة مهمة وهي أن المنظور الإسلامي لطبيعة العلاقات الأسرية داخل المجتمع متميز جدا ومتقدم على غيره من المجتمعات، إذ الأصل في هذه العلاقات أنها تتأسس وفق منهج الترغيب لا الترهيب، وتبنى منذ مراحل التأسيس والبناء الأولى على المحبة والمودة والتعاون والتكامل والتكارم، وحتى في حالات الخلاف وعدم التوافق المفضية إلى الطلاق بين الزوجين يدعو الإسلام إلى التسامح والتياسر في قوله تعالى: ولا تنسوا الفضل بينكم (البقرة/ الآية 237) وقوله تعالى: لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده (البقرة/ الآية 233). هي أحكام وآداب رفيعة تحفظ الأواصر وتُطَيِّب النفوس بين الأب والأم والأبناء في حالات الارتباط والانفصال. ولذلك نرى أن المقاربة القانونية الصرفة لأي إصلاح -خصوصا في مجال الأسرة والعلاقات بين الأفراد- قد يكون لها آثار عكسية مفضية إلى الصراع والمغالبة والعداوة، وذلك في غياب المقاربة التربوية التي تعلي مكانة الأسرة داخل المجتمع وتبين قيمة ترابطها وتماسكها وانسجام وتعاون أفرادها. فما أحوجنا اليوم إلى منظومة تربوية قيمية أخلاقية تربي المجتمع على تقدير الغير واحترام الحقوق والالتزام بالواجبات، تتجند لها كل المؤسسات المعنية داخل المجتمع في مقدمتها المدرسة والمسجد والإعلام ومختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية.

هذا من جهة. من جهة ثانية، ينبغي الأخذ بعين الاعتبار أن قضايا الأسرة تتقاطع بشكل مركب مع مجموعة من المجالات، التنموية والاقتصادية والتربوية والسياسية والإعلامية والفكرية، وبالتالي فتحسين أوضاع الأسرة والفصل في النزاعات والخلافات بين مكوناتها لن يتأتى بنص قانوني يتيم وسط بيئة يتغول فيها الفساد بكل تلاوينه. كما أن تحسين وضعية المرأة وإنصافها -وهذا من أهم أهداف تعديلات المدونة- لن يتم من خلال مراجعة أنصبة الإرث في مجتمع أغلب أهله فقراء، أو من خلال إلزام الرجل بزيادة مبلغ النفقة وهو يكابد العطالة. والتمكين السياسي للمرأة لن يكون من خلال منحها سلطات وصلاحيات أكبر داخل الأسرة بنصوص المدونة، وضمان حقوق الرجل والمرأة مطلقة وحاضنة، ومراعاة المصلحة الفضلى للطفل لن يتحقق في ظل فساد الذمم وواقع الرشوة والتزوير وطمس الحقائق وبطء المساطر. فالتعويل على تعديل النص القانوني لوحده بمعزل عن باقي المؤثرات التي تتجاذب الأسرة المغربية يبقى عبثا ومساهمة في العبث، إن لم يسبقه الإصلاح السياسي الذي يعيد الاعتبار للإنسان ولحرية الإنسان وحقوقه وكرامته، من خلال نظام ديمقراطي قائم على احترام الحريات والتوزيع العادل والحقيقي للثروة والسلطة، ودون ذلك لا يمكن الحديث عن نجاعة أي قانون مهما كانت مثاليته.

شددتم على أن الاجتهاد الشرعي الذي يمكنه أن يقدّم لنا أفضل الأجوبة الشرعية للأسئلة القائمة، هو اجتهاد مقاصدي منفتح ومؤسساتي جماعي، وأكدتم أن عصرنا هو عصر الاجتهاد الجماعي. ماذا تقصدون بذلك؟

إذا كان الاجتهاد في الإسلام ضرورة شرعية، فهو في عصرنا الحاضر أكثر ضرورة بسبب تعقد شؤون الحياة وكثرة القضايا وتحديات الأنظمة الوضعية للشريعة الإسلامية، ولا يستقيم أن تترك القضايا والنوازل للناس ينظرون إليها بأهوائهم حتى تعم الفوضى والفساد.

من هذا المنطلق أكدت وثيقة المدونة على أن نجاح الإصلاح اليوم في مدونة الأسرة المغربية يتطلب تبني خطاب ديني يؤمن بالتجديد والاجتهاد وفق شروط أساسية، من أهمها أن يصدر الاجتهاد من أهله وأن يكون في محله، وأن يحقق المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية في أحكامه المتمثلة ابتداء في تحقيق العبودية لله عز وجل والاعتراف بحاكميته، وجلب المصالح للناس ودفع الأذى عنهم وتوفير الحياة الكريمة لهم وتمكين العدل بينهم، بما يحقق لهم سعادة الدنيا والآخرة. وقد أجمل الإمام ابن القيم رحمه الله في “إعلام الموقعين” هذه المقاصد الشرعية الثابتة حين قال: “فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحِكمة كلها”.

