د. عيساوي: الإمام المجدد عبد السلام ياسين شخص متميز في زمان عاثرٍ

Cover Image for د. عيساوي: الإمام المجدد عبد السلام ياسين شخص متميز في زمان عاثرٍ
نشر بتاريخ

في سياق إحياء الذكرى الخامسة لرحيل الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله، يقدم موقع الجماعة نت سلسلة من الحوارات مع ثلة من الكتاب الذين أصدروا مؤلفات تدور موضوعاتها حول الإمام المجدد رحمه الله أو بعض قضايا المشروع التغييري.

في هذه الحلقة يحاور الموقع الدكتور أحمد محمود عيساوي، أستاذ الدعوة والفكر الإسلامي المعاصر بكلية العلوم الإسلامية جامعة باتنة 1 الجزائر، وعضو عامل في رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وصاحب كتاب “مركزية الإنسان والوحدة الإسلامية عند عبد السلام ياسين”، الذي يقع في 149 صفحة، موزعة على فصلين؛ الأول حول وحدة الجماعة المسلمة عند الإمام المرشد المجدد، والثاني حول مركزية الإنسان في المشروع التغييري في نظرية المنهاج النبوي.

ويعرف الدكتور عيساوي كتابه أنه “رؤية حول فكر الإمام المجدد عبد السلام ياسين من خلال فهمي وعرضي لجزئيتين من نظريته في التغيير (الوحدة الإسلامية، الإنسان) ومن خلال قراءتي لسبعة من كتبه فقط، وهي (العدل، الإحسان ج 1 و ج2، المنهاج النبوي، جماعة المسلمين ورابطتها، الخلافة والملك، إمامة الأمة، عبد السلام ياسين الإمام المجدد لمحمد العربي أبو حزم)”.

فيما يلي نص الحوار:

بداية دكتور عيساوي ما الذي دفعك لاختيار موضوع الكتاب حول فكر الإمام عبد السلام ياسين؟

في البداية يعلم الله أن الحقيقة التي دفعتني لحراثة مشروع الشيخ الإمام المجدد عبد السلام ياسين تعود إلى دافعين، أحدهما يرتبط بمساري المعرفي والعلمي والتربوي البحت، وثانيهما الحركي التغييري الوجداني السلوكي الأصيل والمتجذر في أعماق نفسي وتربيتي وسلوكي منذ أن خارَ الله لي أن أنضم إلى الجلوس إلى حلقات وركاب وركب العلماء أينما وجدوا وتواجدوا، فقد شاء الله لي أن أنشأ – منذ طفولتي المبكرة وحينما كنت تلميذا في نهاية المرحلة الابتدائية ثم في المرحلتين الإعدادية والثانوية وبمناسبة انتقال والدي للعمل في سوريا- بين ركاب العلماء في مساجد وجوامع بلاد الشام سنوات 1390-1396هـ 1970-1975م طالبا للعلم في مساجد دمشق العتيقة على يد جلة من العلماء الدمشقيين أمثال الشيوخ: (حسن حبنكة الميداني، ومحمد عوض، وسعيد رمضان البوطي، وعبد الحميد ياسين، ومحمد كريم راجح، وبشير الرز، وأبو عادل شميس، وسارية وأسامة عبد الكريم الرفاعي، ودرويش النقاش…) وغيرهم الكثير، وفي تلك الحلقات تشكلت معالم شخصيتي الفكرية والعلمية والدينية والوجدانية وصرت متعلقا بالمساجد والشيوخ، غير أنني كنت أميل لنوع من العلماء دون الآخر، وكثيرا ما كان يستهويني في بداية تشّكل شخصيتي العلماء العاملون الذين يقولون لا للسلطة الحاكمة، عندما يجدونها قد أخطأت، فكان قلبي يميل إلى هذا الصنف وعلى رأسهم العالم العلامة شيخ سيوخ دمشق سيدي (حسن حبنكة الميداني ت 1978م)، وابنه الشيخ (عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني)، وأخيه الشيخ (صادق حبنكة)، ولاسيما بعد أحداث تبديل دستور سورية سنة 1972م على يد زعيم الانقلاب الدموي العلوي المجرم (حافظ أسد ت 2000م) ومحاولته تغيير المادة الثانية من الدستور وهي (دين رئيس الدولة الإسلام)، ووقوف جماهير العلماء في وجهه وعلى رأسهم شيخنا (حسن حبنكة الميداني) رحمه الله واعتقاله، ثم ذهابنا ومبايعتنا له والاطمئنان على صحته في بيته في حي الميدان الدمشقي العريق، وقد تحدث عن هذه الأحداث فيما بعد الراحل الشيخ (سعيد حوى) في كتابه ومذكراته القيمة (هذه تجربتي وهذه شهادتي)، ولم أكن أعلم يومها ماذا أفعل؟ والحقيقة أنني كنت أفعل كل هذا خفية عن والدي لأنه يعمل في السفارة الجزائرية بدمشق، وعندما يسألني كنت أخبره عن الكتب والعلوم التي أتلقاها في الفقه والعقيدة والحديث والزهد والتاريخ الإسلامي والسيرة وعلم والسلوك، وأقرأ له شيئا مما كنت أتعلمه فيفاخر بي أعضاء السفارة الجزائرية ولاسيما الزوار حتى ابن بلدتنا وصديق والدي (مالك بن نبي ت 1973م) عندما زار دمشق أواخر سنة 1972م، وجاء لمبنى السفارة وفرح بلقاء والدي لأنهما كانا أبناء بلدة واحدة، فعرضني والدي عليه، وطلب مني أن أعرض له ما أقرأ على أيديهم من العلم فدعا لي ووجهني.

