جماعة المسلمين بين “دين الانقياد” و”نحلة الغالب” (2/2)

Cover Image for جماعة المسلمين بين “دين الانقياد” و”نحلة الغالب”  (2/2)
نشر بتاريخ

2- جماعة المسلمين ونحلة الغالب

أ‌- العلمانية ومطلب تجريد الدولة من الدين:

تتعالى الأصوات في البلاد الإسلامية داعية إلى تبني النموذج الغربي الذي فصل مبكرا الدين عن الدولة، وحصر الدين في زاوية الحياة الفردية. هي دعوات لاستنبات غرس اللائكية في أرض المسلمين، فينبت حكم الحكام بما تهواه النفوس البشرية 1 لا بشرع الله.

لم تدخل اللائكية البلاد الإسلامية عنوة، لكنها تسربت من بوابات ثلاث. لقد تسربت في حين غفلة من المسلمين عبر بوابة الاستعمار الثقافي الذي عوض الاستعمار العسكري. حدث ذلك حين كان المسلمون مشغولين بمواجهة الشق العسكري للاستعمار، بينما كانت آلته تشتغل في الجانب الآخر. كانت ترضع أبناء المسلمين لبن المستعمر، كانت تصنع على عينها جيلا ينوب عنها يوم تنسحب من الأرض المستعمرة. كانت “تتخطف” النبغاء وتؤويهم إليها وتتقرب إلى أبناء الأعيان عبر البعثات الدراسية-العلمية، بعدها يعودون مبهورين بالغرب اللائكي، مالك الصناعة والتكنولوجيا. يعودون ليقارنوا بين غرب تجرد من الدين فحاز أسباب القوة وشرق “أثقله” الدين فهو في ذيل الأمم. يعود أبناء المسلمين المغربين بالوصفة السحرية: لن نصبح ذوي شأن إلا إذا تجردنا من الدين. دعوة صريحة للدخول في نحلة الغالب 2 .

تسللت اللائكية من بوابة ثانية هي بوابة الجدال والافتراء على الدين وتنميط المفاهيم. تدفع بالشبهات وتلبس على بسطاء العقيدة والفكر دينهم. تلتقط كل حجة وكل شبهة لدعم الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة 3 . عدد ياسين بن علي 4 خمس مبررات يستعملها اللائكييون لفصل الدين عن الدولة :

1) الدين علاقة بين الإنسان وخالقه ولا مكان له في السياسة،

2) الدين مقدس والسياسة مدنسة، فإن أدخل الدين في السياسة تدنس،

3) الدين لا يقبل التعددية التي تضمنها اللائكية،

4) الدين لا يقبل إلا المؤمنين ولا مكان فيه لغير المسلمين،

5) يميز الدين بين أبناء الوطن الواحد.

صار لللائكية محامون من أبناء المسلمين انطلت عليهم الحيلة وأركبوا الموجة المغرقة.

دخلت علينا اللائكية من بوابة ثالثة هي القارونية الرأسمالية 5 ذات الأنياب الحادة واللهفة الشديدة على أرض المسلمين. لهفة على ثروات المسلمين المختلفة وأهمها النفط، ولهفة على أسواق المسلمين وهم أمة مستهلكة. تفرض الرأسمالية القارونية شروطا وقيودا على من يتعامل معها من مستضعفي العالم، ومن القيود التي يفرضها على دويلات الفتنة التي تحكم رقاب المسلمين إسلام صوري فارغ من أي محتوى، إسلام المؤتمرات والملتقيات والشعارات، إسلام لا يبحث عن سبيل للنهوض من الكبوة. إسلام هو طلاء لواجهة دويلات الفتنة، واجهة لا عمق وراءها.

ب‌- الماسونية ومطلب تجريد الناس من الدين

لا يهمنا في هذا المقام متى نشأت الماسونية ولا من أسسها 6 . ما يهمنا هنا هو فعلها في جماعة المسلمين. إجمالا، تعرف الماسونية نفسها بأنها حركة أخوية عالمية أهدافها المساعدة المتبادلة والصداقة وخير الناس، وأنها تهتم بنشر المساواة وحب الإنسان لأخيه الإنسان.

في سنة 1978، وبعد دراسة وافية، أعلن المجمع الفقهي الإسلامي 7 عن موقفه من الماسونية. يتلخص الموقف فيما مفاده:

* الماسونية منظمة سرية قد تعلن تنظيمها أو تخفيه بحسب الظروف الزمكانية، وهي يهودية الجذور، ويهودية الإرادة، وصهيونية النشاط. تهدف إلى هدم الأديان عامة والإسلام خاصة في نفوس المسلمين، كما أن لها أهدافا سياسية، وهي ضالعة في معظم الانقلابات السياسية والعسكرية والتغييرات الخطيرة عبر العالم.

* يتم جذب المرشحين للانتماء إليها عن طريق الإغراء بالمنفعة الشخصية أو بالابتزاز، على أن يتم الاحتفال بانتساب عضو جديد وفق مراسيم وأشكال إرهابية. وتحرص على اختيار المنتسبين إليها من ذوي المكانة والنفوذ المالي أو السياسي أو الاجتماعي أو العلمي.

