ذة. بلغازي: حملة “جاري قبل داري” هدفها إحياء العلاقات الاجتماعية وتمتينها وجبر ما انكسر منها (حوار)

Cover Image for ذة. بلغازي: حملة “جاري قبل داري” هدفها إحياء العلاقات الاجتماعية وتمتينها وجبر ما انكسر منها (حوار)
نشر بتاريخ

في سياق حملة “جاري قبل داري” التي تنظمها نساء العدل والإحسان، أجرت بوابة العدل والإحسان حوارا مع الأستاذة ندية بلغازي عضو الهيئة العامة للعمل النسائي للجماعة، تطرق إلى الحملة وسياقها وأهدافها، ومقاصد ديننا الحنيف وفلسفته في تنظيم هذه العلاقة.

كما عرج الحوار مع الباحثة في الفكر الإسلامي على واقع العلاقات بين الجيران وكيفية تمتينها والنهوض بها، والمكاسب التي يمكن أن يجنيها المجتمع من ذلك… وغيرها من القضايا المرتبطة بالجيرة.

فيما يلي نصه:

أطلقتم، أنتن نساء العدل والإحسان، حملة مرتبطة بحسن الجوار، ما هو سياق هذه الحملة ولماذا الآن؟

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على النبي المصطفى الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين

تحت أنوار قول الله تعالى في سورة النساء: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، أطلقت نساء العدل والإحسان، حملة “جاري قبل داري”، في هذا الشهر الأغر من السنة، شهر رمضان؛ شهر الله تعالى حيث القلوب متجهة إلى الله سبحانه، متبتلة في محاريب العبودية له، راغبة في القرب منه، مستعدة لطرق كل الأبواب الموصلة إليه. ولعل إحياء علاقات حسن الجوار من أبوابها المترعة لِغَرف المزيد من الإيمان؛ فقد نفى ديننا الحنيف كمال الإيمان لمن لا يتورع عن إلحاق الضرر بجيرانه، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: “والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه”.

وللتذكير، فقد حمّلت نساء العدل والإحسان أنفسهن أمانة إحياء العلاقات الاجتماعية والإسهام مع باقي مكونات المجتمع المدني في تمتينها وجبر ما انكسر منها، ومن ثمة فإن هذه الحملة كانت مسبوقة بحملات اجتماعية أخرى منها “أسرتي جنتي” و“صل رحمك”.

‏ما هي الدوافع التي حملتكم إلى اختيار هذا الموضوع؟

لعل من أبرز البواعث التي جعلتنا نختار الموضوع ما نراه على أرض الواقع من توتر في بعض علاقات الجوار التي تسيء إلى الصورة التي اعتادها المجتمع المغربي المحافظ على العلاقات الاجتماعية الجيدة، حتى إنه يجعل الأولوية في مؤشرات اختيار المنزل الجيد الجوار الطيب الرحيم المراعي لضوابط حسن الجوار كما وردت مبثوثة في تعاليم ديننا الحنيف.

من الدوافع كذلك لهذا الاختيار، الرغبة في إعادة الاعتبار إلى العلاقة مع الجيران والسمو بها إلى المعالم الإيمانية والأخلاقية المؤطرة لها، كونها من دلائل التحضر، وبراهين سمو الأخلاق ومؤسِّسات قوة المجتمع وتلاحمه وتراصه. كذلك الحرص على التحسيس من جهتنا بأهمية إحياء المعاني الراقية لحسن الجوار التي كاد يغيب بريقها مع وتيرة الحياة اليومية المتسارعة التي لم تعد تبقي ولا تذر من فرص التواصل الإيجابي مع الجيران، وكذا البحث عن السبل القمينة بتوجيه الأسر إلى تمتين العلاقة بين الجيران وتقوية وظيفة الحي الاجتماعية.

أوصى ديننا الحنيف بالجار ووضع له حقوقا حتى كاد أن يورثه كما جاء في الحديث. ما فلسفة الإسلام في علاقات الجوار؟ وما القيم والأحكام الرئيسة التي جاء بها؟

كأن بديننا الحنيف قد أعظم شأن الجار حتى كاد يجعله بمنزلة القريب الذي يرث. في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: “ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُورِّثه”، مما يوحي برفعة المنزلة وسامق الدرجة التي رفع الإسلام الجار إليها.