وكان هذا هو الدافع الأول الذي نمَّأ ونَمَا بشخصيتي حتى دخلت السجن في الجزائر بعد قيامي بالمشاركة بالعمل الحركي الإسلامي في الجامعة الجزائرية التي كنت أحد طلبتها سنوات 1977-1981م، وسجنت سنتين كاملتين رفقة أربعين طالبا جامعيا سنوات 1981-1982م في أكبر سجن بأفريقيا (سجن لمبيز بباتنة بالأوراس) حتى عفا الرئيس الراحل (الشاذلي بن جديد ت 2012م). وبقي هذا الدافع يصاحبني في كل صغيرة وكبيرة من حياتي العلمية والفكرية والتربوية والحركية والمهنية، ويحكم سائر نشاطاتي الإعلامية والدعوية والتبشيرية في السر والعلن وفي الداخل والخارج، ولاسيما ملتقيات الفكر الإسلامي التي كانت تعقد دوريا في الجزائر في كل سنة ويقدم إليها الجمع الغفير من العلماء، وتبلورت الأمور لدي حين التحقت بالجامعة الإسلامية بقسنطينة لإتمام دراساتي العليا في الدراسات الإسلامية في جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة والتقيت أيضا بالجمع الغفير من المشايخ الذين استقدمهم الشيخ محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي معهم سنة 1987-1991م، ومشاركاتي الفعالة في تلك الفترة في الأحداث السياسية وانتمائي للجبهة الإسلامية للإنقاذ وفقداني لمنصب عملي كأستاذ للتعليم الثانوي 1992-1994م، وكثرة القراءات عن الرجال والأعلام والمجددين والمصلحين والدعاة والتجارب الحركية والتجديدية الإصلاحية، لمحاولة ترسم المنهج الأمثل في التغيير العلمي والعميق والحقيقي والأصيل والهادئ أيضا، حتى عثرت على ضالتي في الشيخ الإمام المجدد عبد السلام ياسين.

وكان هذا هو بداية تشكيل الدافع الثاني فيَّ تأسيسا وموازاة، والذي تأسس على الأبعاد المعرفية والحركية والتغييرية، فلم أدعْ تجربة تغييرية جُربت في العالمين العربي والإسلامي إلاّ واطلعت عليها ودرستها دراسة علمية تحقيقية لغرضين ذاتي يتعلق بالمنهج السليم الذي سأتبعه شخصيا في حياتي، ويقيني من الدخول في النار لانعدام محل التكليف والإنزال كعدم تقيد رقبتنا ببيعة لإمام، وثانيهما معرفي استرشادي بحت لم يفتني التعرف عليها الاطلاع على مصادرها وأصولها وما كتبه رجالها أو ما كُتب عنها، ومررت بقوافل من الرجال والمصلحين والتجارب بدءاً من جيل التابعين ومرورا بسائر أجيال وعصور الأمة المسلمة حتى العصر الحديث، وأثمرتْ التجربة سلسلة من الأبحاث عن مصلحي العالم الإسلامي في كتابي (أعلام الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث، طبعة دار الكتاب الحديث القاهرة 2012م)، و(دراسات وأبحاث في تاريخ الدعوة والدعاة ج1و ج2 بدار الكتاب الحديث بالقاهرة سنة 2012م)، وكتاب (الحركات التجديدية في العالم الإسلامي عن دار الكتاب الحديث بالقاهرة سنة 2017م)، والتي صارت برامج جامعية لطلبة قسم أصول الدين بالجامعة الجزائرية، وعرضت فيه لتجارب التغيير والتجديد والإصلاح الإسلامي الحديثة (محمد بن عبد الوهاب النجدي ت 1792م) والشيخ ( محمد بن علي السنوسي ت 1859م) والشيخ (بديع الزمان سعيد النورسي ت 1960م) والشيخ (جمال الدين الأفغاني ت 1897م) والشيخ (محمد عبدة ت 1905م) والشاعر (محمد إقبال اللاهوري ت 1932م) والشيخ (عبد الحميد بن باديس ت 1940م) ومن معه من رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين (البشير الإبراهيمي ت 1956م، العربي التبسي ت 1957م، مبارك الميلي ت 1954م، أبو يعلى سعيد الزواوي ت 1948م، الطيب العقبي ت 1960م…)، والشهيد (حسن البنا ت 1949م) وسائر أعلام مدرسته، والشهيد (سيد قطب ت 1966م)، والشيخ (محمد الطاهر بن عاشور ت 1973م) والشيخان المجاهدان (عبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي)، والشيخ (أبو الأعلى المودودي ت 1979م) والمفكر (مالك بن نبي ت 1973م) والشيخ (عز الدين القسام ت 1936م) والشيخ (سعيد حوى ت 1988م)، والشيخ (محمد الغزالي ت 1996م) والشيخ (أحمد ديدات ت 1996م) والأديب (نجيب الكيلاني ت 2007م) والشيخ (محمد قطب ت 2016م)، والشيخ (يوسف لقرضاوي) والشيخ الإمام المجدد (عبد السلام ياسين ت 2012م) كخاتمة أو كفاتحة لجمع المجددين في القرن الخامس عشر، حيث تفسير عبارة (منْ) في الحديث النبوي الشريف (إن الله ليبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة منْ يجدد لها أمر دينها) (الجماعة والفرادى من العلماء في كل قطر)، وخلاصة قراءاتي تلك أفضت بي إلى استكمال الإمام عبد السلام ياسين لصفات المجدد من حيث الإضافة والتأصيل النظري معا، والإجابة على سائر الإشكالات الموروثة منذ الصدع التاريخي والانكسار الحضاري للأمة الإسلامية، ومن حيث التطبيق العملي والحركي العملي والتنظيمي، فضلا عن صناعة جماعة مخلصة متضامنة تابعت المسيرة.

في تقديمك للكتاب تحدثت عن قراءتك المتكررة لكتب الإمام ياسين، وهل وجدت مميزات خاصة لفكر الإمام رحمه الله تميزه عن بقية علماء الأمة؟

لا أدعي أني قرأت آلاف الكتب والدراسات والأبحاث والمقالات لتكوين هذه الرؤية الشمولية عن التجديد والمجددين وكل ما دار حولها من تقاسيم وصراعات مذهبية وفرقية ومنظومات شعرية حول مجددي القرون الهجرية، كما عرضت ذلك في كتابي (تيارات فكرية معاصرة طبعة دار الحديث القاهرة سنة 2012م) وكتابي (الحركات التجديدية في العالم الإسلامي) وختمتها بالمجدد عبد السلام ياسين، فلغرض التعرف على كل شخصية وعلى منهجها اقتضى مني ذلك مَنْهَجَةِ القراءة عن كل شخصية وتجربة، بحيث أقوم في البداية بالقراءة الأولية للتعرف على هذه الشخصية وعلى تجربتها تعرفا أوليا، ثم أعود فأدرس وأحقق وأتوسم في كل ما قرأت مع وضع أطر مَعْلمية عن مميزات كل شخصية وتجربة بكثير من الصبر والحلم والتأني والتقرب إلى الله ليرزقني الفهم السوي والسديد، لأن المقام هنا هو مقام الفهم السوي والصحيح للرجل وللتجربة، وهو مقام توصيف الشخص والتجربة توصيفا مضبوطا، وهنا يقتضي المقام إحداث مقاربة حقيقية أو شبه حقيقية وقريبة جدا من مقصود التجربة ومقاصد ومعالم صاحبها، فهي مسألة متعلقة بالحكم على مجهود شخص متميز وجماعة متميزة في زمان عاثرٍ. والأمر هنا صعب جدا وغير قابل للتمويه أو التحريف، لتعلقه بمصير ومجهود وتاريخ ومصير وماضي وحاضر ومستقبل جماعة وقائد وفكر حاول الإجابة على أسئلة موروثة ومحرجة، كما حاول أيضا تجاوز إكراهات مرحلته الزمكانية والكيانية والإمكانية.