* الصلات الظاهرة بين أعضائها في جميع بقاع الأرض مبنية على الإخاء الإنساني. وعليه يترك الأعضاء السذج أحرارا في ممارسة عبادتهم الدينية وتستفيد منهم المنظمة حسب مراتبهم. أما من يتجرد من الدين فيترقى حسب استعداده لخدمة المنظمة.

* تمارس نشاطها في إطارات متعددة من أبرزها “منظمة الأسود” و”الروتاري” و”الليونز”.

ت‌- جماعة المسلمين ونحلة الغالب

تكالبت الأمم على الأمة الإسلامية، قسمت الأرض إلى دويلات “مجهرية”، وتقاسمت الخيرات كما يتقاسم الشركاء حصاد ما يملكون من جنات. ذلك ما أنبأ به النبي صلى الله عليه وسلم.

عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها”. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال صلى الله عليه وسلم : “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهْن”. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال صلى الله عليه وسلم: “حب الدنيا وكراهة الموت” 8 .

لم تكتف الأمم المتداعية على أمة الإسلام بتقسيم الأرض وتقسيم الخيرات، بل أتت على روح الأمة: الإسلام. التقت العلمانية والماسونية في نقطة واحدة: التجريد من الإسلام. لكنهما اختلفتا في المسار، هدف العلمانية تجريد الدولة من الدين وإبعاده عن الحياة العامة، وحصره في زاوية الحياة الفردية. أما الماسونية فهدفها تجريد الفرد من الدين عبر ضمه إلى منظمات ونواد تجتمع ظاهرا على مبدإ الأخوة في الإنسانية بعيدا عن رابطة الدين. تقاسم منسق أو غير منسق للأدوار، ينسحب الدين من الساحة إلى حياة الأفراد، وينحبس في قلوب الأفراد، ثم يذوب في الفراغ.

عوضا عن رابطة الدين والشريعة، تقترح العلمانية رابطة القومية: “الدم، والعرق، واللغة، واللغة، والأرض، والتاريخ، وما شئت من دون الله” 9 . وتقترح الماسونية كاذبة رابطة الإنسانية: الأخوة في الإنسانية بعيدا عن الدين الذي يفرق 10 .

خاتمة

أصيبت جماعة المسلمين في مقتل لما تحول الحكم من خلافة راشدة إلى ملك عاض، فقد بدأ دوران رحى الإسلام مؤذنا بافتراق الدولة عن الدعوة بل وانقلابها عليها وتسخيرها لتوطيد أركانها. تلك بداية تمكن دين الانقياد، فرض الملك العاض نفسه بالقهر، فلما صفا له الحال اقتنعت الأجيال التي لم تعرف غيره بسلطة الحاكم المستولي بالسيف حتى صار دينا لا تجوز مخالفته ومعارضته. أصبح العلماء رقما محايدا لا تأثير لهم في الحكم، مهمتهم إرشاد العامة والتخصص في فروع العلوم، ومنهم من شَرْعَن للحكم العاض. مضى ملوك الجبر على نفس سنة أسلافهم ملوك العض، لكنهم تنصلوا من الدين كليا ولم يُبْقوا منه غير طلاء لدويلات الفتنة، يأخذون من الدين ويذرون على قدر حاجتهم لتقوية مُلكهم. قتل دين الانقياد إرادة الأمة وصيرها غثاء لا وزن لها، أمة بلا إرادة يُفعل بها ولا تفعل.

دين الانقياد طليعة لنحلة الغالب. إنه لما اجتمعت في الأمة شروط الضعف والوهن صارت لقمة سهلة، أتاها الاستعمار فغلبها، وبث فيها وكلاءه يسوقون بضاعة العلمانية والماسونية. الأولى إقصاء للدين من الحياة العامة، والثانية دفنه في قلوب الأفراد.


[1] عبد السلام ياسين، جماعة المسلمين ورابطتها، بيروت، دار لبنان، ط1، 2011م، ص 48.\
[2] مصطلح أبدعه عبد الرحمن ابن خلدون وتبناه الأستاذ المرشد كمفهوم منهاجي يقصد به اتباع المغلوب لدين غالبه.\
[3] عبد السلام ياسين، الإسلام والقومية العلمانية، ط1، 1989م، ص\
[4] ياسين بن علي، ”اللائكية في ميزان العقل والنقل”، مجلة الزيتونة، باب ردود ومناقشات، مقال في 10 أجزاء.\
[5] عبد السلام ياسين، العدل : الإسلاميون والحكم، مطبوعات الصفاء للإنتاج، ط1، 2000م، ص 304.\
[6] تناول برنامج ”سري للغاية” الذ بثته قناة الجزيرة القطرية في شتنبر 1999 عبر حلقتين موضوع ”الماسونية”\
[7] هيئة علمية إسلامية ذات شخصية اعتبارية مستقلة، داخل إطار رابطة العالم الإسلامي، مكونة من مجموعة مختارة من فقهاء الأمة الإسلامية وعلمائها.\
[8] رواه أبو داود والإمام أحمد وغيرهما بسند صحيح.\
[9] عبد السلام ياسين، جماعة المسلمين ورابطتها، بيروت، دار لبنان، ط1، 2011م، ص 48.\
[10] عبد السلام ياسين، جماعة المسلمين ورابطتها، بيروت، دار لبنان، ط1، 2011م، ص 18-19.\