حلقات في تاريخ الأسرة المغربية

Cover Image for حلقات في تاريخ الأسرة المغربية
نشر بتاريخ

«ما يكون لكمالها العلمي والخلقي وتقواها إلا زينةٌ عقيمة إن أفادتها إفادة فهي فائدة محدودة، ينقطع بعد الموت عملها إن لم تُخَلِّفْ ذرية صالحة، إن لم تساهم في بناء الأمة، إن لم توظِّف كمالها العلمي والخلقي والقلبي في صنع مستقبل أمتها، واكتفَتْ بكونها معْبَراً لبروز الذرية، ومحطة لمرورها» (1).

درة عزيزة من درر الإمام، نستهل بها الغوص في الذاكرة المغربية، نستجلي ما غيبته الكتابات من أدوار وازنة للمرأة، وبوبته في غير بابه، نعيد قراءة فصول من تاريخ سطرته آيادي نسائية، أسهمت في بناء أمة وصناعة رموزها. قراءة معتبر تروم استنهاض همم تحمل هم إحياء وظيفة الفطرة، التي استهدفت تحت مسميات حقوقية استفرغت من روحها، التي بها وعليها تنجمع أكباد اليوم وعُمَد الغد… تلك هي وظيفة الأمومة عماد الأسرة.

دور الأسرة في التربية

تعتبر الأسرة الخلية الأولى التي يتلقى فيها الطفل الأساسيات الأولى في التربية، ينطبع بطابعها ويتأثر بتوجيهها. وبحكم التواجد الدائم للمرأة في البيت، يكون لها تأثير أقوى من الأب، وغيابها بدوره يؤثر بشكل سلبي على نفسية الأبناء. وقد ترسخ لدى المجتمع عبر العصور، أن صلاح الأبناء مرتهن بصلاح الأمهات، غاضين الطرف عن الأب ضمن ما تكرس من فكر ذكوري، ينزه الرجل ويؤثم المرأة، على الرغم من ثبوت مسؤوليته في كثير من الأحيان.

واللافت للانتباه ما تتداوله الأمثال الشعبية وبعض الثقافات، التي تعتبر أبناء من يتفرغن للعلم نشأ فاضلا، بل وينعتونهم بـ”أولاد السيدات الزكيات” (2)، بحكم تأثير ما يتشربونه من علم على تكوينهم التربوي (3). وبالفعل ذاك ما لاحظناه من خلال تفحص تراجم بعض الأعلام النسائية، التي أكدت ارتقاءهن إلى الكمال الوظيفي لتمكنهن من استثمار كمالهن العلمي في توجيه نشئهن؛ توجيها أسهم في صنع رجال كانوا بالفعل حلقة منيرة في تاريخ المغرب، شاركوا في البناء وخلدوا إنجازات، حق للمرأة المغربية أن تفخر بما صنعت أمومتها.

أثر الأم في تكوين الأعلام

أدركت المرأة أهمية دورها في تربية أبنائها بفضل العلم الذي تلقته، فعملت على تهيئة نشء قادر على المشاركة الفاعلة في مجتمعه، حاملا وليس محمولا، فكانت المرأة في كثير من الأحيان تتقلد مهمات أكثر من طاقتها في سبيل ذلك، فتقوم بدور الأب والأم معا. وهو ما لمسناه في أنموذج الفقيهة العالمة “أم البنين” جدة العالم الفقيه “أحمد زروق”، التي تكفلت بتربيته بعد أن فقد والديه في الأسبوع الأول من ولادته، فأحسنت تربيته وحرصت على تعليمه العلوم كما الأساسيات الأولى للعقيدة الصحيحة فضلا عن تحفيظه كتاب الله الذي أتمه في سن العاشرة، يقول أحمد زروق في كناشته حول ذلك: “فكانت تعلمني التوحيد والتوكل والإيمان والديانة بطريق عجيب، وذلك أنها كانت في بعض الأيام تهيئ لي طعاما، فإذا جئت من الكتاب للفطور تقول: ما عندي شيء، ولكن الرزق في خزائن المولى عز وجل، فاجلس نطلب الله، فتمد يديها وأمد يدي إلى السماء داعيين ساعة، ثم تقول، انظر لعل الله جعل في أركان البيت شيئا فإن الرزق خفي، فنقوم نفتش أنا وهي، فإذا عثرت على ذلك الطعام يعظم فرحي به، وبالله الذي فتح به، فتقول: تعال نشكر قبل أن نأكله، لأجل أن يزيدنا مولانا، فنمد أيدينا” (4).