وتعود كثرة قراءاتي المتكررة لكتب الشيخ المجدد الإمام عبد السلام ياسين لانبثاقها من هذه الركيزة المنهجية العامة والبحثية أيضا، وقد تفاجأت بما كتبه الشيخ ياسين من عدة وجوه:

1- الوجه الأول: أن الشيخ لا يكتب في أي موضوع، إلاّ بعد قراءة مكتبية واسعة وممتدة زمكانيا، فكتابته في أي مسألة أو موضوع كانت –حسب فهمي- تختزل رفوف مكتبة تخصصية في عين وجوهر المسألة نفسها، مع استدعاءات توثيقية ومعرفية وارتكازية معرفية ومنهجية من علوم ومعارف مساعدة ومعينة آنية وتاريخية. فحينما يتناول مسألة الخلافة والملك، تجده يستدعي ويستحضر كل ما للموضوع من ضروريات وأساسيات وأصول وفروعيات وتراكمات وشروحات تراثية ومعاصرة مع اندياح معرفي ثاقب وناقد لكل المرويات، واستفاقات واعية لما غفل عنه الخطاب التراثي، أو ما تجاوزه الخطاب الحديث أو المعاصر، وبهذه الوجهة تكون المسألة حاضرة لديه من حيث المستحضرات والمكونات، وتنطلق عبقرية الشيخ الربانية المشبعة بالتقوى لترسم الوجه الصحيح في المسألة وفي طريقة عرضها. فأنت أمام مكتبة مقروءة قراءة نقدية، ومعروضة عليك عرضا صافيا سليما خاليا من الشوائب.

2- الوجه الثاني: حضور الرؤى والأفكار المختلفة حول المسألة، وخضوعها لديه إلى عمليات التمحيص والغربلة والتدقيق، مع وعي وفطنة لإكراهات الواقع المحلي وتحديات الكيد الإقليمي والتآمر العالمي، وطريقة مَنْهَجَةِ المسألة لتجييرها وقبولها من العقل والوجدان المسلم المثقل بالهموم والمشكلات، فيشعر القارئ لفكره بالمتعة والراحة ونشدان الضالة الفكرية الواعية في خلد موروثات عصور الضعف والحواشي والشروح على المتون والمنظومات، فيتبادر إليك وأنت تقرأ كأنما تقرأ شيئا جديدا وطرحا مغايرا ومتميزا، فيهزك من الأعماق.

3- الوجه الثالث: جانب التوفيق والفتح الرباني في الفهم المتميز وغير الموروث عن عصور ما بعد الانكسار والتصدع التاريخي، ويعود هذا التوفيق في الطرح والمعالجة والأخذ والمجايلة – حسب قراءتي المتواضعة – إلى خلو نفس الإمام من الهوى الفِرَقي والتعصب المذهبي، والهوى الدنيوي، وغيره من حظوظ النفس، ولاسيما ما يؤدي إلى موت قلب العالم، وقد كتب في هذه المسألة مرارا، ونبه إلى خطورة علماء السوء ومهاوي ومصارع السوآء المتنوعة فيهم.

4- الوجه الرابع: مسحة الصدق والإخلاص والربانية في كل ما يكتب، فهو ليس مؤلفا بالمعنى الأكاديمي للمصطلح، أو أديبا أو كاتبا أو زعيم حزب يريد أن يكتب كلمة في مناسبة لاستخبال الجماعة، أو لسحر ألبابها ببيانه، أو… بل هو رجل صاحب قضية ورسالة يذوب معها، وتقتات كل كلمة لتحيى في قلوب المدعوين من عرقه وجهده ودمه وروحه، فهو كسيد قطب في كلماته، وكسعيد حوى في تنظيماته الحركية، وكحسن البنا في إخلاصه، وكمالك بن نبي في تفكيكه وتذريره وتركيبه، وكابن باديس في تفانيه وإخلاصه، وهو قبل وبعد كل شيء متفرد عنهم، بالرغم من استيعابه واندياحه معهم.

5- الوجه الخامس: سهولة العبارة، والبعد عن غريب الألفاظ وحُوشِيِّهَا، ومتاعة الأسلوب، وسلاسة الصياغة، وعمق المعاني، وترابط الأفكار، وقلة الاستطراد، وبُعد الفكرة وصدقها وواقعيتها، وقابليتها للفهم السوي والتلقائي، وقابليتها وقدرتها على الإقناع الداخلي، وزخم تراكمها المعرفي، ودخولها للنفس والقلب قبل العقل.

6- الوجه السادس: شجاعة أفكاره وجرأتها، وقوتها في مواجهة ومجابهة ما تجنبه ويتجنبه الكثير من المصلحين والمجددين لاعتبارات المرحلية ومسايرة الأنظمة، مع حكمة عظيمة في الرغبة في السلمية والحبية والودية، وعدم الاتكال على الخارج وعلى العنف والشدة والغلظة، والقدوة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن. فنحن كما يقول – رحمه الله -: ((إنما نتوب توبة جماعية كل يوم إلى الله، ونتمنى أن يتوب إخواننا الآخرون مثلنا، فسعادتنا ليس في توبتنا بل في توبة ورشد واهتداء غيرنا…)).

وصفت في مقدمة الفصل الأول من كتابك الإمام ياسين بمجدد القرن، على أي شيء استندت في هذا الوصف، خاصة أن هذا القرن الهجري الخامس عشر ظهرت فيه شخصيات إسلامية كثيرة كان لها أثر واضح على مسيرة العمل الإسلامي المعاصر؟

سبق وأن تضمن الجواب الأول والثاني تلك المعالم النظرية والفكرية والحركية والعملية، والأهم أن كل تلك الشخصيات والجماعات تم تصفيتها وامتصاصها واستيعابها وتحويلها وتوجيهها و… بشتى الطرق والأساليب والوسائل والمحاضن والهياكل والمؤسسات، كلٌ بحسب نقاط ضعفه وإعادة صناعته وتشكيله وتجييره من قبل أجهزة الكيد والتآمر الداخلي والخارجي، ليتشبع بثقافة المؤسسات والهياكل الرسمية، إلى أن يستوفي ثمنه الرخيص في سوق الأنظمة والسلط، وتجربة الأحزاب الإسلامية في الجزائر والمغرب وتونس أيضا ما يُنبئ وينأى بالعاقل صاحب الرسالة والخط الواضح من الوقوع في المستقنع. وهو ما لم تسقط فيه جماعة العدل والإحسان، وهو عين وفائها لخطها الرسالي الذي رسمه المجدد الحقيقي وهو يكون الجماعة الرسالية، فأي تجديد أعظم من الوفاء للخط الرسالي بعد رحيل المجدد. وهو عين وجوهر جديد يُضاف إلى معالمه السابقة.

