مقدمة
يقول الله عز وجل: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (آل عمران: 104). هذا أمر من الله تعالى إلى المؤمنين للقيام بمهمة الأمر بالخير والنهي عن المنكر متى دعت الحاجة إلى ذلك، والملاحظ أن الخطاب هنا موجه إلى الجمع، مما يعني الندب إلى تأسيس جماعة مهمتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد عاشت الأمة الإسلامية قرونا ابتعدت فيها عن الامتثال التام لشرع الله، وصارت العبادات أشكالا بلا روح، والعقائد الإيمانية دخلتها الخرافات، والسلوك الإسلامي طبعه الخمول والكسل، والإرادة قتلت. وحتى حضاريا نجد المسلمين في مؤخرة الركب عن الأمم، رغم تاريخهم المجيد والمقومات العظيمة التي جاء بها الإسلام.
ولتغيير هذا الوضع، وللقيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظهر في القرون المتأخرة مجموعة من الأعلام، كالإمام ابن تيمية رحمه الله. ومن هؤلاء من نهض لهذه الوظيفة بتأسيس جماعة، كما هو الشأن للإمام حسن البنا والمودودي رحمهما الله… وإلى جانب هؤلاء الأعلام أيضا نجد الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، الذي أسس جماعة مهمتها التغيير عبر تصور يستند إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فما حقيقة التغيير في فكر الإمام رحمه الله؟ وما أصوله التي يستند إليها؟ وما غايته؟ وما السبيل إليه؟
1- ما المقصود بالتغيير في فكر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله؟
إن التغيير في فكر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله هو تغيير عميق شامل متعدد الأوجه؛ “تغيير من داخل الإنسان، من تربية الإنسان، من تعليم الإنسان. التغيير أجيال، التغيير أمهات صالحات، التغيير مدرسة صالحة، التغيير مَنَعةٌ ضد الامتداد السـرطاني للثقافة الدوابية، التغيير إعادة بناء الأمة على أصولها، التغيير تعبئة أمة، قومة أمة” 1. لكن، جوهر التغيير وأساسه وحقيقته هو الدعوة إلى الله، وإنقاذُ الإنسان من ظلام الكفر، وقتامة النفاق، وقذارة معصية الله تعالى، وغبش الغفلة عنه، المؤدية إلى بؤس الدنيا وعذاب الآخرة… فلا قيمة للتغيير إن افتقد هذا الجوهر. يقول الإمام رحمه الله: “وكل تغيير في السياسية والاقتصاد فإنما هو تبَعٌ لهذا التغيير الكلي الجوهري للإنسان، ونفسيته، وعقيدته، وأخلاقه، وإرادته، وحركته كلها على الأرض، لتكون حركةً لها غاية، ومعنى، وارتباط بمصيره بعد الموت، وبمصير أمته في التاريخ” 2.
هذه مهام جليلة وكبيرة لا ينفع معها التدبير البشري وكسبُ الإنسان فقط، بل لا بد من إقبال على الله تعالى وتضرع إليه لاستمداد العون منه، مع الإخلاص له عز وجل.
يبدأ التغيير، أو تغيير ما بالنفس، بالتوبة النصوح إلى الله، وهو ما عبر عنه الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله بـ “اقلب دولة نفسك”. يقول رحمه الله: “توبوا بقلوبكم وبألسنتكم. التوبةُ قلبُ دولة! تقْلِبُ دَوْلَةَ نفسك، وهواك، وشيطانك، وأقرانِك السوءِ. إذا تبت قلَبْتَ سمعك وبصرك ولسانك وقلبك وجميعَ جوارحك. وتُصَفِّي طعامَك وشرابَك من كدر الحرام والشُّبْهة، وتتورَّعُ في معيشتك وبَيْعك وشرائك. وتجعل كلَّ همك مولاك عز وجل. تُزيلُ العادةَ، وتترك مكانها العبادَة. تُزيل المعصية وتترك مكانها الطاعة. ثم تتحقق في الحقيقة مع صحة الشريعة، لأنَّ كل حقيقة لا تشهد لها الشريعة فهي زندقة. فإذا تحقق لك هذا جاءك الفَناءُ عن الأخلاق المذمومة، عن رؤية سائر الخلق. فحينئذ يكون ظاهرُك محفوظا، وباطنُك بربك مشغولا. فإذا تم لك هذا فلو جاءتك الدنيا بحذافيرها، ومكَّنَتْكَ منها، وتبِعكَ الخلقُ بأجمعهم، مَنْ تقدم ومن تأخر، لم يضرك ذلك، ولم يغَيِّرْك عن باب مولاك عز وجل، لأنك قائم معه، مُقبلٌ عليه، مشغولٌ به، ناظرٌ إلى جلاله وجماله” 3.