وقد تضافرت النصوص التي تؤكد هذا التكريم الإلهي للجار، فتارة يجعل من مرتكزات قوة الإيمان وصحة المعتقد الإحسان إلى الجار وعدم إذايته بالقول أو الفعل، كما عند البخاري رحمة الله عليه: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره”، وتارة ينفي كمال الإيمان عن الذي لا يأمن جاره غوائله وأذاه كما تقدم، وتارة أخرى يعتبر من سمو الأخلاق الهدية له تحببا ولو بما ليس مضنة الانتفاع به مثل حافر الشاة، ففي الصحيح نداء نبوي كريم للمسلمات يفتح النفوس للبذل ولو من اليسير، ويرفع حرج السخرية ومذلة الاستهزاء: “يا نساء المسلمات، لا تحقرنّ جارة لجارتها ولو فِرْسِن شاة”، وفي رواية صحيحة أخرى للبخاري في الأدب المفرد وغيره: “يا نساء المؤمنات، لا تحقرن امرأة منكن لجارتها، ولو كُراع شاةٍ مُحرَّق”.

وهكذا تتوالى التوجيهات الشريفة لتوجه بوصلة العلاقات الاجتماعية نحو الإحسان والتكافل والمواساة، ومن ذلك تمثيلا لا حصرا قول الحبيب صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الطبراني في الكبير عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما آمن بي من بات شبعانَ وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم به”؛ نفي كمال الإيمان عمن غلبه الشح فتهاوت مروءته حين غُلَّت يده عن الإنفاق على جاره المحتاج، بل وغير المحتاج من باب نثر عبق المودة وتمتين أواصر المحبة، فعن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: “قلت: يا رسول الله، إن لي جارَين فإلى أيهما أُهدي؟ قال: إلى أقربهما منك بابًا”.

وجعله النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالسقب، كما أخرج الإمام أحمد رضي الله عنه: “الجارُ أحقُّ بسَقَبِهِ ما كانَ”، فضمن له بذلك حق الشفعة بحق الجوار حتى لا يجاوره من لا يرضاه فيلحق به الأذى: فمما أخرج اين ماجة والطبراني رضي الله عنهما، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من كان له أرضٌ فأراد بيعها، فلْيَعْرضها على جاره”.

بل واعتبر الإسلام الإساءة إليه أعظم وزرا من الإساءة إلى من سواه، سأل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن أي الذنب عند الله أكبر؟ قال: “أن تجعل لله نِدا وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك” لأن الجار أولى الناس ذبّا عن حرمات جاره وعرضه.

لعل ما سبق غيض من فيض الشواهد الدالة عمليا إلى كيف يحسن الجوار.

لماذا هذا الشعار “جاري قبل داري”؟ وما هي الأبعاد التي يحملها؟

ورد في الأثر: “الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق”، توجيها لحسن اختيار الجار قبل الدار، لأن الجار الصالح لا ثمن له، كما أن الجار السوء يهدم الاستقرار، ويفسد العيش بسوء الجوار، وقد أورد الأبشيهي في “المستطرف”: “إن أبغضك جَارُك حَوِّلْ بَاب دَارك”، فهذا أولى من الإساءة إلى علاقة الجوار المقدسة في نظر من قالها، وإلا فإن الصبر والمداراة ومقابلة الإساءة بالإحسان أولى وأجدر.

مقصودنا من الشعار يتجاوز حسن اختيار الجار قبل الدار، ليعانق ذرى الإحسان في معاملته وإيثاره بالعطاء المادي والمعنوي لأن ذلك من شعب الإيمان.

نستشف من حديثكم أن هناك نماذج لممارسات غير سوية في العلاقات بين أفراد المجتمع ومنها علاقات الجيرة والجوار. ما هي أسباب هذه الاختلالات؟ وكيف بدأت تنتشر في المجتمع؟

الأصل أن الإنسان اجتماعي بطبعه يلبي احتياجاته المتعددة من علاقاته المتنوعة ومنها صلته مع جيرانه، إلا أن تسارع وتيرة العيش، والانشغال بمطالب الكدح اليومي لتحصيل ضروريات الحياة، وزحف العولمة، والتأثير السلبي لوسائل الإعلام من حيث تنميط نموذج الجار وحصره في الغالب الأعم في صورة مشينة تسيء إلى قدسية الصلة أو اعتبار التواصل معه إضاعة وقت وجهد، أو من خلال استعاضة فئات بالعالم الافتراضي عن إبرام علاقات اجتماعية حقيقية، مع انحسار القيم التي لطالما سيجت علاقات الجوار بسياج الاحترام المتبادل ومراعاة الحقوق والسعي في الخدمة. كل ذلك وغيره أساء إلى علاقة الجوار، فنضب الحوار وضعف السند، وبرزت اختلالات متعددة في العلاقة منها كشف الأسرار وهتك الأستار ونقل الأخبار، وتتبع العورات والتباهي بمستوى العيش، والتطاول في البنيان، والإساءة إلى أولاد الجيران، مع ما يرافق ذلك من عدم احترام العورات الثلاث في الزيارة، وإحداث الضجيج في أوقات الراحة، وما إلى ذلك من الإشكالات المنافية للطبع الحميد والخلق النبيل.

