عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “استحيوا من الله حق الحياء”، قلنا: إنا لنستحيي من الله يا رسول الله والحمد لله. قال: “ليس ذلك، ولكن الحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء” (أخرجه الترمذي بإسناد صحيح).
هذا الحديث قبس من أقباس النبوة يكشف لنا كنزا من كنوز السنة، إن حفظناه واعتنينا بمعانيه وجعلناه نبراسا يضيء لنا الطريق عشنا في نعيم في هذه الحياة الدنيا، وفزنا بالنجاة في الآخرة. والحاجة تدعو بإلحاح في وقتنا الحاضر إلى استحضار معاني هذا الحديث والتذكير بها خصوصا في مجتمعاتنا التي بدأت تطفو على سطحها مظاهر تومئ أن هذا الخلق العظيم بدأ يبهت ويفقد أثره في النفوس والعقول والأبدان… وهو الخلق الذي يتميز به الدين الذي ارتضاه الله للناس، روى الإمام مالك في الموطأ مرسلا “إن لكل دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء”. فإذا فقد الحياء فسد السلوك الاجتماعي عامة، وانتشرت الرذيلة، وطالت جميع جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية… لذا جاء الإرشاد النبوي العام الذي لا يختص بزمان دون زمان، ولا بمكان دون مكان ليعلمنا حق الحياء.
الحياء صفة في النفس تمنع صاحبها من ارتكاب المحظور مخافة الذم، وهذا معنى عام يتضمن:
الحياء من الناس: وهو خلق فاضل له أثره الجميل دون شك، وهو مشترك بين الكافر الفاضل ذو المروءة والمسلم ذو المكارم.
الحياء من الله: وهو المقصود الأعظم من الحديث، يختص به المؤمنون الصادقون، لأن الحياء شعبة من شعب الإيمان، جاء في الحديث الشريف الذي رواه الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الإيمان بضع وسبعون شعبة” ـ عند البخاري بضع وستون ـ زاد مسلم: “أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان”.
اختص رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبة الحياء بالذكر دون غيرها من الشعب، وجعلها تتراوح بين أعلى الشعب وأدناها، وهذا بدون ريب لم يكن عبثا منه صلى الله عليه وسلم، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، بل لأن الحياء قطب رحى الدين، والمركز الذي تدور حوله سائر الشعب، والروح السارية في عبادة الله ومعاملة الناس، به يعد المجتمع مؤمنا حقا، فالحياء خير كله، للفرد والمجموع، أصله ثابت وفرعه مثمر، قال صلى الله عليه وسلم: “الحياء خير كله” أو قال: “كله خير” (أخرجه الشيخان عن عمران بن حصين).
ولكن ما حقيقة الحياء المطلوب، هل حياء الخجل والانزواء، والمرور من الدنيا في صمت كأن لم يمر منها المرء قط دون أن يترك أي أثر طيب في محيطه ومجتمعه، أم أنه مقتصر على مراقبة العباد كالذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله؟
إن حقيقة الحياء أعظم من ذلك وأكبر، أجمله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآتي:
– حفظ الرأس وما وعى.
– حفظ البطن وما حوى.
– ذكر الموت والبلى.
– إيثار الحياة الباقية على زينة الحياة الدنيا الفانية.
الحياء الحقيقي هو الذي يبعث صاحبه على حفظ جوارحه كلها:
الرأس وما وعى: ما حوى من عقل يفكر به تفكيرا صحيحا قويما يهتدي به إلى الصراط السوي المستقيم، يميز به بين الصحيح والسقيم، وما حوى من سمع وبصر وكلام، فلا يسمع إلى فحش، ولا ينظر إلى محرم، ولا ينطق ببذيء الكلام. لأن السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (الإسراء، من الآية 36).
فالحياء من الله ومن الناس وازع عن القول السائب وعن الفعل العائب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق” (أخرجه الترمذي عن أبي أمامة الباهلي بإسناد صحيح)، والعي: قلة الكلام، والبذاء: الكلام الفاحش، والبيان: كثرة الكلام.
والبطن وما حوى: أي حفظ بطنه من أكل الحرام، وحفظ شهوته، ولا يشيع الفاحشة في الذين آمنوا بأي وسيلة من الوسائل، فلا يمشي إلى رجس منكر، ولا يعتدي على غيره، ولا يكون سببا في فتنة.. فمن استحيى من الله حق الحياء كان فعله كله مرضيا.
ولا تقصر حقيقة الحياء على هذا، بل الحياء الذي يريده الله تعالى هو الذي يجعل المرء يستحضر مصيره الدنيوي الآيل إلى البلى والفناء، ويستحضر مصيره الأخروي في تعامله مع الله ومع نفسه ومع الخلق أجمعين.
إن ذكر الموت وذكر الآخرة عاصم لمن تنفعه الذكرى من أن يقع في الكبائر والزلات والأخطاء، معين لمن زهدت نفسه في ملذات الدنيا وزخرفها، فلا يفتتن بزينتها، ويجعلها قنطرة يمر عبرها ليصل إلى سعادة أبدية لا تموت ولا تفنى. وهذا يؤهله للدخول في زمرة العابدين الصالحين الذين عرفوا الله حق المعرفة، وعلموا أنه لا إله إلا الله، فعبدوه حق العبادة، وراقبوه في السر والعلن، وذكروه عند النعم والمحن، وساقهم شوقهم له إلى التقرب منه وعبادته كأنهم يرونه، واستحيوا منه لأنهم أيقنوا أنه سبحانه رقيب عليهم، يعلم سرهم وعلانيتهم، وهذا من علامة السعداء. قال الإمام الرفاعي: “علامة السعداء ثلاث: التمسك بسنة النبي المختار، والصحبة مع الأولياء الأخيار، والحياء من الملك الجبار”.
وهذا الحسن بن العلي كان إذا توضأ ليصلي اصفر لونه وارتعدت فرائصه، فقيل له في ذلك فقال: “حق لمن وقف بين يدي رب العرش أن يتغير لونه حياء من إجلاله”.
وتجدر الإشارة إلى أنه لا ينبغي الاكتفاء بالتحلي بهذه الصفة واكتساب هذه الشعبة الإيمانية، بل يجب تربية الأجيال عليها والدعوة إليها والتذكير بها حتى تعود قيمتها داخل المجتمع، وحتى تصبح قاعدة عامة لإعادة بناء صرح الأمة بالوسائل المتاحة، لأن غياب الحياء يجعل المجتمعات الإسلامية عرضة لأطماع الطامعين، وموئلا للعاب الجائعين.
اللهم ارزقنا الحياء منك حق الحياء.