د. أبو ريحان: إصلاح الجامعة مرهون بحوار وطني يحدد الرؤية التربوية والاختيارات الكبرى  

Cover Image for د. أبو ريحان: إصلاح الجامعة مرهون بحوار وطني يحدد الرؤية التربوية والاختيارات الكبرى  
نشر بتاريخ

مواصلة لاستكشاف موقف قطاع التعليم العالي لجماعة العدل والإحسان من أوضاع التعليم العالي والجامعة المغربية ورؤيته للإصلاح، وهو ما عبر عنه في ورقة تحليلية شاملة حول مشروع القانون رقم 59.24 المتعلق بالتعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، وبعد الحوار الذي أجريناه مع أستاذ التعليم العالي الدكتور نبيل المراني، أجرت بوابة العدل والإحسان حوار آخر مع الأستاذ بجامعة محمد بن عبد الله بفاس الدكتور أسامة بو ريحان، عضو المجلس الوطني لقطاع التعليم العالي للعدل والإحسان وعضو اللجنة الإدارية للنقابة الوطنية للتعليم العالي، حيث سلطنا الضوء على عدد من القضايا الأخرى الهامة التي حبلت بها وثيقة القطاع.

فيما يلي نص الحوار:

في الوثيقة النقدية التي أصدرتموها في قطاع التعليم العالي، أشرتم إلى “شِراك إملاءات وتوصيات المؤسسات المالية الدولية المانحة”، هل هناك أدلة تشير إلى أن المشروع جاء ‏استجابة لإملاءات وتوصيات هذه المؤسسات المالية الدولية المانحة؟

أتقدم بداية لموقع الجماعة بالشكر والامتنان لتسليط الضوء على قضية التعليم العالي، طبعا لما للتعليم والتعليم العالي من أهمية بالغة في تنمية واستقرار الأمم.

فيما يتعلق بالأدلة التي تشير إلى انصياع مشروع القانون 59.24 لإملاءات المؤسسات المالية الدولية، يمكن مقاربة الموضوع من مدخلين متكاملين. أولا، فالوصفات التي تقدمها المؤسسات المالية الدولية في مجال الإصلاحات القطاعية منشورة ومتداولة بشكل واسع، ولا تحتاج جهداً كبيراً لتمييزها، يكفي مقارنة تلك التوصيات بمضامين مشروع القانون ليتضح التطابق. ولعل العودة إلى تقرير البنك الدولي الشهير الذي سبق خطاب «السكتة القلبية» تؤكد أننا نسير بثبات في الوجهة نفسها التي رسمها نهج التقويم الهيكلي منذ الثمانينيات: تفويت خدمات القطاع العام للقطاع الخاص، تخفيض نفقات القطاعات العمومية تسييراً واستثماراً، ثم الانتقال إلى تحميل المواطن جزءاً متزايداً من كلفة الخدمات الاجتماعية، خصوصاً في التعليم والصحة، فالحصار المضروب على التوظيف، وتجربة التعاقد التي فُرضت قسراً على أطر التربية الوطنية، إضافة إلى النقص الكبير في الأطر الأكاديمية والإدارية داخل الجامعات، كلها تجليات لهذا النهج. لدرجة أن عدداً من المؤسسات اضطرت إلى الاستعانة بالقطاع الخاص في تدبير مهام داخل الجامعة، بما فيها أنشطة بيداغوجية حساسة كمهام محضري الأشغال التطبيقية (Préparateurs). هذه المحددات باتت اليوم جزءاً من السياسة المالية للدولة، وتجد لها تطبيقات واضحة في مشروع القانون الجديد.

أما المدخل الثاني، فيتعلق بطريقة إعداد وتمرير المشروع. فبدلاً من أن يُبنى الإصلاح على تشخيص موضوعي ونقاش وطني شامل يشارك فيه الفاعلون الرئيسيون داخل الجامعة، تمت صياغته وفق مقاربة سريعة وأحادية تجاهلت الشركاء الطبيعيين. كما أن الفلسفة العامة للمشروع تنحاز بوضوح لمنطق السوق في تدبير التعليم العالي وتمويل البحث العلمي، أكثر من انطلاقها من رؤية وطنية مستقلة تضع مصلحة الجامعة والمجتمع في المقدمة. كل هذه المؤشرات تعزز القناعة بأن المشروع يعيد إنتاج ذات نماذج الإصلاح المرتبطة بوصفات التمويل الدولي التي تستهدف القطاعات الاجتماعية الحساسة.

ما هي الفلسفة التي قامت عليها فكرة “التوقيت الميسر” التي جاءت في المشروع الجديد، وهل هو بداية لخوصصة حقيقية في التعليم ‏العالي؟

فكرة “التوقيت الميسر” تقوم على إدخال تكوينات مؤدى عنها داخل المؤسسات العمومية نفسها، وذلك عبر مسالك دراسية تمنح للطلبة إمكانية الالتحاق بالدراسة مقابل رسوم مالية. هذه الفلسفة تمثل نقلة نوعية نحو اعتبار التعليم العالي مجالاً يقدم خدمات بمقابل مالي، وهو ما يفتح الباب تدريجياً أمام آليات الخوصصة من داخل القطاع العمومي. بمعنى آخر، بدل انتقال الخوصصة إلى مؤسسات خاصة، يتم إدماجها داخل المؤسسات العمومية عبر صيغ تنظيمية جديدة. أو بتعبير أدق، بعد أن نجحت الدولة في تفريخ عشرات الجامعات والمؤسسات الجامعية الخاصة والتي توفر دبلومات معتمدة من الوزارة الوصية يختم عليها رئيس الجامعة في شتى المجالات، بما فيها بعض المجالات الحساسة، كالطب والصيدلة والهندسة المعمارية، جاء الدور على الجامعة العمومية كي توفر تكوينات أساسية مؤدى عنها، تمنح بموجبها نفس الدبلومات التي يحصل عليها الطلبة المسجلون في التكوينات الأساسية.

