ذ. حرور: أعمال البر المُرغّب فيها في رمضان مندوبة كذلك في شعبان

Cover Image for ذ. حرور: أعمال البر المُرغّب فيها في رمضان مندوبة كذلك في شعبان
نشر بتاريخ

في غمرة الاغتنام من شهر شعبان الفضيل، والاستعداد لشهر رمضان الأبرك، أجرى موقع الجماعة نت حوارا مع الباحث في فقه السلوك والتربية وعضو الهيئة العامة للتربية والدعوة بجماعة العدل والإحسان الدكتور عبد الرحمن حرور، تسليطا للضوء على مواطن الخير في هذا الزمن المبارك وكيفية الاستفادة منها. هذا نصه:

حدثنا عن فضل شهر شعبان بداية، وهل له ميزة عن الشهور الأخرى؟

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه. بداية أشكر القائمين على موقع جماعة العدل والإحسان على ما يبذلون من جهد وما يقدمون من خدمة لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وللبشرية جمعاء، ثم على توجيههم الدعوة لي للمشاركة في هذا الحوار حول فضل شهر شعبان، فأقول وبالله التوفيق:

إن الله سبحانه خلق الكون، وخلق الزمان والمكان، وجعل بينهما علاقة تأثير وتأثر، قد يُلم ببعض من جوانبها، المتخصصون في العلوم الكونية. لكن لا بد لاستكناه حقيقتها، من بصيرة ونور، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. “فالكون كُلُّهُ ظُلْمَةٌ، وَإِنَّمَا أَنَارَهُ ظُهُورُ الْحَقِّ فِيهِ”، كما قال بن عطاء الله السكندري في حكمه. وإذا كانت الغفلة ظلمة، فإن ذكر الله نور يبددها، فإذا انقطع ذكر الله، وعمت الغفلة، أظلم الكون واضطربت حركته واختل نظامه. لذلك كان ذكر الله وسط الغافلين وفي مواطن الغفلة، من أعظم أنواع الذكر. ولما كان من عادة الناس أن يغفلوا في شهر شعبان، لأنه اكتنفه شهران عظيمان، هما رجب وهو من الأشهر الحرم، ورمضان وهو شهر الصوم والصلاة والقرآن والذكر وكل أنواع البر، رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإكثار من الصيام فيه.

عن سيدنا أسامة بن زيد رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهرا من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: “ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم” 1.

أورد ابن رجب الحنبلى رحمه الله في لطائف المعارف 2، عدة فوائد لهذا الحديث، منها أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وأن الطاعات فيه أخفى وأبعد عن الرياء، وهي أشق على النفس بسبب كثرة الغفلة وقلة المعين والقدوة.

من أهم ما يميز شهر شعبان كذلك، أنه مناسبة للرفع السنوي للأعمال، كما في الحديث السالف الذكر. وهي فرصة يحتفل فيها أهل السماء، بصعود صالح أعمال أهل الأرض، بين يدي شهر أنزل الله فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.  

إذا كانت لشهر شعبان هذه المزايا التي ذكرت فأي أعمال البر تستحب فيه؟ ولماذا أوصانا الرسول صلى الله عليه وسلم بالإكثار من الصيام فيه؟

إن شهر شعبان، مقدمة لشهر رمضان، ولذلك فكل أعمال البر المرغب فيها في رمضان مندوبة كذلك في شعبان. في مقدمتها الإكثار من الصيام ومن تلاوة القرآن وسائر القربات والعبادات الفردية.

وقد أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإكثار من الصيام في شهر شعبان، من أجل الخروج من الغفلة، كما أسلفنا، ثم التماسا لفضل عبادة الصوم عموما، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يصوم عبد يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً” 3 وعن أبي أُمامة رضي الله عنه قال قلت: يا رسول الله مرني بعمل ينفعني الله به قال: “عليك بالصوم فإنه لا عدل له”، وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: “عليك بالصيام فإنه لا مثل له” 4.

كما أن صيام شهر شعبان، نصفه أو جله، هو للجسم تدريب وإعداد، وللنفس ترويض وتهذيب، وللقلب تنبيه وإيقاظ، وللهمة رفع وشحذ، لكي لا يستقبل المسلم شهر رمضان، وهو غافل ساه، فتكون عبادته خداجا منقوصة غير ذات بركة.

كيف نشحذ هممنا وعزائمنا لنغرف من فضل شهر شعبان؟

من أهم ما تشحذ به الهمم وتقوى به العزائم، تجديد النية، لأن النية هي القصد، وهي عزم القلب وانبعاثه نحو ما يراه موافقا. وفي القرآن الكريم يعبر عنها بألفاظ متقاربة، مثل الإرادة، كما في قوله تعالى: منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة، وقوله عز من قائل: تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة، وقوله تعالى: من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نوته منها وماله في الآخرة من نصيب.