جماعة المسلمين مفهوم مهم في مشروع الإمام أفرد له كتابا خاصا (جماعة المسلمين ورابطتها) يعتبره خطوة أساسية في طريق إعادة وحدة الأمة، ما هو الأساس الفكري والعلمي لهذا المفهوم حسب اطلاعك؟

يتأسس فكر الإمام المرشد المجدد المرحوم “عبد السلام ياسين” على المنطلقات والخطوط المرجعية التي رسمها -هو- عبر مؤلفاته وتصنيفاته الرائدة والمتميزة، وفق المحاور الرئيسة التالية:

1– المنطلق المَعْلَمِيُّ، ويتضمن رؤى الإمام المرشد وتحليلاته وهضمه لأحداث التاريخ الإسلامي الدامي ضمن سياقات الفهومات والتطبيقات المرجعية للنصوص المقدسة، وما أنتجته لنا من تجارب وجماعات وأحداث تاريخية وثقافية متباينة.

2– أبجديات المشروع، عرض أبجديات مشروعه الوحدوي لصهر الجماعة المسلمة، الذي يتكون من العناصر الآتية: 1– حقيقة الإسلام الموروث المنحدر إلينا من خلال تاريخ منكسر مليء بالصراعات المذهبية والعسكرية. 2– وجوب تجديد مناهج التعامل مع الأطر المرجعية المقدسة لعصرنة الدين وضمان السير الحثيث والحسن نحو مستقبل الخلافة. 3– تعجيل الحوار وتأجيل الوفاق وعدم الجزع من الموروث التاريخي الدامي والاعتماد على قدرة الله كمستند مرجعي للوفاق والتوفيق. 4– الرجوع إلى المصادر الثابتة والنأي عن الخلاف والاختلاف، حيث ستدفعنا هذه الجزئية إلى الانطلاق لتتبع تصوراته السوية لمراكز الصدع التاريخي.

3– معالم التصور السوي لمركز الصدع، من مرآة فَهْمِه السوي لظاهرة الانكسار التطبيقي التشريعي، ضمن سلسلة أحقاب التاريخ الإسلامي المختلفة المحكوم بجملة من المحترزات الأساسية الواقية، ليتسنى لنا مجددا إعادة تجسير الفجوات النفسية والتصورية والمعرفية التاريخية القاصمة، والناتجة عن مرحلة ما بعد الانكسار التاريخي المُمزق، وتجاوز تفاعلاتها وتأثيراتها السلبية، وضمان عدم تفاقماتها المحتملة، وذلك بالمرور إلى الحلقة الموالية، لتناول آلياته المتميزة في فهمه لجدلية النص والواقع ودورها في صناعة أحداث التاريخ الإسلامي.

4– تراكبية النص والواقع في صناعة أحداث التاريخ الإسلامي. وتطلعات الشيخ “عبد السلام ياسين” السامية، وآماله وأشواقه الربانية في تجاوز إِحَنِ التصدعات، فبعد عرضه لمسار التطبيقات الواقعية للنصوص المقدسة والتناقضات الناتجة عنها أحال الشيخ المسألة إلى قوتين وإرادتين متكاملتين، إرادة بشرية وقوة ربانية، ستوفران –بلا شك- كل عوامل النجاح والسداد لوضع حد لتأججات ودموية الانكسار التاريخي في الاستمرارية، وذلك من خلال الفهم السوي الذي هو أساس التغيير.

5– الفهم السوي أساس التغيير، ففَهْمَهُ السوي والصائب –يرحمه الله- لظاهرة الانكسار التطبيقي التشريعي ضمن سلسلة أحقاب التاريخ الإسلامي الدامي، المختلفة الأثر البليغ في تقديم تصور رائد لمنطلق جديد بين الصفين المتصارمين لرأب الصدع التاريخي الناتج عن الانكسار، مدعما تصوره بكل قرينة ودليل يصرم الخلاف أو ُيضيق منه إن لم يُلْغيه، وذلك عبر مشروع الوحدة الذي سيعالجه في الخطوة الموالية.

6– أساسيات تحقيق القومة الحضارية، التي مبدؤها ونجاحها العناصر التالية: 1- الإعلان السياسي والشرعي المبين للخط الدعوي والتغييري المكشوف الذي انتهجه الشيخ المجدد الإمام المرشد “عبد السلام ياسين” – يرحمه الله – ودوره الأكبر في تحقيق انطلاقة القومة الحضارية الإسلامية المنشودة. 2- دور عقيدة الولاية لله وحده في نجاح القومة. 3- دور الجماعة القطرية الأساسي في نجاح القومة الحضارية. 4– دور الإعلام القوي في نجاح القومة. 5- دور الاقتصاد القوي في نجاح القومة.

7- محاضن ومُفعِّلات مشروع القومة النهضوي، بالمشروع التغييري الشامل لصناعة (جند الله)، ومحاضن التشكيل والصياغة، ومؤسسات السبك وإعادة التشكيل النفسي والروحي والوجداني والتربوي والأخلاقي والسلوكي الفردي والجمعي، عبر المحاضن والمؤسسات التالية: 1- التربية المسجدية. 2– مدارس لتربية الشخصية الإسلامية. 3– مؤسسات الحسن والخير والتأديب والجمال.

