مقدمة
لا شك أن الكلَّ مُجمِع على أن الإنسان عندما يولد في هذه الدنيا يولد مكرّما، ومن حقّه أن يحيى حياة كريمة، سواء كان ذلك في التصور الديني، أو التصور الفلسفي أو التصور الحقوقي. هذا على مستوى قيمة الكرامة وأهميتها، أما على مستوى دلالة المفهوم، فلكل تصور من هذه التصورات دلالته الخاصة لمفهوم الكرامة.
والجميع أيضا يعتبر أن الكرامة الإنسانية ليس مفهوما مجردا، بل هو مفهوم له واقع لا تنفصل فيه الكرامة عن الحرية، وعن العدالة، وعن حقوق الإنسان، وعن العيش الكريم، وعن الأمن، وعن الاحترام والتقدير، وعن مجالات الحياة بصفة عامة. الكرامة بهذا المفهوم تعتبر قيمة إنسانية مشتركة مهمة يمكن لها أن تؤدي دورا كبيرا في قضايا التعارف والتعاون والتراحم الإنساني.
إذا نظرنا إلى التصور الإسلامي للكرامة سنجده يختلف كثيرا عن التصورات الأخرى، سواء في النظرية أو في التطبيق. السبب بكل بساطة أن للإسلام حول الكرامة رؤية متكاملة وشاملة.
وقد ذكر ابن قتيبة أن جميع ألفاظ الكرامة ومشتقاتها في القرآن الكريم ترجع إلى معنى واحد وهو الشرف 1.
أهمية الكرامة في الإسلام
تحتل الكرامة الإنسانية في التصور الإسلامي حيزا كبيرا من الأهمية، سواء من حيث الإثبات أو من حيث الحفظ.
من ناحية الإثبات فقد تمّت الكرامة للإنسان من جهتين:
الأولى: من جهة الأصل، وذلك بتكريم الله سبحانه وتعالى لسيدنا آدم عليه السلام، يقول الله عز وجل على لسان الشيطان: قالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 62].
والثانية: من جهة النسل، بتكريم بني آدم، يقول الله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء: 70].
أما من ناحية الحفظ لهذه الكرامة الإنسانية وعدم تعريضها للإهانة والانتهاك فقد تمّ من جهتين كذلك:
الأولى: من جهة الذات بعدم إهانة الإنسان لنفسه بأن يرضى لها الذل والدّنية طوعا أو كرها، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أصبح وهمّه الدنيا فليس من الله في شيء، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن أعطى الذّلة من نفسه طائعا غير مكره فليس منا” 2.
والثانية: من جهة ذوات الآخرين باحترامها وتقديرها وحمايتها والدفاع عنها. يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11].
فالكرامة الآدمية/الإنسانية هذه القيمة الأساسية العظيمة لهذا الإنسان عنها تتفرع القيم الأخرى من حرية وعدالة وإنصاف وغيرها. فبدون الكرامة يبقى الإنسان بدون قيمة اعتبارية، بمعنى أنه يبقى بلا إرادة، فلا يعمل ولا ينتج ولا يبدع. مما يدفعه في الأخير إن سُلبت منه قهرا إلى أن ينتفض ويثور لطلب كرامته فرديا أو جماعيا كثورات الكرامة والحرية والعدالة.
الكرامة الآدمية اعتبرها البعضُ مناطَ التكليف، والبعض الآخر اعتبرها من مقاصد الشريعة المراد حفظها، كما نجد عند الدكتور عبد المجيد النجار في كتابه “مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة”. وما نهى الشرع عن الغيبة والنميمة واللمز والهمز والغمز إلا لحماية وصيانة هذه الكرامة معنويا وبالأحرى ماديا عن طريق الإهانة الجسدية فهذا النهي عنه أشد.
في جانب التنظير، قامت مبادئ الإسلام وتعاليمه وقيمه كلها على احترام الكرامة الإنسانية وصونها وحفظها، وعلى تعميق الشعور الإنساني بهذه الكرامة. وفي جانب التطبيق جاءت الأحكام الفقهية جميعها حافظة للكرامة الإنسانية بنوعيها الفطري والمكتسب.
والمتأمل في التطبيقات الفقهية يجدها تطبيقا وتأكيدا لهذه الكرامة الإنسانية التي أرسى القرآن الكريم مبادئها، وفصَّل مظاهرها، حيث جاءت هذه التطبيقات موافقة ومرسخة لهذه الكرامة ومعلية لها، تجلى هذا التطبيق في كثير من الأحكام الشرعية المرتبطة بمعاملة ذوي الاحتياجات الخاصة، وبالقضايا الطبية، وبمجال تقييد الحريات، وبحالة الحروب والأسرى، وبحالة الموت والوفاة، وغيرها.
أنواع الكرامة في الإسلام
يعتبر الإسلام الكرامة التي منحها الله تعالى للإنسان أنها نوعان:
الأول: كرامة عامة آدمية، تكون لكل إنسان باعتباره آدميا بغض النظر عن اعتباراته العقدية واللغوية والجنسية والوطنية وغيرها. يقول الله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء: 70].