ولابد لتجديد النية ورفع الهمة وتقوية العزيمة، من صحبة صالحة ورفقة محتضنة مشجعة، لأن النية تُتَعَلّم. ويستدل على ذلك بما أورده الإمام السهروردي رحمه الله، بعد أن ذكر حديث إنما الأعمال بالنيات “ومن لم يهتد إلى النية بنفسه يصحب من يعلمه حسن النية”. وكتب سالم بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنهما- اعلم يا عمر أن عون الله للعبد بقدر النية فمن ثبتت نيته تم عون الله له ومن قصرت عنه نيته قصر عنه عون الله بقدر ذلك.

كما أن الهمم تشحذ بالعدوى، لا أقصد عدوى الوباء المنتشر هذه الأيام، عافانا الله، ولكن عدوى المنافسة في الخير والمسارعة إلى الطاعات، بمخالطة من تذكر رؤيتهم بالله. نؤجل المخالطة إلى حين، ونستفيد مما أتيح من وسائل العصر للتواصل، إلى أن يفتح الله.

ومما اشتُهر من أمثلة العرب، “أن الطيور على أشكالها تقع”، ومن الحكم المأثورة كذلك “أنّ المرء قليلٌ بنفسهِ كثيرٌ بإخوانهِ”، يتقوى بهم على اقتحام العقبة، والسلوك إلى الله. يقول الشاعر:

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا** وإذا افترقن تكسرت أفرادا.

ماذا عن البعد الاجتماعي لأعمال البر في شهر شعبان، استعدادا لرمضان؟

لا تَقلّ أهمية عن القربات والعبادات الفردية، الأعمال الصالحة ذات البعد الاجتماعي، من صدقات يسعد بها الفقراء ويستعدون لرمضان، وتفطير للصائمين، لأن ثواب “من فطّر صائمًا أو جهز غازيًا فله مثل أجره”، كما جاء في الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه عن سيدنا زيد بن خالد، مستحب في رمضان وفي غيره. مندوب كذلك شرعا، وواجب خلقا، مواساة المحتاجين واليتامى والأرامل، وإصلاح ذات البين، والعفو والصفح عن الناس، إذ “البر حسن الخلق” كما جاء في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه الإمام مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه.

وإذا كانت الغفلة عن الله تشكل خطرا يهدد الكون بالخلل والاضطراب، كما أسلفنا، “فإن الظلم مؤذن بخراب العمران”، كما قال ابن خلدون في مقدمته. لذلك، كان الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر، والإسهام في تحقيق العدل في الأرض، من أعظم أعمال البر، بين يدي رمضان. فليس من العدل في شيء، أن تمتلئ بما لذ ولم يطب، موائدُ فئة متخمة مترفة، بما استحوذت على خيرات البلاد وأرزاق العباد. في حين لا تجد الطبقة الكادحة والأغلبية المقهورة المحرومة، ما عليه تفطر أو ما به تسد الرمق، إلا تقشفا أو تسولا.

إن العلماء والفقهاء، بقدر ما هم مطالبون بالاجتهاد من أجل تحيين فقه الطوارئ والأزمات، وملاءمة فقه الزكاة والمعاملات، تقع على عاتقهم مسؤولية بيان حق الناس في اقتسام الخيرات، وأمر المترفين برد المظالم إلى أهلها، قبل ترغيب الأغنياء في أداء الزكاة قبل وقتها.

هل من برنامج تقترحه لشهر شعبان، يجمع بين الطاعات والقربات الفردية وأعمال البر والمواساة التي أشرت إليها؟

ينبغي أن يكون برنامج المسلم والمسلمة متوازنا بين استدراك ما فات من طاعات وقربات، والاستعداد لما هو آت من أنوار ونفحات، مع التهمم بأمر الأمة وما حل بها من الآفات. 

يقول الله سبحانه في سورة النحل إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. لذلك ينبغي أن يوازن البرنامج بين التطلع الشخصي لبلوغ درجات الإحسان، والانخراط المجتمعي لتحقيق العدل وكرامة الإنسان. لا بد من ورد الاهتمام بشأن الفقراء والمحتاجين ونصرة المستضعفين، لا مناص من الاشتغال بالدعوة إلى الله، أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، لأن من أسباب المصائب والكوارث، ما كسبت أيدي الناس من فسق وفجور وترف فاحش، كما قال الله سبحانه في سورة الإسراء: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا. وفي صحيح الترمذي، عن زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها غضبان يقول: ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بين أصبعيه السبابة والوسطى فقالت له زينب رضي الله عنها: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم إذا كثر الخبث”.