ربطا بما تتحدث عنه، كيف يتناقض هذا التوجه مع ما جاء في القانون الإطار بخصوص “ضمان الحق في الولوج المعمم”؟

القانون الإطار يؤكد على ضمان الحق الكامل لجميع المواطنين في الوصول إلى مؤسسات التعليم العالي دون تمييز وبنفس شروط الجودة. إدخال تكوينات مؤدى عنها داخل المؤسسات العمومية يخلق مستويين من الولوج: طلبة يستفيدون من التعليم المجاني وآخرون يدفعون مقابلاً مالياً. هذا التفاوت يضرب مبدأ تكافؤ الفرص، ويخلق واقعاً تعليمياً بسرعتين داخل المؤسسة نفسها، مما يتنافى مع روح الولوج المعمم الذي يجعل أصل التعليم العمومي قائماً على المساواة بين الجميع.

أضف إلى ذلك، واقع البلاد المتسم بغياب المراقبة والمحاسبة، مما يفتح الباب على مصراعيه على المجهول. مثال ذلك، الفرض التعسفي لرسوم التسجيل في التكوين الميسر للطلبة الذين يتلقون تكوينهم في التوقيت الأساسي مثل طلبة الدكتوراه.

في نقدكم للبنود المرتبطة بالعلاقة بين القطاع العام والخاص، تحدثتم عن “تدليس” يشرعن لتبديد المال العام من خلال استفادة القطاع الخاص من موارد الدولة باسم هذه الشراكة، كيف ذلك؟

الإشكال لا يتعلق بالشراكة في حد ذاتها، بل بالشروط التي تُطرح بها في المشروع. هناك منح واسع للقطاع الخاص إمكانية الاستفادة من موارد الدولة، سواء عبر مساهمة الجامعات في رأسمال مؤسسات خاصة، أو عبر استعمال البنيات والتجهيزات العمومية دون مقابل واضح أو دفتر تحملات صارم. عندما تضخ أموال عامة في مشاريع خاصة دون ضمانات فعلية لاستفادة الجامعة والمجتمع من البحث العلمي والتكوين، تتحول الشراكة إلى آلية لإعادة توجيه موارد الدولة نحو منطق الربح الخاص، بدل تحقيق المصلحة العامة. ولك، أن تتخيل مآلات فتح باب المال العام بهذا الشكل للمؤسسات الخاصة، علما أن الواقع الحالي يؤكد صرف أضعاف ما يصرف للجامعات العمومية لبعض المؤسسات الخاصة، علما أنها تستخلص مقابلات مادية ضخمة ولا تؤطر أعشار ما تخرجه الجامعة العمومية من الطلبة.

القطاع الخاص هو معني مع الجماعات الترابية بتمويل التعليم العالي والبحث العلمي العمومي أساسا وفق تعاقدات وشراكات مواطنة. ولدينا الكثير من النماذج العالمية الدولية في هذا الباب.

 لأن التعليم العالي مجال اجتماعي استراتيجي للدولة والمجتمع ولا يمكن للدولة أن تسمح بأن يتحول إلى مجال ربحي صرف لمراكمة الثروات للرأسمال على حساب مستقبل البلد. كما أن السياسة الضريبية للدولة ينبغي أن تأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار في سياستها الجبائية في التعامل مع المقاولة والتزامها بمسؤولياتها المجتمعية المواطنة.

 ولابد من تعاقد بين الدولة والقطاع الخاص والجماعات الترابية وفق دفاتر تحملات موجهة تخدم استراتيجية وطنية لتطوير الكفايات المهنية لخريجي المنظومة التعليمية، واحتضان مشاريع المقاولات، وتطوير مشاريع البحث العلمي والابتكار لتستجيب لأولويات المجتمع اجتماعيا واقتصاديا لتحقيق الاكتفاء الذاتي وحماية السيادة الوطنية ومنح المشروع الوطني التنموي الانطلاقة الحقيقية نحو بناء مجتمع المعرفة في زمن الرقمنة والذكاء الاصطناعي.

ما هي أهم مقترحاتكم بخصوص تحقيق نهضة للجامعة المغربية لتكون منارة للمعرفة وقاطرة للتنمية ومشتلا للديموقراطية؟

تحقيق نهضة حقيقية للجامعة المغربية يقتضي قبل كل شيء إطلاق حوار وطني واسع يشارك فيه جميع الفاعلين من أساتذة وإداريين وطلبة ومختصين، قصد تحديد الرؤية التربوية والاختيارات الكبرى التي يجب أن يقوم عليها التعليم العالي. كما يفترض إجراء تشخيص موضوعي للإكراهات والتحديات التي تعيشها الجامعة حالياً، مع الاستفادة من التجارب السابقة وتجنب تكرار منطق الإصلاح التجزيئي. ومن الضروري أيضاً تحصين السيادة التعليمية حتى لا تكون السياسات الجامعية خاضعة لإملاءات خارجية أو لمنطق السوق وحده، إضافة إلى تحسين أوضاع الأستاذ الباحث باعتباره حجر الزاوية في العملية الأكاديمية، وتمكينه من شروط العمل التي تحفز على الإنتاج العلمي الجاد. وإلى جانب ذلك، ينبغي إرساء حكامة ديمقراطية داخل الجامعة تضمن المشاركة الفعلية لكل مكوناتها في اتخاذ القرار، وتعزز الاستقلالية الأكاديمية والمؤسساتية بما يجعل الجامعة فضاءً للمعرفة والبحث والإبداع، وقاطرة حقيقية للتنمية ومشتلاً للديمقراطية.