ألا يمكن أن يعتبر البعض الحديث عن وحدة الأمة ترفا صعب المنال؟

الذي لا يفقه سنن ونواميس الله في الأرض يقول مثل هذا الكلام لجهله ولضعف إيمانه، أما الذي استوى على السوق الصحيح والسليم من الفهم والتربية والرسالية الإسلامية والتضحية يعتبر ذلك أمرا ممكنا ولكنه ليس سهلا، فهو يحتاج إلى الرساليين فأين هم؟

ماهي مراحل توحيد الأقطار الإسلامية التي من شأنها إحياء الخلافة على منهاج النبوة كما يراها الشيخ الإمام ياسين رحمه الله؟

أبجديات ومراحل مشروع الوحدة الإسلامية الشاملة لصناعة وصهر الجماعة المسلمة، الذي يقوم على أبجديات المشروع لبناء مشروع الوحدة الإسلامية الشاملة بدءً ب: [الجماعة القطرية، الدولة القطري، الفيدارلية الإسلامية، الخلافة الوارثة]، تبعا لمحددات معرفية ومنهجية وخبراتية مُوصلة لمرحلة النجاح المرجوة. بتفاصيله أيضا

دعا الإمام المرجعيات والنخب السنية والشيعية إلى وضع حد للتصدع الناتج عن الانكسار التاريخي، وتظهر الآن فعلا ضرورة الاستجابة لهذه الدعوة، فهل وضع رحمه الله معالم للسير إلى هذه الغاية؟ وهل لمستم في طرحه تفاؤلا لتجاوز السنة والشيعة خلافاتهم التاريخية ويستجيبوا لهذا النداء؟

قدّم الإمام المرشد المجدد “عبد السلام ياسين” توصيفا متميزا ومنضبطا وشاملا عن موضوع وحدة الجماعة المسلمة، وضروراتها الحتمية اليوم، فقال: ((… لو كان ذلك الانكسار في فجر تاريخنا خبرا مضى وقبر لما كانت بنا حاجة لنبشه. اضطرمت نار الفتنة وبقيت مشتعلة قرونا طويلة، لا تخبو إلاّ بمقدار ما تستعيد قابليتها للاشتعال. واليوم ينهض المسلمون في فجر تاريخ جديد، وفي كيانهم ثقافة وذكرى ومذهبا، آثار ذلك الضرام. فهل ينسينا بأس الجاهلية علينا اليوم ما كان بيننا من بأس؟ وهل تعود الأمة فتلتحم على وهج الجهاد الحاضر والمستقبل كما تصدعت في نار الفتنة؟ نرجو من الله عز وجل ذلك)) (عبد السلام ياسين، الخلافة والملك، دار الآفاق، بيروت، الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م، ص 57.).

حيث ينطلق الشيخ عبد السلام ياسين – يرحمه الله – من اعتبار أن فهمنا السوي والصائب والمتزن الدقيق لأحداث وحركية التاريخ الإسلامي يجب أن يكون محكوما بجملة من المحترزات الأساسية الواقية ، ليتسنى لنا مجددا إعادة تجسير الفجوات النفسية والتصورية والمعرفية التاريخية القاصمة، والناتجة عن مرحلة ما بعد الانكسار التاريخي المُمزق، والمتمثل في قتل الثائرين للخليفة الراشدي الثالث الحبيب والأخ المحترم جدا سيدنا عثمان بن عفان ذي النورين رضي الله عنه وأرضاه وختن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويؤسس – يرحمه الله – لمعالم صرح مَعْلَمِيٍّ تاريخي إسلامي، ُمنطلقه رؤية واعية صائبة راشدة لحادثة الانكسار التاريخي، التي تعني ما تعنيه قبلها، وتعني ما تعنيه ما بعدها [الجمل، صفين 36 هـ]. فهي تشكل عنده – وعند كل مجدد عاقلٍ وفاقهٍ متزنٍ – ما يُشبه الحدود الجغرافية الطبيعية بين مكونين وكيانين متمايزين، أو ما يشبه التعاقبات السننية الزمنية في حياة الأمم.

ويُوغل – يرحمه الله – في فضاء من التفاؤل الإيماني الصادق، الممزوج برحمة الله، ورحموت قدرته سبحانه وتعالى في صهر إرادات نخب الجماعة المسلمة نحو سبيل الحوار البنَّاءِ، المحوط بمواقف الوعي العقلية، الرافدة لحالات الوفاق السوي، البعيدة عن تحكم وتوجيه المواقف العاطفية المنبعثة من أحداث التاريخ الإسلامي الدامي، حال توفر الخام النوعي الأصيل والمناسب (جند الله – حسب تعبيره يرحمه الله) لإنجاح هذه العملية الاستراتيجية في صلب العقل الإسلامي المخدر تاريخيا بسموم الخطابات المنبعثة من فوهة بركان الانكسار والتصدع التاريخي، سامحا لنفسه الإبحار في فيوضات ملكوت الله سبحانه وتعالى، عسى جَلَّ جبروت عظمته وَتَقَّدَس رهبوت قدراته أن يأذن بسحق بذور وثمار وينابيع وأسباب الخلاف والاختلاف لحساب الوفاق والتوادّ الأخوي للجماعة المسلمة في خضم حملات التكالب “الصهيو-أوروأمريكي” العالمي عليها. وكل هذا الوفاق والشفاء النفسي من أمراض التاريخ المُفضي لوحدة الجماعة المسلمة مرهون – عنده – بالتمسك بالأصول الثابتة المتفق عليها في مرحلة ما قبل توقيت الانكسار التاريخي، وتجفيف سائر منابع التغذية الدموية الِفرَقِيَّةِ المؤسفة المُذكية والمعمقة هوة هذا الشرخ، ومن غير إذكاء ولا نسيان للسرد الواعي والعرض الرشيد والتوثيق الكافي لسيرورة الأحداث التاريخية، كِفَاءَ ما تحصل به العبرة المقنعة والموعظة الرشيدة أو الحسنة، ولن يتأتى ذلك إلاّ حال توفر نفسيات سوية وأرواح متزنة وشخصيات كريمة وذوات رسالية تحمل هم المشروع الإسلامي المُغَيَّب، والتي تنأى عن مواطن الشجر والصدام والاختلاف، وتترفع عن مواضع الخلاف والشنآن والتناجش، إلاّ بالقدر الضروري والمطلوب للتدارس في ما يجمع ولا يُفرِّقِ، ويُوحد ولا يُبدد، ويسير بالجماعة المسلمة نحو القومة والخلافة. حيث لا يمكننا التأسيس المستقبلي للوحدة الإسلامية على مبادئ الخلاف المذهبي المُؤَصّلَةِ عند الطوائف والفرق القدد.