هذا عدل، والعدل أساس الإحسان، والإحسان أعلى درجات الدين، وهو مما ينبغي أن يسعى إليه المسلم في خلوته الاضطرارية هذه، بإحسانه في عبادته، وإتقانه لعمله العبادي والعادي والمعاملاتي وإحسانه إلى الناس أجمعين، في مقدمتهم الوالدين والزوج (يحسن إليها وتحسن إليه) والأبناء والأقارب والجيران.

من أهم فقرات برنامج شعبان كذلك، التّعاون على البر والتقوى. فالتعاون فضلا عن كونه خصلة حميدة من صميم ديننا الحنيف، هو كذلك قيمةٌ نفسيّة واجتماعيّة وإنسانية، تشعر المسلم بمسئوليته تجاه أخيه الإنسان، فيساعد الغنيُّ الفقيرَ، وينصر القويُّ الضعيفَ. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “المؤمن لِلْمؤْمن كالبُنْيان يَشُدُّ بَعْضُه بَعْضا، ثُمَّ شَبّك بين أَصابعه” 5.

وأغتنم فرصة هذا الحوار لأشير إلى ضرورة الاهتمام بمن شردوا عن أوطانهم ظلما وعدوانا وأخرجوا من ديارهم بغير حق أو أخرجتهم الحاجة والفقر بحثا عن فرصة عمل ولقمة عيش. وللأسف الشديد فإن معاناة البشر تزداد يوم بعد يوم، بسبب الجشع والطمع وغريزة السيطرة والتسلط، ترجَمَتُه في الواقع ما يشهده العالم من صراعات وحروب رغم ترسانات القوانين التي وضعها وكثرة الهياكل والمؤسسات التي أنشأها. فلا علاج لأمراضه ولا دواء لصداع رأسه ولا مهدئ لآلامه وأوجاعه، إلا رجوعه إلى مولاه وخالقه، وتلك لعمري مسؤولية على عاتق كل من عرف الحق وانتسب إليه، في مقدمتهم العلماء والدعاة إلى الله.

ختاما هل من عمل قاصد نركز عليه في شهر شعبان ليكون فعلا محطة ضرورية في استقبال لرمضان؟

إذا كان رمضان شهر التحلية بأنوار القرآن والذكر، والتوشيح بوسام الصيام والقيام، فإن شعبان شهر التخلية من كل الأدران والأوزار، بالتوبة النصوح من ظاهر الإثم وباطنه، بالإقلاع عن المعاصي والذنوب، وتطهير القلب من الشحناء والبغضاء والغل والحقد والحسد، ليكون أهلا لتلقي نور القرآن وهدايته. وشرع في شعبان ما يشرع في رمضان، ليحصل التأهب للتعرض لنفحات رمضان.

قال سلمة بن كهيل: كان يقال: شهر شعبان شهر القراء. وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القرّاء. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة، فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان” 6.

وخلاصة القول، إن المعَوّل عليه، بعد توفيق الله عز وجل لصحبة من يعلم حسن النية، ليس اجتهادا في شهر، سرعان ما يفتر، إنما المواظبة على الطاعات بإخلاص، ودوام الإقبال على الله، وهذه هي الترجمة العملية لمعنى الصدق، إذ الصدق الدوام. في صحيح البخاري عَنْ أمنا عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلّ”.  

يقول الشاعر:

لا تيأسن وإن طالت مطالبة.. إذا استَعَنْتَ بصبر أن ترى فرجا

إن الأمور إذا انسدت مسالكها.. فالصبر يفتح منها ما ارتتجا  (أي ما أغلق)

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته.. ومدمن القرع للأبواب أن يلجا.

نسأل الله أن يرفع البلاء عن الإنسانية جمعاء، وأن يردها إليه ردا جميلا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والصلاة والسلام على نبيه الرحمة المهداة، وعلى آله وصحبه المهديين الهداة.


[1] أخرجه الإمام النسائي في سننه.
[2] لطائف المعارف فيما في مواسم العام من وظائف، عبد الرحمن بن أحمد بن رجب زين الدين أبو الفرج الحنبلي الدمشقي (736 هـ –  795هـ).
[3] أخرجه الإمام البخاري وصححه.
[4] أخرجه الحاكم في المستدرك.
[5] رواه الإمام البخاري رحمه الله.
[6] أخرجه الحاكم في المستدرك.