والثاني: كرامة خاصة إيمانية، تكون لكل إنسان باعتباره مؤمنا يتقي الله عز وجل، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13]. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى” 3. وللبخاريِّ في “الأدب المفرد” من طريقِ عبدِ الملكِ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: “لَا أَرَى أحَدًا يَعْمَلُ بهذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى حتى بلغ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، فيقولُ الرَّجُلُ للرَّجلِ: أَنَا أَكْرَمُ منك! فَلَيْس أَحَدٌ أَكْرَمَ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بتقوى الله”.
يسمي البعض النوع الأول من الكرامة بـ”الكرامة الوهبية”، أما النوع الثاني فيسميه بـ”الكرامة الكسبية”؛ بمعنى أنها تحتاج إلى اجتهاد وعمل لاكتسابها. وعمل الدعاة في هذا الباب هو نقل الناس والارتقاء بهم من الكرامة الإنسانية إلى الكرامة الإيمانية، من خطاب الله تعالى لهذا الإنسان بـــ”يا أيها الإنسان” منفردا، إلى خطاب الله تعالى لهذا الإنسان بـ”يا أيها الذين آمنوا” وسط جماعة المؤمنين.
وبفضل هذه الكرامة الإيمانية في الدنيا يدخل المؤمن دار الكرامة في الآخرة، ويُلبس تاج الكرامة وحلة الكرامة بفضل تعلّقه بالقرآن في الدنيا قراءة وتدبرا وحفظا وعملا. فقد جاء في الحديث النبوي الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “يَجِيءُ صاحِبُ القُرآنِ يومَ القِيامةِ، فيقولُ القرآنُ: يا رَبِّ حلّه، فيَلْبسُ تاجَ الكرامةِ، ثُم يقولُ: يا ربِّ زِدْه، فيَلبسُ حُلَّةَ الكرامةِ، ثُم يقولُ: يا ربِّ ارْضَ عَنه، فيَرضَى عنه، فيُقالُ لهُ: اقْرأْ، وارْقَ، ويُزادُ بِكُلِّ آيةٍ حسنةً” 4.
مصدر الكرامة
الكثير ممن يتحدث عن الكرامة الإنسانية يعتبرها حقا طبيعيا متجذرا في حياة الإنسان بالفطرة، ثم بعد وعيه بها يُعبر عنها بصيغ مختلفة دينية وفلسفية وسياسية وحقوقية. في التصور الإسلامي زيادة على ذلك، بل وقبل ذلك يؤكد على أن مصدر الكرامة هو الله تعالى قبل كل شيء. فهو من خلق هذا الإنسان وهو من كرّمه. وإذا أراد الله أن يهينه فلا يستطيع أحدٌ أن يُعزّه ويمنح له هذه الكرامة. يقول الله تعالى: ومَن يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن مُكْرِمٍ [الحج:18].
جاء في تفسير فتح القدير للشوكاني: ومَن يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن مُكْرِمٍ أيْ مَن أهانَهُ اللَّهُ بِأنْ جَعَلَهُ كافِرًا شَقِيًّا، فَما لَهُ مِن مُكْرِمٍ يُكْرِمُهُ فَيَصِيرُ سَعِيدًا عَزِيزًا. وحَكى الأخْفَشُ والكِسائِيُّ والفَرّاءُ أنَّ المَعْنى: ومَن يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن مُكْرِمٍ: أيْ إكْرامٍ، إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ مِنَ الأشْياءِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الشَّقاوَةِ والسَّعادَةِ والإكْرامِ والإهانَةِ.
وجاء في تفسير ابن القيم الجوزية: قالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: هانُوا عَلَيْهِ فَعَصَوْهُ، ولَوْ عَزُّوا عَلَيْهِ لَعَصَمَهُمْ، وإذا هانَ العَبْدُ عَلى اللَّهِ لَمْ يُكْرِمْهُ أحَدٌ، كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن مُكْرِمٍ. وَإنْ عَظَّمَهُمُ النّاسُ في الظّاهِرِ لِحاجَتِهِمْ إلَيْهِمْ أوْ خَوْفًا مِن شَرِّهِمْ، فَهم في قُلُوبِهِمْ أحْقَرُ شَيْءٍ وأهْوَنُهُ.
ومما يدل على أن الله تعالى هو مصدر كرامة الإنسان قبل الفلسفة والقانون والسياسة والمواثيق ما سنستعرضه من مظاهر الكرامة الآدمية التي خصّ الله بها الإنسان، وهي كثيرة، منها:
– أن الله تعال خلق الإنسان بيديه.
– أن الله تعالى نفخ فيه من روحه.
– أن الله تعالى علمه من علمه.
– أن الله تعالى رزقه عقلا يميز به بين الخير والشر.