مد الإمام يده إلى الحركات الإسلامية المغربية قصد توحيد جهودها في بداية دعوته، ولما ساتعصى عليه الأمر أسس جماعة (العدل والإحسان)، وبقي طيلة حياته، وبقيت الجماعة من بعده تمد يدها إلى جميع مكونات المجتمع-إسلاميين وغيرهم- قصد الاجتماع على ميثاق مكتوب يجمع شتات القوى الممانعة للظلم والفساد وينظم علاقاتها، كيف تجدون هذا الطرح خصوصا بعد الانتكاسات التي عرفتها بعض البلدان العربية التي فاز إسلاميوها في الانتخابات ثم عرفت بعدها تكالبا داخليا وخارجيا أطاح بها؟

لكل بلد وضعه الخاص، فالجزائر لم تكن تجربة الجبهة الإسلامية سنوات 1989-1992م ناضجة بالحد المقبول تغييريا، وقد كنت ضمن صلب العمل الإسلامي يومها وأعرف التجربة جيدا، ومعرفتي بما يدور في المغرب وتونس قليلة، وبالتالي لا يؤهلني لتناول وضعهما بكل وضوح ودقة، ولعلها تتاح لي فرصة التعرف أكثر من خلال القراءات العميقة والسوية لاحقا.

في الفصل الثاني تطرقت للدور المحوري للإنسان في مشروع الإمام التغييري، وهو ما يجعل تربيته المهتدية بنور القرآن ومنهاج السنة أولوية. ما هي الخطوط العريضة للمنهج التربوي في مشروع الرجل بحسب بحثكم؟

أخرتُ عن قصد محور الإنسان بعد محور البناء والهيكلة والوحدة، لكون الإنسان السوي والمكون على نهج القرآن والإسلام والسنة النبوية ومنهاجها هو صلب العملية كلها، وهو عماد قيامها، وقد وضع الإمام مشروعا متكاملا في كتابيه (المنهاج النبوي) و(الإحسان).

فمركزية التغيير عند المجدد عبد السلام ياسين تنطلق من الإنسان ومن أخص وأثمن شيئين فيه هما قلبه ولسانه، المفعمين بالثقة بالله، والممتلئين بالحب لله سبحانه وتعالى، فـ ((حب الله الخالق المنعم مغروز في الفِطَرِ الكريمة المعدن، تطمره الطوامر وتبرزه من مكامنه صحبة من “ينهض بك حاله، ويدلك على الله مقاله”. لا ينكر حب العبد لربه واستجابة المولى الودود بحب أكبر إلاّ جاحد أو معاند، أو معطل فاسد)) (ياسين، عبد السلام، الإحسان، ج 1 ، ص 170). فهذا هو الفرد النقي القلب، المفعم قلبه بالمحبة والخير والبذل والعطاء للآخرين، هو الفرد الصالح والقادر على صناعة التغيير والقومة الصادقة.

لأن مركزية الإصلاح والتغيير الحقيقية في العبد تكون بالحب المتبادل بين الله وعبده أولا، فمن أحب الله أحب الناس، و((حب العبد ربه وحب الرب عبده هو قطب رحى الدين. وكلما كان العبد أشد إيمانا كان أشد حبا لله. قال الله تعالى: والذين آمنوا أشد حبا لله (البقرة: 165). رابطة الحب بين العبد وربه مغناطيس يجذب، ويُقرّبْ، ويُبلّغ المقامات العليا. وقد سُقي القوم من قبلنا رضي الله عنهم شراب المحبة بكاسات دهاق في خلوات المجاهدة والرياضة والتفرغ الدائم لذكر الله. ومطلب المجاهدين المشتاقين إلى ربهم في مستقبل القومة لله، والتحزب لله، وإقامة الخلافة على منهاج رسول الله)) (ياسين، عبد السلام، الإحسان، ج 1 ، ص 170 و172 و173.). فزراعة المحبة في القلب أولى خطوات تنقيته من قاذورات الجاهلية التي رانت على فطرته السليمة خلال قرون العض والجبر والاستذلال.

وكذلك استتباعها بحب رسوله ومنهجه وكل شيء أتى به صلى الله عليه وسلم ثانيا، فقد قرن الله محبته بمحبة رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم. قل أطيعوا الله والرسول. فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين (آل عمران: 31، 32)، فلا فاصل بين حب الله ورسوله وحب أهل بيت رسول الله وإن تنوعت النعمة، وأعظم نعم الله علينا الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم (ياسين، عبد السلام، الإحسان، ج 1، ص 177 و178). وبالتربية المتينة والسليمة والمهتدية بنور القرآن ومنهاج السنة تتنور فطرته لتستجيب لأشواقها الأزلية (ياسين، عبد السلام، المنهاج النبوي، ص 22). وفق خطوات ومواصفات مفصلة في كتابه (المنهاج النبوي).

أعطى الأستاذ ياسين، حسب بحثكم، موقعا متميزا للفرد المسلم في الجماعة المسلمة، المنتظر منه تغيير ما بنفسه استعدادا لتغيير ما بالأمة، كيف قعّد الإمام لهذا الأمر من خلال طرحه الخصال العشر وشعب الإيمان؟

اقترح المجدد عبد السلام ياسين صوى عشرا على خطى صناعة جيل القومة والتغيير، وفيها قدم آليات صناعة الفرد السوي، القادر على تحقيق القومة الإسلامية الصادقة، وفق الترتيب الآتي:

1 – الخصلة الأولى: الصحبة والجماعة، وذلك بحسن اختيار الصاحب التقي النقي السوي، عبر عقد الأخوة الإسلامي الأزلي الصادق، وعبر دعاء الإخاء ووشائج الرابطة الإسلامية الصادقة، التي تجمع المحسنين مع بعضهم، كما جمعت المهاجرين بالأنصار، واستصحاب الناس بالتي هي أحسن. وقد جعل للخصلة الأولى – بعد أن فصل القول فيها – شعبا مهمة لنجاحها، وهي: ((1 – محبة الله ورسوله، 2 – الحب في الله عز وجل، 3 – صحبة المؤمنين وإكرامهم والبر وحسن الخلق معهم، 4 – التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في خلقه، 5 – التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، 6 – الإحسان إلى الوالدين وذوي الرحم والصديق، 7 – إقامة الزواج بآدابه الإسلامية وحقوقه، 8 – القوامة والحافظية، 9 – إكرام الجار والضيف، 10 – رعاية حقوق المسلمين والإصلاح بين الناس)).

2 – الخصلة الثانية: ذكر الله سبحانه وتعالى بتلاوة كتابه الكريم وما ورد من أوراد وأذكار عن رسوله الكريم، ففي الذكر طلب لكمال النفس، وهذه شعبها: ((1 – إعلاء ذكر لا إله إلا الله، 2 – الصلاة لوقتها، 3 – النوافل والسنن والمستحبات، 4 – تلاوة القرآن، الذكر، 5 – ارتياد وعشق مجالس الإيمان والخوف والرجاء، 6 – التأسي بأذكاره صلى الله عليه وسلم، 7 – التزام الدعاء وآدابه، 8 – التأسي بدعواته صلى الله عليه وسلم، 9 – الصلاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، 10- التوبة والاستغفار وذكر الموت)).