انقلبت الموازين في الكثير من الأحايين، وصار الأصل فرعا والفرع قفرا والحول لله أولا وآخرا.

‏بصرف النظر عما ذكرتم مما هو مرتبط بالمنظومة الاجتماعية، هل لما له أبعاد نفسية سلوكية أثر في هذه ‏العلاقات؟

الأصل في علاقة الجوار أنها علاقة منفتحة تبادلية تتأسس على قيم الإحسان والتحاب والتآخي والتكافل، وتتجاوز أداء الحقوق المادية الصرفة وتلبية الاحتياجات عند العوز وأداء الخدمات إلى المشاركة الوجدانية في الأتراح والأفراح وتقاسم الهموم وتخفيف الأحمال، لكن غياب الإحسان في الجوار، يفتحها على حلبة التنابز والتشاجر والتحاسد وأضف إلى ذلك ما تشاء من قواميس الخسة والخذلان، مما يسيء إلى علاقة الجوار، وينعدم معها الاستقرار وراحة الديار.‏

‏مع المعطيات التي ذكرتم، ونحن مثلا نرى نماذج لجيران يقطنون عمارة لسنوات ولا يتعارفون بله أن يتزاوروا ويطمئن بعضهم على أحوال بعض. في ظل هذا الوضع هل من أمل في الرقي ‏بالعلاقات إلى ما تبتغيه الحملة؟

هذه الصورة المخلة بضوابط حسن الجوار من المظاهر التي تكاد تكون حاضرة وبتفاوت في بعض الأوساط الاجتماعية، وليست عامة، لأن بمقابلها، نجد علاقات منفتحة على كل فضل.

غاية الحملة إذابة الجليد المتراكم الذي يسيء إلى صفاء العلاقة، فيعيد وهجها ويحيي بريقها ويلقي بالدفء على أواصرها المنسية في أركان اللامبالاة والإهمال أو الانشغالات الحاجبة، غايتها أن نشترك جميعا، رجالا ونساء، صغارا وكبارا، شيبا وشبابا، في المبادرة إلى مد اليد لعقد المصالحة وإحياء السنة، غايتها الرجوع بعلاقة الجوار إلى المعالم الإيمانية والأخلاقية بالفعال قبل الأقوال، وبالحال قبل المقال، غايتها بث الوعي وإرسال نداء استغاثة قوي من أجل تشييد صرح علاقات متماسكة على قاعدة الوئام والمحبة والتناغم والتعاون. دعاؤنا الملح أن تجد الآذان الصاغية والقلوب الصافية الراغبة في الاستجابة.

‏من الجانب النظري الشرعي والقيمي يبدو الأمر واضحا وسهلا، لكن ما السبيل إلى ذلك عمليا؟

ليس الشرع أحكاما وقوانين جافة ترددها ألسنتنا وتستوعبها عقولنا وكفى، بل هي إطار نحتكم إليه عمليا لنحيا في دنيانا وفق مراد الله تعالى منا، ومن ثمة فإن حسن الجوار ليس مجرد وصية تركها الإسلام، بل فلسفة ينبغي أن نستحضرها في تفاصيل حياتنا اليومية، غايتنا في ذلك إرضاء ربنا ابتداء بأداء الحقوق ومراعاة الحدود، وابتغاء الزلفى لديه سبحانه، والتشوف إلى مقامات الإحسان الذي أمرنا به في كل شيء، قدوتنا في ذلك السنة العملية لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان قرآنا يمشي على الأرض، وأنموذجا تطبيقيا لكل أحكامه، والذي كان يحسن الجوار؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم محاطا في العهد المكي بجيران سوء من أمثال عمه أبي لهب وامرأته حمالة الحطب التي كانت تتفنن في سبل الإساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وضع القاذورات والشوك في طريقه عليه السلام، وكذا جار السوء عقبة بن أبي مُعَيط الذي كان كثير السخرية من رسول الله صلى الله عليه وسلم والتكذيب له وإلحاق الأذى المادي به من خلال محاولته خنقه عليه السلام، وبإلقاء سلا الجزور على ظهره، وبُزاقه في وجهه الشريف إرضاء لصاحبه الضال أمية بن خلف، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم محاطا كذلك في العهدين المكي والمدني بجبران فضل وخير من أمثال أبي بكر الصديق وابن عباس وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهم جميعا.