– أن الله تعالى أسجد له ملائكته سجود تكريم.
– أن الله تعالى جعله خليفة في أرضه واستعمره فيها.
– أن الله تعالى سخر له هذا الكون كله لخدمته ليكون هو في خدمه مولاه.
ولا تكتمل هذه الكرامة لهذا الإنسان إلا بالدّين، فهو الإطار الذي يحتضنها، إذ لا كرامة مستقرة بدون دين. فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “كَرَمُ المُؤْمِنِ دِينُهُ، وَمُرُوءَتُهُ عَقْلُهُ، وحَسَبُهُ خُلُقُهُ” 5. وفي رواية أخرى: “كرمُ المرءِ تقواه، ومروءتُه عقلُه، وحَسَبُه خُلُقُه” 6.
من خلال هذه المكانة العظيمة والكبيرة التي تحتلها الكرامة الآدمية في الإسلام، يتبين لنا أن أجمل تعريف للإسلام في حق الفرد أنه هو الكرامة. بمعنى أن الإسلام ما جاء إلا ليُعزّز هذه الكرامة للإنسان ويثبتها له من خلال رؤية متكاملة وشاملة، بحيث إن الكرامة التي يريدها الإسلام للإنسان ويؤكد عليها مساحة معانيها كبيرة جدا، فهي تغطي ما يدعو إليه دعاة القيم الكونية من كرامة إنسانية وجودية وحقوقية وتزيد عليه بمساحة أخرى متبقية ينفرد بها.
وهذه المساحة المتبقية التي ينفرد بها الإسلام، ومنها:
أولا: الكرامة الأخروية في دار الكرامة، هذا غير وارد في الرؤى الفلسفية.
ثانيا: الكرامة الذاتية التي ينهى الإسلام صاحبها عن إذايتها بنفسه ويدعوه إلى احترام نفسه. في حين عند دعاة القيم الكونية مسموح بذلك ولو بالانتحار تحت يافطة “الموت الرحيم”. وما نراه في المجتمعات الغربية التي تسمح بأن يكون الإنسان حيوانا يمشي على أربع هو أكبر إهانة إنسانية عرفته البشرية.
ثالثا: الكرامة الإيمانية التي هي درجة في الكمال الإنساني لتحقيقه للتقوى.
رابعا: صيانة الكرامة في الإسلام دقيقة جدا تفوق ما يفرضه دعاة القيم الكونية من قوانين وتشريعات، فهو يعتبر الوازع الديني أكبر وسيلة لاحترام كرامة الإنسان والحفاظ عليها ذاتيا وعند الآخر.
خاتمة
فإذا يبدو من خلال ما سبق ذكره أن الإسلام كما يتميز في رؤيته المتكاملة للكرامة نظريا يتميز فيها كذلك عمليا في الواقع. من دون أن نذهب بعيدا في التاريخ لنستدعي الشواهد، يكفي الاستشهاد بما وقع في الحرب على غزة وفلسطين. فلقد شاهدنا وتابعنا كيف كانت الحرب بين طرف يُهين كرامة الإنسان إلى أقصى حدّ وبأبشع الصور، وهذا الطرف يمثله الكيان الصهيوني، وبين طرف يحترم كرامة الإنسان بأرقى ما يمكن أن يتعامل به الإنسان ولو كان عدوا، وهذا الطرف يمثله الفلسطينيون المجاهدون في غزة.
وخير مثال على هذا؛ التعامل مع الأسرى. اليهود يتسلمون أسراهم وكأنهم كانوا في سياحة مكرمون أيما تكريم، بينما الأسرى الفلسطينيون عاشوا أكبر إهانة في سجون الاحتلال، عليهم آثار التعذيب والتنكيل إلى أقصى حدّ.
هذه الإهانة للكرامة الإنسانية لا تخفى على دعاة القيم الكونية من العالم الغربي ومع ذلك لم يستنكرها أحد منهم باستثناء بعض الفضلاء وهذا يحسب لهم. ولكن ما دام الغرب بمعظمه لم ينكر ذلك بمعنى أنه يؤمن بتلك الإهانة وبالتالي فهو مشارك فيها بشكل من الأشكال ودعواه للكرامة الإنسانية يعاد فيها النظر.
نعم الكل يؤمن بالكرامة الإنسانية، ويتغنى بها، لكن النظرة إليها تختلف، والتجسيد العملي لها يختلف كذلك. إننا في أشد حاجة الى إظهار هذه الرؤية المتكاملة للإسلام حول الكرامة الإنسانية، ووضعها في مشاريع تعريفية وتوعوية لتعزيزها في الواقع.
[2] رواه الإمام الطبراني.
[3] رواه الإمام أحمد وغيره.
[4] أخرجه الإمام أحمد والترمذي باختلاف يسير.
[5] أخرجه أحمد في مسنده.
[6] أخرجه البزار أبو يعلى والطبراني واللفظ له. وقيل إسناده ضعيف.