3 – الخصلة الثالثة: وقوامها الصدق والتربية الإسلامية بسلوك الصدق والصادقين، لمنافاته النفاق والعادات الجاهلية الموروثة، ولكون الصدق أعظم الأسلحة التنظيمية، وأهم خصال رجال القومة، وقد جعل لهذه الخصلة شعبها، وهي: ((1 – الإيمان بالله وغيبه، 2 – الإيمان باليوم الآخر، 3 – النية والإخلاص، 4 – الصدق القولي والوجداني والعقلي والعملي الشامل، 5 – النصيحة والإرشاد، 6 – الأمانة والوفاء بالعهد، 7 – سلامة القلب، 8 – الهجرة والنصرة، 9 – الشجاعة واٌدام من غير تهور، 10- تصديق الرؤيا الصالحة وتعبيرها)).

4 – الخصلة الرابعة: البذل والعطاء سلوكا وأخلاقا وتنظيما، وذلك بالمال والقوة والفتوة والتطوع والفعل، وقد جعل لهذه الخصلة شعبها، وهي: ((1 – الزكاة والصدقة، 2 – الكرم والنفقة في سبيل الله، 3 – إيتاء ذوي القربى واليتامى والمساكين، 4 – إطعام الطعام، 5 – قسمة المال)).

5 – الخصلة الخامسة: طلب العلم النافع خلقا وسلوكا وتنظيما، وتنمية ثقافة العقل والنقل والإرادة، والاستعاذة من العلم الذي لا ينفع، لضمان وحدة التصور، وقتل الموروثات الجاهلية، وتحصيل مستوى الاجتهاد الجماعي، وقد جعل لهذه الخصلة شعبها، وهي: ((1 – طلب العلم وبذله، 2 – التعليم والتعلم وآدابهما، 3 – تعلم القرآن وتعليمه، 4 – تعلم الحديث الشريف واتباع السنة، 5 – التعليم بالخطابة، 6 – التعليم بالمواعظ والقصص)).

6 – الخصلة السادسة: العمل سلوكا تربويا وعمليا وتنظيميا، وإعداد جيل قادر على إنجاز المهمات، واستثمار الطاقات المهدرة،، وقد جعل لهذه الخصلة شعبا ، هي: ((1 – عادة وخلق التكسب، 2 – طلب الحلال، 3 – العدل، 4 – إماطة الأذى عن الطريق، 5 – التواصي بالحق والصبر، 6 – تأييد الله عباده المجاهدين بالغيب، 7 – البركة في أرزاقهم)).

7 – الخصلة السابعة: السمت الحسن تربيةً وسلوكا وتنظيما، حيث رجال القومة دعاة لا قضاة، ومرشدين لا مسيطرين، وقد جعل لهذه الخصلة شعبها، وهي: ((1 – الطهارة والنظافة، 2 – آداب اللباس الإسلامي المحتشم، 3 – السمت الحسن والبشر، 4 – الحياء والوقار، 5 – آداب المعاشرة، 6 – التزام الجمعة والعيدان، 7 – عمارة المساجد)).

8 – الخصلة الثامنة: التؤدة سلوكا وتربية وأخلاقا وتنظيما، لمنافاتها ذهنية القطيع، ولكون المرحلية أساس التربية، وأساس متابعة الأعمال والقرارات، ولكونها امتحانا لجنود القومة واختبارا لمدى قدرتهم على الصبر والتحمل، ومدى ضبطهم لأنفسهم في المشورة والميدان، وقد جعل لها خصالا مهمة، هي: ((1 – الصوم، 2 – القيام في حدود الله، 3 – حقن الدماء والعفو عن المسلمين، 4 – حفظ اللسان والأسرار، 5 – الصمت والتفكر، 6 – الصبر وتحمل الأذى، 7 – الرفق والأناة والحلم ورحمة الخلق، 8 – التواضع)).

9 – الخصلة التاسعة: الاقتصاد تربية وسلوكا وتنظيما، وهو العيش عوانا وسطا بين الفقر والترف، لأن الاقتصاد أحد أفضل الطرق للسير السوي إلى اكتساب مرضاة الله، كما هو أحد القواعد الأساسية لتكوين رجال القومة الصادقين، وقد جعل لها شعبا، هي: ((1 – حفظ المال، 2 – الزهد والتقلل، 3 – الخوف من غرور الدنيا)).

10 – الخصلة العاشرة: الجهاد في سبيل الله أمنية وروحا وتربية وسلوكا وزحفا وغاية، والموازنة بين الجهادين الأصغر والأكبر، لتحقيق القومة الصادقة، والاهتمام بجهاد التربية والتوحيد والإيمان والكسب والتعلم والتربية والدعوة والزواج والكلمة والحجة والبرهان والتعبئة والبناء، والجهاد السياسي، وقد قدم أنموذجا عن جهاد دول البلقان السلمي والحضاري في الحفاظ على دينهم ولغتهم وهويتهم في ظل الحكم الشيوعي القمعي. وقد جعل لهذه الخصلة شعبها، وهي: ((1 – الحج والعمرة، 2 – الجهاد في سبيل الله، 3 – التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد تربويا وعمليا، 4 – الخلافة والإمارة، 5 – المبايعة والطاعة، 6 – الدعوة إلى الله عز وجل)).

وبهذه الخصال العشر والشعب السبع والسبعين يمكن إعداد وصناعة الفرد المكرم، الفرد السوي السليم الفطرة، الفاعل المتحرك، القادر على أن يكون لبنة صالحة ومحكمة في بناء النهضة والقومة التغييرية الإسلامية الصادقة، التي ستعصف بالظلم والظالمين. وراسم الإمام لهذا الفرد – في الوقت نفسه – صورة ومسار وخطة العمل المستقبلي الذي ينتظره لاستمرار الدفق الإسلامي المُوصل لتحقيق وعد الخلافة المنتظر. وبهذه الخصال العشر سيتكون جيل قرآني فريد، تتميز شخصيته بهذه الخصال:

((.. 1 – الشخصية المؤمنة بالله واليوم الآخر، المخلصة لله عز وجل، العالية الروحانية.

2 – الشخصية الصالحة للاندماج في الجماعة، من حيث محبة الله ورسوله المنتجة لمحبة المؤمنين، ومن حيث الإرادة والقدرة على التآمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن حيث المشاركة في الأمر العام، وفي الشورى ، والدعوة ، والدولة.

3 – الشخصية الصادقة الشجاعة في الحق التي يوثق بها.