-لكن هذا “التغيير ما بالنفس” لن يكون إلا وفق ما جاء به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولن يكون هذا إلا بتشرب حقيقة الخلق والمصير الذي ينبه إليه قوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(الذاريات: 56).
2- على أي أصول ينبني التغيير في فكر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله؟
ينبني التغيير في فكر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله على أصلين عظيمين:
الأصل الأول: حديث جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان، وهو الحديث الذي رواه مسلم عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ يقول: “بيْنَما نَحْنُ عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ذاتَ يَومٍ، إذْ طَلَعَ عليْنا رَجُلٌ شَدِيدُ بَياضِ الثِّيابِ، شَدِيدُ سَوادِ الشَّعَرِ، لا يُرى عليه أثَرُ السَّفَرِ، ولا يَعْرِفُهُ مِنّا أحَدٌ، حتّى جَلَسَ إلى النبيِّ صَلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فأسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلى رُكْبَتَيْهِ، ووَضَعَ كَفَّيْهِ على فَخِذَيْهِ. وَقالَ: يا مُحَمَّدُ أخْبِرْنِي عَنِ الإسْلامِ، فقالَ رَسولُ اللهِ صَلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: الإسْلامُ أنْ تَشْهَدَ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ صَلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وتُقِيمَ الصَّلاةَ، وتُؤْتِيَ الزَّكاةَ، وتَصُومَ رَمَضانَ، وتَحُجَّ البَيْتَ إنِ اسْتَطَعْتَ إلَيْهِ سَبِيلًا، قالَ: صَدَقْتَ، قالَ: فَعَجِبْنا له يَسْأَلُهُ، ويُصَدِّقُهُ، قالَ: فأخْبِرْنِي عَنِ الإيمانِ، قالَ: أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ، ومَلائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، والْيَومِ الآخِرِ، وتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، قالَ: صَدَقْتَ، قالَ: فأخْبِرْنِي عَنِ الإحْسانِ، قالَ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فإنَّه يَراكَ، قالَ: فأخْبِرْنِي عَنِ السّاعَةِ، قالَ: ما المَسْؤُولُ عَنْها بأَعْلَمَ مِنَ السّائِلِ قالَ: فأخْبِرْنِي عن أمارَتِها، قالَ: أنْ تَلِدَ الأمَةُ رَبَّتَها، وأَنْ تَرى الحُفاةَ العُراةَ العالَةَ رِعاءَ الشّاءِ يَتَطاوَلُونَ في البُنْيانِ، قالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قالَ لِي: يا عُمَرُ أتَدْرِي مَنِ السّائِلُ؟ قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: فإنَّه جِبْرِيلُ أتاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ” 4.
والإحسان هو الإتقان. وأعلى مجالات الإحسان وأصلها الذي عنه تتفرع المجالات الأخرى في جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سؤال جبريل عليه السلام عن الإحسان: ”أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”. وأدنى مراتب الإحسان ما في حديث الموطأ أن امرأة بغيا رأت كلبا يلهث من العطش يأكل الثرى، فنزعت خفها وأدلته في بئر ونزعت فسقته فغفر الله لها.
هذه المعاني والمراتب تعطينا في مجموعها مواصفات المؤمن الصالح في نفسه وخلقه وتعامله مع المجتمع، تعطينا الوصف المرغوب لعلاقات العبد بربه وبالناس، وحتى بالأشياء… وهذه المراتب هي التي ندب الله إليها الهمم العالية في قوله عز وجل: ﴿سَارِعوا﴾ ﴿سَابِقوا﴾…
الأصل الثاني: حديث الخلافة على المنهاج النبوة
عن النعمان بن بشير قال: كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ بَشِيرٌ رَجُلًا يَكُفُّ حَدِيثَهُ، فَجَاءَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ فَقَالَ: يَا بَشِيرُ بْنَ سَعْدٍ، أَتَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُمَرَاءِ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ أَنَا أَحْفَظُ خُطْبَتَهُ، فَجَلَسَ أَبُو ثَعْلَبَةَ فَقَالَ حُذَيْفَةُ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ سَكَتَ” 5.
هذا الحديث يبين بالترتيب مع التراخي في الزمن المراحل التي تمر منها الأمة الإسلامية، وهي ولا شك مراحل مختلفة متتابعة، تتميز كل واحدة عن التي تليها تميزا على جميع المستويات، سواء في علاقة الحاكم بالمحكوم، أو علاقة الحكم بالإسلام، أو في علاقة الدنيوي بالأخروي… ويضع نصب أعين المؤمن الخلافة على منهاج النبوة التي هي مطمح التغيير.