يقول المثال الفرنسي: “بحركة منك، تصير المدينة نظيفة”، وأقول قياسا بنية صادقة وهمة عالية وعمل صالح تؤسس لمجتمعات العمران الأخوي، فتنبعث الأنفس الطامعة فيما عند الله لتكون عنصر بناء في صرحها من خلال تحسين العلاقات ونشر الأمن والأمان والحب والثقة والتواد والتكافل…

فالهدية باب لفتح القلوب، والتفقد والعيادة والزيارة والكلمة الطيبة والبِشْر وحسن المعاملة والمساعدة والمواساة وكف الأذى بل وتحمله إن صدر من الجار، مُؤَسِّسات لعلاقة رحيمة سوية، تشعر الطرف الآخر بالأمان والدعم والمساندة.

‏هل للمؤسسات الاجتماعية باختلاف هياكلها ووظائفها واهتماماتها وامتداداتها أثر ما في ترسيخ العلاقات السوية بين الجيران؟ كيف يمكن توظيفها ‏في ذلك؟

من المهم جدا ألا يكون دور المؤسسات الاجتماعية مقتصرا على نقل الثقافة والعادات، وتلبية الاحتياجات، وتوجيه السلوكيات، على أهمية هذه الوظائف، بل يجب، في تقديري، أن تتحول، وبتضافر جهود مكوناتها، إلى فاعل رئيس في حراسة القيم ونشرها، ومنها قيمة حسن الجوار، خاصة مع تعاظم مد العولمة بقيمه المنمطة الطامعة في سلب أصالة المجتمعات المسلمة. لا بد من أن تشكل سدا منيعا في وجه الاستلاب الأخلاقي والاندحار القيمي الذي تروج له التيارات الوافدة تحت شعار الانفتاح والتحرر، لابد من أن تسير في اتجاه خدمة المجتمع بكليته وحماية أواصره من الانفلات في إطار بُعد تأسيسي تنموي يضمن تفوقه الأخلاقي جنبا إلى جنب تفوقه الاجتماعي الاقتصادي والسياسي، مصدره في ذلك الوحي المنزَّل، والعادة المحكَّمة التي تتوافق مع الدين ولا تناقضه، والمشترك الإنساني الذي لا يتضاد مع الجبلّة الأولى التي فطر الله تعالى الناس عليها.

فالأسرة مثلا، باعتبارها أول مؤسسة للتنشئة الاجتماعية تربي على البر وحسن الصلة والإحسان إلى الجار بالنموذج العملي والقدوة الحسنة، وتتدخل المؤسسة الدينية لترسخ هذه المعاني واعتبارها دليلا على الدين ومؤشرا على كماله، وليجد المرء نفسه أمام مؤسسة إعلامية تشجع من خلال إنتاجاتها وموادها على واجب حسن الجوار بالقصة الهادفة والمنتوج الراقي والدراما البانية، ولتتدخل السياسة في تنظيم العلاقات بسياج تنظيمي مهيب يحترم حرية الفرد ويضمن حقه في العيش الكريم والتعايش والتكافل.  

ماذا عن سبل غرس قيمة العناية بالجار في الناشئة من داخل الأسرة؟

إذا كانت نظرية التعلم الاجتماعي كما ركز عليها “ألبرت باندورا”؛ وهو بالمناسبة عالم نفسي أمريكي، تقوم على أن السلوك يتأثر بمجموع التفاعلات الاجتماعية، ويتعلم بطريق الملاحظة والتعلم من الآخر والمحاكاة، فإن البيئة الأسرية المستقيمة المتشبعة بالقيم لها دورها البارز في التربية على المروءات والتحفيز على توطيد روابط الخير وأواصر المحبة مع الجيران ومع من سواهم، من خلال:

·      التربية على السلوك الإيجابي.

·      بذل المثال الحي من النفس.

·      التحفيز منذ الصبا على الإحسان والتعظيم والتكريم بالمكافأة المادية والمعنوية.

·      الإشراك في أعمال البر والصلة تحضيرا وتبليغا.

·      معالجة الاختلالات والانحرافات السلوكية في حينها.

