“ذاك يوم وُلِدت فيه” هدية مزجاة بين يدي المصطفى العدنان صلى الله عليه وسلم

Cover Image for “ذاك يوم وُلِدت فيه” هدية مزجاة بين يدي المصطفى العدنان صلى الله عليه وسلم
نشر بتاريخ

بين الأمس واليوم

أَيّ مجد اندحر؟ وأي نور انطفأ؟
أهو وجودُنا من العدم؟ أم انطمارنا تحت الزمن؟ أهي الذاتُ الممزقة المستعبدة المستهلكة؟ أم هو واقع الخنوع والذّل والقهر؟
كيف انكبّت أفئدتُنا على قارعة الطريق؟ كيف تسَفّهت أحلامنا؟ وضاعت شمسنا بين الكواكب تَغْمُرُها وتُحاول نهْبَ أنوارها المستفيضة؟ كيف أصبحنا شبحا مخيفا يُرَوّعُ أصحاب ليل مُقْفِر؟ كيف أصبحنا دابّة هائمة سائمة ترتعُ في سفوح الانهزام والاستسلام؟
وصِرنا هَمَلا؛ لا وزن ولا قيمة ولا وِجدان..
كيف؟
وكيف؟

أُمّتي أمتي

“أُمّتي أمتي”.. هو النداء وهو الدعاء؛ لصاحِب الفضل والشفاعة والبرهان؛ نبينا المصطفى العدنان؛ محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام..
بعثه الحق سبحانه؛ ليُخْرجنا من ظلمات أنفسنا وجهالة واقعنا إلى النور والسّعة والضياء والرّفْعة والسّنا..

وُلد في يوم أَغَرّ أَبْلج؛ قد زيّنَته قَبْلا بشائرُ تُخبر بِدُنوّ بِعثته..
             وتوالت بُشرى الهواتِفِ أنْ قد         وُلد المصطفى وحقّ الهناءُ
             وتداعى ديوان كسرى ولو لا          آية منك ما تداعى البناءُ
             وغَدَا كل بيت نارٍ وفيه                  كُرْبة من خُمودها وبلاء
             وعُيونٌ لِلْفُرس غارت فهل كان        لنيرانهم بها إطفاء
             مولِدٌ كان منه في طالِعِ                الكفر وبالٌ عليهم ووباءُ¹

ولما بعثه الله عز وجل؛ كان ما كان من أمْر الناس؛ فمُصَدّق نجا وفاز؛ ومُكذب انْخذل وخاب..
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” مَثَلي كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جَعل الفَراش وهذه الدواب التي من النار يَقَعْن فيها؛ وجعل يحْجِزُهُن ويَغْلِبنه فيقتحِمْن فيها. قال:فذلكم مثلي ومثلكم؛ أنا آخُذ بِحَجُزِكم² عن النار: هَلُمّ عن النار! هلم عن النار! فتغْلِبوني تَقْحمون فيها” رواه الإمام مسلم رحمه الله.
فهذا حالنا وشأننا في كل مصر من الأمصار وعصر من العصور..ما تَخَلّفْنا عن الركب الجليل إلا فَتَكتْ بنا ذِئاب الطريق؛ وما حثثنا الخُطى نحوه صلى الله عليه وسلم؛ نستعصِم ونتمسّكُ إلا نجونا وربحنا.
            سطا عليك الهوى يا نفس فابتدِري        رُجْعى إلى الله في تصميم مُقتحِمِ
            لوذي بذيلِ أمين الوحي سيدنا              محمد خير الخلق كلهم
            واستمسكي بكتاب الله علّمَه               ربّ البرية للمحبوب بالقلم
            واستعصمي بمتين الهدي سنته           وما تبين من معنى ومن كَلِمِ³.

واليوم؛ في هذا العصر الذي يُحتفى فيه بالأنا؛ والذي تتمرّدُ فيه الأهواء ضاربة عرض الحائط كل القيم والأخلاق؛ والذي تَتخِذ فيه الشهوات مَطالِع البدر مراصدا للكبْرِ والعُجْب والرياءِ والنفاق..
والذي طُرِدت فيه كل ذِلّة ومَسْكنة ومرحمة لمن سلبتهم الفاقة معناهم؛ واستلت أرواحهم شياطين الإنس والجن؛ فَغَدوا غُثاءا؛ زبدا رابيا؛ لا يَلوُون على شيء؛ وكأن على رؤوسهم الطير.
في هذا العصر الذي غرق فيه من غرق في حمْأَةِ الدنيا.. فُهم ما بين مُتَطلّع لِسَنا المجد والثروات والنزوات. وبين مُنكفِئٍ؛ مُنحسِر الرأس؛ كفيف النعمة؛ عاري الفكرة؛ سقيم البال والبدن..
كلٌّ فيما “أُتْرِف” لاهٍ..
لا بُد من ملجأ.. لا بد من منقذ. ومن غيره صلى الله عليه وسلم يُعيد إخْراجنا من الظلمات إلى النور.
من العدم إلى الوجود.
من البؤس واليأس والعجز إلى الفرح والحبور.
من القِلة والاسترقاق والتألّه والاستكبار إلى العِلْيَةِ والرّفْعة والذّلة والانكسار.
من الشتات والضياع إلى الانجماع والاتحاد والالتئام.
من الضيق إلى السّعة.
ومن الشدة إلى الرحمة…