إن طبيعة الاجتهاد الذي نؤكد عليه هو الذي يضع نصب عينيه جملة هذه المقاصد ابتداء وانتهاء. ثم يحرص على الانفتاح من داخل المرجعية الإسلامية على مختلف الآراء الفقهية والاجتهادات المعتبرة خصوصا في القضايا الخلافية، مع اعتبار الدليل وعدم الشذوذ، لأن التعصب والتقليد والجمود من الأسباب التي من شأنها أن تحصر الناس في أحكام وفتاوى قد لا تتناسب مع روح الشريعة ومقاصدها من جهة، ولا تستجيب لمتطلبات الواقع واحتياجاته من جهة أخرى، وبالتالي يدخل الناس في دائرة الحرج.

أما بخصوص دعوتنا إلى اجتهاد مؤسسي جماعي، فأعتقد أن هذا شرط واقعي اليوم، بسبب تعدد التخصصات وتعقد مجالات الحياة وتشابك العلاقات. فالاجتهاد الفردي أو المطلق في هذا العصر بات مستحيلا، والضرورة اليوم تقتضي التغاضي عنه إلى اجتهاد جماعي، من خلال عمل مؤسسي يعنى أولا ببناء العقل الجماعي وإقامة مؤسسات ومراكز البحوث والدراسات والمعلومات، تكون موازية للمجامع الفقهية. وفي هذا السياق أود أن أؤكد على أن الجماعية في الاجتهاد لا يقصد بها أن تكون بديلا عن شروط الاجتهاد في من يقوم به، والدعوة إلى الاجتهاد الجماعي لا تعني أن يصبح الاجتهاد والترجيح في الشرع مطية للأهواء، مشاعا بين الناس، بل لابد من حصره في أهله وخاصته المتوفرين على شروطه وأدواته المتحققين من آلياته.

ولخصوصية قضايا الأسرة وتشابك التخصصات بشأنها، فإن مقاربة كل قضية أو مشكل قد يلزم استدعاء آراء خبراء في الطب والقانون والتربية وعلم النفس والاجتماع والاقتصاد وغيرها من المجالات، يمكن أن يستفيد “مجلس الاجتهاد الجماعي” من خبراتهم وآرائهم، فتتكامل الخبرات العلمية مع العلم بالنصوص والنظر المقاصدي والتخصص الفقهي، فيسهل على الفقهاء المجتهدين فهم القضايا بشكل دقيق واستنباط الحكم الشرعي المناسب.

ولا يفوتني في هذه النقطة التنبيه إلى أن الاجتهاد بكل أشكاله لن يستطيع تأدية أدواره في غياب بيئة إيمانية إحسانية، يحكمها العدل والشورى، ويتمتع فيها المجتهد بحرية الرأي والقول في إطار مؤسسات مستقلة.

ختاما، ما المنهج الأمثل الذي تقترحونه على الشعب المغربي والقوى المغربية لورش إصلاح مدونة الأسرة، يمكّن من تجاوز الإشكالات الحقيقية التي تعترض الأسرة باعتبارها نواة المجتمع الأساسية؟

دعونا نتفق ختاما، أننا لا نختلف حول تشخيص واقع الأسرة المغربية وما تعانيه من أزمات على مختلف المستويات، وهذا ظاهر للعيان، على الرغم من أن الدولة لم تقدم معطيات وإحصاءات عن تقييمها ل20 سنة من العمل بمدونة 2003، ونعترف بأن لا أحد وحده يملك الحلول القطعية والتفصيلية لتجاوز هذه الأزمات، وبالتالي فالوضع يتطلب تظافر كل الجهود ومن مختلف التخصصات الدينية والتربوية والحقوقية والمدنية والفكرية والسياسية والتنموية والقانونية لتحسين هذه الوضعية، لكن هذا الاتفاق على التشخيص لا يعني الاتفاق على طرق العلاج والاتفاق على مقاربات الإصلاح، ومع ذلك نرى أنه بإمكاننا الاتفاق على منطلقات، لعل أولها: توفير بيئة حرة ومناسبة للحوار بعيدا عن المزايدات السياسية والاستقطاب الإيديولوجي والإثارة الإعلامية المجانية. ثانيها: إقرار الجميع بأن الشريعة الإسلامية حاكمة ومهيمنة في مجتمع مغربي مسلم، والمقصود هنا أحكام الشريعة لا الموروث الفقهي. ثالثها: استحضار المصلحة المعتبرة بتحقيق عدالة اجتماعية وقسمة عادلة للثروات بين المغاربة وتشريع ما يحفظ كرامتهم. رابعها: المقاصد الكلية موجِّهة لكل اجتهاد، لا الاتباع الحرفي المذهبي الجامد الموروث. ثم خامسا: حرية التعبير شرط أساسي، فلا معنى للإقصاء والإملاء وتحكم السلطات في ملف التعديل دعوة واقتراحا ومراقبة وتقريرا ومصادقة، فلا مكان للإبداع في غياب الحرية، ومن لا يملك الحرية لا يملك حرية الاجتهاد ولا حرية التحفظ والاعتراض. وأخيرا نعتبر أن استقلالية الإرادة والفعل هما الضمان لنجاح أوراش الإصلاح في بلدنا بينما التبعية والاستلاب للأصولية الحداثية أو للوصفات الجاهزة المستوردة والخضوع للنموذج الغربي الغالب فعائق لكل إصلاح. وإن كان يحق لنا من سؤال مشروع فهو هل يمكن للأطراف المشاركة رسميا الآن الاجتهاد بعيدا عن إرادة الجهات المانحة والراعية والحامية؟ وهل تستطيع تحمل نتائج تطبيق هذه التعديلات؟