مع ضرورة تعليم أولادنا أن الإحسان إلى الجار ليس مجرد إتيكيت تمليه علاقة الجوار، بقدر ما هو دين من الدين، ومؤشر على قوة الإيمان وسلامة الاعتقاد وكماله، وباب من أبواب الدخول على الله تعالى، وسنة نبوية ينبغي أن تقوم وتدوم مع الجيران، كل الجيران على اختلاف مستوياتهم ومعتقداتهم.

‏هذه العلاقات بين الأفراد وخاصة الجيران كما تحدثتم، بماذا ستفيد المجتمع في النهاية؟ هل لذلك آثار اجتماعية ‏مثلا أو اقتصادية أو سياسية؟

من المؤكد أن بنية المجتمع تتأثر سلبا وإيجابا بحسب قوة أفراده والمؤسسات المكونة لنسيجه، فحسن الجوار يقوي لحمة المجتمع، ويسمو بالأواصر إلى معالي التآزر والتكافل والتآخي والتواد، فتزول الضغائن والإِحَن بين الناس، وتعم الأخوة الإيمانية والثقة المتبادلة، كما ترسي العدالة الاجتماعية من خلال روح التراحم السارية بينهم، فلا يشبع المرء وجاره جائع، ولا يكسو وجاره عريان، ولا يفرح عند قرحه، ويتعاهده بالعطاء، ويحمي عرضه، ويستر عيبه، ويكتم سره، ما يؤسس لمجتمع العمران الأخوي القائم على أسس التآخي والتكافل والتراحم والتحاب والعدل مما يسهم في إرساء الأمن الاجتماعي وبناء حضاري متين لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

‏هل من نماذج للعلاقات التي يبرز فيها حسن الجوار في تاريخنا أو ثقافات وأعراف اجتماعية راسخة، يمكن أن تكون نبراسا نستلهم منها ونستمد منها ‏هذه الإرادة وهذه الروح؟

صفحات تاريخنا مليئة بنماذج قمينة بالاتباع، ولم يكن الأمر حكرا على القرن الأول الذي تشرب رحيق التربية النبوية في كمال الخلق وجميل السجايا حتى أضحى نموذجا للاقتداء برجالاته ونسائه، بل سرى نهرا ترارا على مدى القرون التالية قد ينحسر حينا ليتدفق أحيانا وما كان عطاء الله مجذوذا، وعلى سبيل المثال لا الحصر، هذه ذات النطاقين أسماء رضي الله عنها تقول: “لم أكُنْ أُحسِن أخبِز، وكان يخبِز لي جاراتٌ من الأنصار، وكُنَّ نِسوةَ صِدق”؛ وصف يليق بمن أحسن الجوار وصان العشرة.

وهذا عبد اللهِ بن عَمرو، يقول لغلامه الذي يَسلُخُ شاة: “يا غلامُ، إذا فرَغْتَ فابدأ بجارِنا اليهوديِّ”، ما يدل أن وشيجة حسن الجوار لا تستثني الجار غير المسلم، بل تضمن له حق الجوار، في الوقت الذي تضمن لمثيله المسلم حق الجوار والدين، ولمثيلهما القريب والمسلم حق القرابة والجوار والمعتقد.

وقال محمد بن علي بن الحسن: “أراد جار لأبي حمزة السكري أن يبيع داره، فقيل له: بكم؟ قال: بألفين ثمن الدار، وألفين جوار أبي حمزة، فبلغ ذلك أبا حمزة، فوجه إليه بأربعة آلاف، وقال: خذ هذه ولا تبع دارك”؛ جار صالح أغلى ثمن الدار وحفظ عهد الجوار.

وقال سفيان بن عيينة: “كان ابن عياش المنتوف يقع في عمر بن ذر ويشتمه، فلقيه عمر بن ذر، فقال: يا هذا لا تُفْرط في شتمنا، وأبق للصلح موضعا؛ فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه” سمو في حفظ الجوار ولو مع المسرف في الإساءة.

ما أحوج مجتمعاتنا إلى العض أفرادا وجماعات بالنواجد على حسن الجوار، إذا لَعَمّ السلم الاجتماعي والسلام الريوع، ولما بقيت غزة العزة من باب المثال الفاضح الواضح الواقعي، تعيش أطوار الإبادة الجماعية والتجويع المقصود والتقتيل وليس بينها وبين محيطها سوى حدود موهومة ومعابر مرسومة، وإلى الله المشتكى. والحمد لله رب العالمين.