بعد ما عاش المسلمون أعواما في ظل النبوة والخلافة الراشدة، حيث القرآن حاكم، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم متبعة، والدولة خادمة للدعوة وحامية لها، حدثت في تاريخ المسلمين صدمة كان لها أسوأ الأثر على حياة المسلمين، دنياهم وأخراهم، إذ انتقضت عروة الحكم وتحولت الخلافة إلى ملك عاض ثم جبري…
وغني عن البيان أن هناك فرقا بين الخلافة والملك؛ فالخلافة كما يعرفها ابن خلدون هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي، والنظر في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها (أي إلى المصالح الأخروية). وأما الملك فهو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي والنظر في مصالحهم الدنيوية. وهذا التمييز يبين لنا لماذا ذم النبي صلى الله عليه وسلم الملك في أكثر من حديث.
3- ما الغاية من التغيير؟
إن للتغيير في فكر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله غايتين:
- غاية عدلية، أو استخلافية: ترمي إليها تكاليف تهتم أساسا بعلاقة الأفراد بعضهم مع بعض، أو مع أجهزة الحكم، قوامها العدل بجميع صوره ومجالاته وفك رقاب الناس من ظلم الطغاة.
- غاية إحسانية: تقصد إليها تكاليف تهم بالأساس علاقة الإنسان بربه عز وجل، تعنيه هو أولا في مصيره وعاقبته..
من هنا نتبين أن التغيير هو كالآتي: دنيوي غايته إقامة العدل في الأرض، وأخروي من أجل تحقيق الإحسان، والأول في خدمة الثاني. وهذا يوافق تعريف ابن خلدون للخلافة.
لذا، فالعدل والإحسان ليس اسما لجماعة فقط، وإنما هو شعار تسعى الجماعة إلى تحقيقه بشقيه، وصفة يسعى الفرد لتحقيقها لنفسه والجماعة لأمتها. فأي كلام عن الجماعة من غير فهم لهذا الشعار/الاسم فهو قاصر عن بلوغ الحقيقة حتما.
والعدل والإحسان لفظتان قرآنيتان متلازمتان، يتضمنهما معا قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل: 90). هذه الآية الجامعة لأصول التشريع الإسلامي جاءت في سياق بيان أن القرآن الكريم كلام الله تعالى تبيان لكل شيء، وهو هدى ورحمة وبشرى للمسلمين.
إن العدل مقصد شرعي وأساس أول للحكم بما أنزل الله عز وجل… وقد عاشت الأمة الإسلامية زمانا في ظل الحكم الإسلامي، عهد النبوة والخلافة الراشدة. لكن تحول الأمر بعد ذلك إثر الانكسار التاريخي حيث انتقضت العروة الأولى التي حدثنا عنها من لا ينطق عن الهوى، عليه الصلاة والسلام، “لتُنْقَضَنَّ عُرَى الإسلامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكلَّما انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ الناسُ بِالَّتِي تَلِيها، فأولُهُنّ نَقْضًا الحُكْمُ، وآخِرُهُنَّ الصَّلاةُ”
وعندما يسود الإحسان، فإن ذلك ضمان للمجتمع من مجموعة من الشرور والفتن؛ ذلك أن الإحسان، بما هو فضل وزيادة ومرتبة عليا في الدين والتقوى، معنى زائد على العدل، بل قد يحتويه. ويمكن القول إن العدل شرط بقاء للأمة الإسلامية، والإحسان شرط رقيها… وقد رأينا كيف تراجعت الأمة الإسلامية وانحطت عندما انتفى العدل.
ويلاحظ القارئ لكتاب الله عز وجل أن العدل يهتم أساسا بعلاقة الأفراد بعضهم مع بعض، أو مع أجهزة الحكم. أما الإحسان، فهو بالأساس علاقة الإنسان بربه، تعنيه هو أولا…
4-ما السبيل إلى هذا التغيير؟
قلنا إن الإنسان أمام مطلبين:
- مطلب عدلي، أو استخلافي، قوامه العدل بجميع صوره ومجالاته …
- مطلب إحساني، يحدده حديث جبريل عليه السلام الذي مر معنا…
وعليه، فإنه أمام مطمح تحقيق السعادة الأخروية ورضى الله عز وجل، وأمام انسجام عمله مع ضرورات الاستخلاف. ولتحقيق هذا لا بد من منهاج. وبدون منهاج سنخبط خبط عشواء.