وبالمثل فإن ما يؤكد تأثير الأم والأسرة بشكل عام في صقل شخصية الأبناء، هو ما صادفناه من علاقة القرابة بين مناصر المرأة؛ الفقيه أحمد بن عرضون (5)، وبين العالمة العريفة بنت خجو جدته لأمه (6)، وهذا يعني أن ما طبع شخصية هذا العالم، وما عرف عنه من تكريم للمرأة، وحرصه على إصلاح كل ما من شأنه أن يهدم الروابط الأسرية من خلال اجتهاداته، لهي أصدق دليل على تأثره بالجو العلمي والبيئة المتنورة التي عاش في أحضانها، فضلا عن العين الحافظة التي كانت حاضرة في حياته؛ عين المرأة العالمة بأصول الدين، الذي أهلها لتميز بين الشرع والعرف؛ فكان من تأثير ذلك ما وجدناه لدى عالم أنصف المرأة في كثير من القضايا، بجرأة قل نظيرها في ذلك العصر.

وغير بعيد عن هذه الأسرة العالمة، نلمح تأثير الأخت الكبرى للعريفة؛ آمنة بنت خجو على أسرتها التي أنجبت العالمين محمد بن عبد الله الهبطي المعروف بالكبير، ومحمد بن عبد الله الهبطي المعروف بالصغير، اللذين اشتهرا بنزاهتهما وعلو شأنهما في مجموع العلوم التي كانت تدرس بالقرويين آنذاك (7). تشربا من هذه الأم الفاضلة الصلاح وحب العلم الذي كان حافزا لهما للسير قدما في مسيرة علمية إصلاحية تؤكد تأثرهما بها في أمر الدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر، التي كانت حريصة مع زوجها على القيام بها في زاويتيهما، ضمن ما عرفا به من اجتهاد في بسط منظومات وخطط إصلاحية من خلال ما ألفاه من كتب (8).

في نفس السياق صادفنا تأثير العالمة العابدة عائشة بنت أحمد الإدريسية (9)، في تكوين نجلها ابن عسكر العلمي (10)، خاصة في الفقه والتصوف، وذلك بفضل البيئة الصالحة التي هيأتها له، فقد كانت من أعلام التصوف، عرفت بحسن تدينها وحرصها على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم النساء أمر دينهن، فلا مراء أن يكون من تجليات هذا التأثير؛ ما طبع شخصيته التواقة إلى كل ما هو روحي، واستثماره في علم التأريخ (11).

وتطالعنا المصادر بأم فاضلة أخرى وليست أخيرة من أعلام القرآن والحديث، رحمة بنت الجنان والدة شيخ الجماعة وأحد أعلام المغرب الإمام أبو عبد الله ابن غازي المكناسي (ت 919هـ)، عالم القراءات، والتفسير، والحديث، والحساب، والنحو، واللغة، والتاريخ، كان لوالدته الفضل الأكبر في تنشئته على حب العلم والأخلاق الفاضلة.

إن المثير في سير هذه الأعلام، هو ما أكدته المصادر حول توفيقهن بين الوظيفة الطبيعية والوظيفة العلمية الدعوية، فمعظمهن كن ربات بيوت، لم تمنعهن مشاركتهن الوازنة في المجتمع، أن يسهمن في صناعة الإنسان، بشكل يليق بأهل العلم والصلاح. فقد بذلن جهدا كبيرا في تهييء رجال كان لهم شأو في المجتمع.


(1) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، 1996، ص 219.

(2) محمد بمب درامي، بصمات نسوية في تكوين الأعلام الصوفية السنغالية خلال القرن 19 و20م، ضمن المرأة في الغرب الإسلامي، ص 182.

(3) المرجع نفسه.

(4) أحمد زروق، الكناش صور من الذكريات الأولى، تقديم وتحقيق علي فهمي خشيم، المنشأة الشعبية للنشر والتوزيع والإعلان، المكتبة الزروقية، ص13.

(5) أحمد بن القاضي، جذوة الاقتباس..، ج1، ص 160.

(6) فاطمة بوشمال، المرأة والسلطة بشمال المغرب خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين من خلال بعض النماذج، ضمن المرأة في الغرب…، ص 274.

(7) محمد حجي، الحركة الفكرية في عهد السعديين، ج2، صص 467-468.

(8) المرجع نفسه.

(9) محمد بن عسكر، دوحة الناشر…، ص 23-24-25-26-27.

(10) أحد أعلام التاريخ والقضاء.

(11) مقدمة دوحة الناشر، ص 8.