يا أيها الناس إنما أنا رحمة مُهداة

“يا أيها الناس إنما أنا رحمة مُهداة” 4
نحتفل بمولده الشريف ونهتبِل.. عَلّه باحتفائنا واحتفالنا وفرحنا به صلى الله عليه وسلم؛ ينبعث في قلوبنا يُنيرُها، وفي نُفوسنا يُزَكيها ويُهَذبها. يقول المولى عز وجل : لقد من الله على المومنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين5

                فإن فضل رسول الله ليس له        حدّ فَيُعْرِب عنه ناطق بِفَمِ
                لو ناسَبَت قدْرَه آياته عِظما           أحيا اسمه حين يـدعى دارِس الرّمَمِ.6

نعلمُ ما يكون من أمر الحب فينا؛ وما يحركه من مشاعر آسِنة راكدة؛ وما يُحدِثُه من استقامة وصفاءٍ ونشاط.. ولنا في أهل الحب سمات وصفات؛ دَوّى صيتُها أرجاء كل زمان ومكان..
                ديمةُ الحب إن سقت جنب أرض       كان منها لموتها إحياءُ.7

“وإذا كان المرء يحب غيره على ما فيه من صور جميلة وسيرة حميدة. فكيف بهذا النبي الكريم والرسول العظيم الجامع لمحاسن الأخلاق والتكريم؛ المانِحِ لنا جوامع المكارم والفضل العميم” 8

ففي الذات المحمدية؛ ما يُحيي ميّت القلب؛ مُنْطَفِئ الوجدان..
فذاك سيدنا عمر رضي الله عنه كيف حوَّله حب المصطفى صلى الله عليه وسلم من جبّار إلى فاروقٍ حِلما وعدلا..
روى البخاري عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخِذٌ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يارسول الله! لأنتَ أحبّ إليّ من كل شيء إلا نفسي!
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ”لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك!“ فقال عمر: فإنه الآن والله لأنت أحبّ إليّ من نفسي! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ”الآن ياعمر!“
.

الآن.. نحن في موعد مع “ذاك يومٌ وُلدت فيه“ شرفٌ في الزمان والمكان إلى يوم الدين.. لا يَمُرَّنّ علينا مرور التائهين بَعْدُ. نمُدّ أبصارنا وأسماعنا وأفئدتنا وأيدينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. لا ننفَكّ نتطلّع إلى مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم “إنما بُعِثت لأُتَمم مكارم الأخلاق” 9.. وإلى صفاته الجليلة المهيبة..
           فهو الذي تَمّ معناه وصورته           ثُم اصطفاه حبيبا بارئ النّسَمِ
          مُنَزّهٌ عن شريك في محاسِنِه        فَجَوْهر الحُسْن فيه غيْرُ مُنْقَسِمِ.10

وإلى استحضار عُلُوّ مكانته؛ وشرف خلْقِه. روى الترمذي رحمه الله عن أبي سعد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنا سيد ولد آدم يوم القيامةولا فخر؛ وبيدي لِواء الحمد ولا فخر؛ وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشقّ عنه الأرض ولا فخر”.

لا نحتار بعد الآن ولا ننزلِقُ في النسيان ولا نترك سنة العدنان تنفلِتُ من قوبِنا الجريحة.. ففيها الشفاء وفيها الدواء.
            كم أبرأَتْ وَصَباً باللّمس راحتُه             وأطلقت أَرِباً من رِبْقَة اللّمَمِ.11

           أَلَسْت دليل الرّكْبِ إن هم تحيّروا         ومُنقِذ من أشفى على جُرُف هارٍ؟ 12
           فصَل إلهي ثم سلم على الذي           بحبّي أصبحت للدّونِ قالِيا13

 

 

 

—————————————————————————————————–
المراجع:

1- الأبيات: 14-15-16-17-18 من قصيدة “الهمزية في مدح خير البرية” للإمام البوصيري رحمه الله.
2- الحَجُز: مفردها حَجُزة؛ وهي موضِعُ شَدّ الإزار من الوسط.
3- القطف الأول من ديوان “قطوف1” للأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله.
4- ..وعن أبي صالح رحمه الله قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يناديهم: “يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة”. رواه الحاكم رحمه الله وصححه، ووافقه الذهبي؛ ورواه ابن سعيد والدارمي عن طريق الأعمش عن أبي صالح مرسلا وسنده صحيح.
5- سورة: آل عمران، الآية: 164.
6- البيتان: 46-47 من قصيدة “البردة” للإمام البوصيري رحمه الله.
7- القطف الثاني من ديوان “قطوف1”
8- “المواهب اللدنية بالمنح المحمدية” للإمام شهاب الدين القسطلاني(851/923هجرية) المجلد الثاني، ص: 478.
9- رواه الإمام البخاري.
10- البيتان: 43-44 من قصيدة”البردة”.
11- البيت 89 من قصيدة “البردة”
-وصبا: وصِبَ الشخص: مرض وألِمَ وتوَجع.
-أَرِباً: الأربُ ؛صاحب الحاجة.
-ربقة: الحبل الموثوق.
-اللمم: الجنون.
12- من كتاب “الإحسان”ج1 ص 175 للأستاذ عبد السلام ياسين.
13- القطف 459 من ديوان “قطوف 6”.
-الدون: الأمور الدنيئة مثل حب الدنيا.
-قاليا: كارها.