من أجل ذلك يخبرنا الإمام رحمه الله أن المسلمين “بحاجة اليوم إلى اكتشاف المنهاج النبوي كي يسلكوا طريق الإيمان والجهاد إلى الغاية الإحسانية التي تعني مصيرهم الفردي عند الله في الدار الآخرة، وإلى الغاية الاستخلافية التي ندبوا إليها ووعدوا بها متى سلكوا على المنهاج النبوي واستكملوا الشروط” . فالأمة الإسلامية اليوم تعيش واقعا معقدا ومتشابكا، به تحكيم شريعة وضعية مقابل إقصاء شريعة الإسلام، ظلم وفساد، استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، والقلوب فارغة إلا من الوهن…
من هنا، كان المنهاج ضروريا:
- لتحليل الواقع الراهن والبحث عن جذور الفتن.
- لوضع خطة العمل، بأهدافها وبرامجها.
- لرفع علم الاجتهاد وتجاوز الجمود.
- لترتيب الأولويات…
- لقراءة التاريخ والبحث عن عوامل النهوض والتجديد.
- لبناء الإنسان وصياغة شخصيته…
- …
كل هذا وفق الغايتين السابق ذكرهما، الإحسانية والاستخلافية، اللتين تقف أمام المؤمن عقبات دونهما تطلب منه الاقتحام الذي يعتبر محور المنهاج النبوي، من أجل تحرير النفس والإنسان والأمة.
ويعرف صاحب المنهاج الاقتحام بأنه تحرك إرادي تتعرض له العقبة فتمانعه ويغالبها حتى يتم الاقتحام. هذا الاقتحام يحدثنا عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ(البلد: 1).
هذه العقبة تتفرع عنها عقبات تثبط الإنسان يلخصها الأستاذ عبد السلام ياسين في ثلاث لكل منها بعد منها بعد نفسي تربوي وبعد اجتماعي تنظيمي:
- الذهنية الرعوية، وهي ذهنية النفوس القاعدة التي تنتظر أن يفعل بها ولا تفعل، وأن يدبر لها غيرها وهي لا تقدر أن تدبر، أولئك قوم يحق عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن ماتَ ولم يغزُ ولم يحدِّث نَفسَهُ بالغَزوِ ماتَ علَى شُعبةٍ من نفاقٍ” 6.
- الأنانية المستعلية أو المتمتعة، يعوق أصحابها عن اقتحام العقبة امتلاء مما هم فيه وطلب المزيد مما هم فيه، قوم ظلموا أنفسهم وظلموا الناس!
- العادة الجارفة للمجتمعات المسلمة في تيار التبعية للوضع السائد، المانعة لنا أن نعرف معروفا بميزان الشرع أو ننكر منكرا يذمه الشرع.
وكم هو دقيق هذا التصنيف وشامل، فلا يخلو وضع أو مشكل من إحدى هذه العقبات أو أكثر. وعلى هذا مدار التغيير تربية وفكرا وتنظيما…
تلكم هي العقبة، تعترض الفرد المسلم أمام غايته الإحسانية, وتعترض الجماعة المسلمة أمام غايتها الاستخلافية.
يرمي المنهاج النبوي إلى تجديد الدين في واقع الناس، وتجديد الإيمان في القلوب. واهتمامنا بمعرفة التجديد ومن يجدد وبم يجدد، وكيف يجدد، إنما هو، كما يرى الأستاذ ياسين رحمه الله تحري أن يكون جهادنا مستمدا من الهدي النبوي منضبطا بالسنة النبوية، سائرا على منهاج النبوة لا حبا في الاطلاع.
والتجديد المطلوب للأمة هو تجديد بواعثها لتقوم، أفرادا لتجدد إيمانهم بالتربية، وجماعة تجدد قوتها بتجدد بواعث أعضائها الإيمانية بواجب الجهاد واقتحام العقبة.
خاتمة
إن التغيير في فكر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله متعدد الأوجه، جوهره تغيير الإنسان ليكون فاعلا في أمته، ينشد الإحسان بدءا بالتوبة إلى الله عز وجل. ولا قيمة لأي تغيير، في فكر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، إذا لم يستهدف صناعة الإنسان المؤمن. لكن هذا التغيير لا يستهدف الإنسان فقط، وإنما يستهدف الأمة أيضا بتحقيق العدل. وهذا هو التغيير الذي عبر عنه شعار الجماعة: العدل والإحسان. إنه تغيير عدلي استخلافي وإحساني أخروي. وهذا ما يميز التغيير في فكر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله. ولكي يتحقق هذا، لا بد من منهاج يرسم معالم السلوك التربوي والتنظيمي والحركي.