4 – الشخصية الواعية بمسؤوليتها عن الانتصار للمستضعفين في الأرض، المستعدة لبذل الجهد والمال من أجل إقامة العدل في الأرض.

5 – الشخصية العالمة بعلم الحق وعلم الكون، القادرة على الاجتهاد في الشريعة، وعلى توطين العلوم الكونية في بلاد الإسلام وتطويرها واستثمارها.

6 – الشخصية المتحركة النشيطة الخفيفة إلى كل عمل يرضى عنه الله عز وجل، الممسكة الثقيلة عن محارم الله.

7 – الشخصية المتميزة ظاهرا وباطنا، قلبا وقالبا، عاطفة وفكرا، مضمونا وأسلوبا، عن الشخصية الجاهلية، وعاداتها، وثقافتها، ومنهاجها.

8 – الشخصية الصامدة أمام كل إعصار، المقتحمة لكل العقبات، التي لا تعرف الملل، ولا يَفُتُّ في عزمها الكلل.

9 – الشخصية المنتجة المقتصدة القادرة على إدارة أموال الأمة وخيراتها، وعلى التعامل مع تيارات المصالح العالمية تعاملا يضمن استقلال الأمة في غذائها وكسائها ورخائها وسلاحها.

10- الشخصية المقاتلة المجاهدة في سبيل الله، الحاملة لرسالة الله إلى العالمين بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، المدافعة عنها بحد السيف، وقوة الدبابة، ونار الصاروخ إن اقتضى الحال، ووقع على الأمة العدوان..)) (المنهاج النبوي، ص 176-180).

ما أسس التغيير والقومة المنوطة بجند الله للنهوض بالأمة الإسلامية بحسب بحثكم؟

أسس التغيير تكون بالتجنيد وهو في عشر خطوات، هي: (المنهاج النبوي، ص 122.. 125).

1 – الخطوة الأولى على طريق التربية والتنظيم وفق المنهاج النبوي المؤدي إلى مرضاة الله عز وجل، وتحقيق خطوات إعادة الخلافة للأمة، وذلك عن طريق الصحبة والجماعة، وعن طريق لقاء رجل يربيك، وجماعة مؤمنة تؤويك وتحضنك، حتى تسري بصحبة المربي والجماعة إلى روحك وقلبك وسلوكك، فتحصل على أولى أسلاك نور الإيمان.

2 – الخطوة الثانية بالإقبال على الإكثار من ذكر الله عامة، والتزام روح العبادة والصلاة مع الجماعة، وترويض الروح والنفس والجسم والفكر واللسان وسائر الجوارح لإدراك الله والغفلة عما سواه.

3 – الخطوة الثالثة بتحري الصدق، والتصديق بوعد الله وغيبه، وترجمة ذلك سلوكيا وواقعيا.

4 – الخطوة الرابعة بالبذل والعطاء القاتل لروح وثقافة الشح والأثرة والبخل، الذي يُثمر الأخوة والسكينة والرحمة بين الناس.

5 – الخطوة الخامسة بالجلوس إلى ركاب العلماء ومزاحمة أهل العلم والانكباب على العلوم المهمة، التي ترقى بالقومة والناس.

6 – الخطوة السادسة بالعمل المثمر والدؤوب الفردي والجمعي، الذي يعود بالنفع والفائدة على الجميع.

7 – الخطوة السابعة التحلي بالخلق والسمت الحسن، الذي هو ثمرة الدين وخلاصته.

8 – الخطوة الثامنة بالتؤدة والحلم والأناة، التي هي جماع الخصال الأخلاقية الكبرى في الإسلام، الذي يرفض العنف والتنطع والجمود والتقليد والغلظة.

9 – الخطوة التاسعة باقتصاد وقناعة وحسن استثمار واستغلال لما بين اليد، نبذا للتبذير والإسراف.

10- الخطوة العاشرة بالجهاد في سبيل الله واقتحام العقبة، والذي هو ثمرة التربية والتنظيم والعمل النشيط الملتزم بخط وسلوك الإيمان.

وقد جاء هذا المنهج بخطواته العشر كثمرة تجربة حقيقية وعملية ودعوية ثرية وفاعلة استغرقت نصف قرن من المعاناة والمكابدة، ومن حسن استثمار الزمن الدعوي الفاعل للنهضة والقومة بالأمة.

والتغيير المطلوب يكون عن طريق القومة الإسلامية الحضارية البانية الصادقة، التي يقوم بها رجال القومة الصادقين، والمستعدين للجهاد واقتحام العقبة بكل غالٍ ونفيس.

وأسس ومنطلقات القومة هي: ((ليست ثورة قطرية إقليمية تنتهي مهمتها عند تغيير بُنى المجتمع، وتنشيط اقتصاده، وتطوير وسائله. بل هي رسالة القرآن إلى الإنسان أن يغير موقفه، وينتبه لمصيره، ويُقبل على نفسه يُغَيِّرُ ما بها لتقبل على ربها. وكل تغيير في السياسة والاقتصاد فإنما هو تبعٌ لهذا التغيير الكلي الجوهري للإنسان، ونفسيته، وعقيدته، وأخلاقه، وإرادته، وحركته كلها على الأرض، لتكون حركةً لها غاية، ومعنى، وارتباط بمصيره بعد الموت، وبمصير أمته في التاريخ)) (المنهاج النبوي، ص 88).

وأهم مُكوّنين يضمنان نجاح القومة، ويشكلان وقودها ومحركها، هما: رجال القومة (جند الله) وقاداتها المتميزون روحيا ووجدانيا وانفعاليا وأخلاقيا وعقليا وسلوكيا وعمليا، ومحاضنها المتميزة بنقائها وصفائها العقدي والروحي والوجداني والعقلي والسلوكي والأخلاقي. إذْ تضمن المحاضن السوية توفير: الجو التكويني والتأطيري الملائم، والمناخ التفعيلي الصحي المناسب، والإعداد التجنيدي الصحيح والقادر، والصناعة القيمية والنفسية والمعنوية والبدنية الضرورية، حيث سيتلقى (جند الله) في تلك المحاضن اللازم والضروري للقومة، وهذه المحاضن سيأتي الحديث عنها في المحور الثاني (الآليات والمؤسسات).

وذلك عبر مؤسسات وهيئات وتنظيمات وآليات محكمة ومدروسة وممنهجة، لرفد وتربية وتنشئة وإعداد وتكوين وتوفير الحاجيات الأساسية والضرورية لاستمرار الحياة قوية وفاعلة.

والله أعلى وأعلم.

باتنة الجمعة 20 ربيع الأسعد 1439هـ/الموافق 08/12/2017م.

أ. د. أحمد محمود عيساوي.