جبال تنشد الحياة.. كشف شموخها زلزال الحوز

Cover Image for جبال تنشد الحياة.. كشف شموخها زلزال الحوز
نشر بتاريخ

كانت منطقة الحوز وسفوح الأطلس الكبير بل وأجزاء واسعة من المغرب على موعد ليلة السبت 9 شتنبر 2023 مع أعنف زلزال ضرب المغرب منذ قرن من الزمن. فقد عاش المغاربة لحظات مرعبة جراء هزات بدرجة تفاوتت من منطقة إلى أخرى، بلغت ذروتها في بؤرته بمنطقة إيغيل إقليم الحوز 7,2 درجات بمقياس ريختر وفق المركز الوطني للجيوفيزياء.

وفيما لا تزال حصيلته من الشهداء والجرحى والمشردين والمكلومين تتفاقم، سارعت سائر أعضاء الجسم المغربي إلى إعلان نفير تضامن ومواساة سطر فيها المغاربة ملحمة قيمية ودرسا راقيا في تداعي الأعضاء إلى التراحم وقت المصيبة، كيف لا والعضو المصاب مناطقٌ شكلت قلب الوطن وجذوره الممتدة عبر التاريخ، وحصونه الشاهقة في العلى!

لقد أخرج هذا الزلزال مناطق ظلت لقرون تأبى الظهور وتسليط الأضواء عليها إلى واجهة الاهتمام بآلامها القديمة منها بفعل التهميش والإقصاء، وكذا المستجدة بفعل الزلزال وتداعياته على كل المستويات. كما حملت الهزات الأرضية التي انطلقت من عمق جبال الأطلس الكبير بعض آمال هذه المناطق وأوصلتها إلى قطر غير مسبوق في تاريخ الزلازل بالمغرب تعدى 500 كيلومتر في كل الاتجاهات، ويكفي أنها وصلت إلى عاصمة القرار السياسي وعاصمة النشاط الاقتصادي في البلد، في رسالة بسيطة مفادها أن هناك جبالا تريد حياة كريمة وظروف عيش أحسن مما هي عليه منذ عقود إن لم نقل قرون.

“أدرار ن درن”: عمق التاريخ وشموخ الجغرافيا

كانت جبال الأطلس الكبير تُعرف تاريخيا بتسميات أمازيغية محلية تنشد الحياة من خلال مصادرها الحيوية، خاصة الماء الذي جعل الله منه مصدر كل شيء حيٍّ. فأطلق السكان هناك على تلك الجبال عدة تسميات منها “أدرار ن دْرْنْ” التي تعني لغويا “جبل الحياة”، وتسمية “أدرار ءيدْرْنْ” التي تحيل إلى “الجبل الحيّ” بمياهه العذبة وثلوجه الناصعة وغاباته الكثيفة. وهناك من ذهب إلى أن التسمية هي “أدْرارْ نْ ءيدْرارْنْ” أي “جبل الجبال” وفي هذا الوصف إشارة إلى الشموخ والارتفاع الشاهق الذي تجعل من الأطلس الكبير أعلى القمم في بلاد المغرب.

وتنتشر عبر سفوح وقمم جبال الأطلس الكبير قرى متناثرة، كانت تفوح من بناياتها البسيطة، قبل أن يدك الزلزال بعضا منها دكًّا ويترك أخرى أشباحَ أطلالٍ، رائحةُ عبق التاريخ العريق لأمة ممتدة الجذور عبر الزمن، وراسخة الأقدام في المجال. تعايش الإنسان هناك مع الجبل على مرِّ التاريخ؛ تبادلا المنافع وقت الرخاء، وأسند أحدهما ظهر الآخر وقت الشدة. فكانت تلك الجبال حصونا لدرء العدوان الخارجي؛ فتكسرت عنجهيات جيوش غازية بين وديانه وتدحرجت آلياتها على سفوحه الوعرة كناية على شجاعة مزدوجة للجبل وساكنيه. ومن زواياها الكثيرة انطلقت حركات دعوية وسياسية تصحيحية ثائرة ضد الاستبداد والفساد المحلي، ومن بين فججها انطلقت أنظمة حكم وانتهت عندها أخرى.

وإلى جانب عراقة التاريخ الذي مس ضرُّ الزلزال أغلب شواهده هناك، فقد حبى الله جبال الأطلس عموما والكبير خصوصا بمناظر خلابة وخيرات جمة، وكأنها مكافأة إلهية للإنسان الصامد هناك رغم قساوة مجال عبارة عن سلاسل شامخة تمتد من غرب مدينة أكادير على المحيط الأطلنتي في اتجاه الشمال الشرقي وأعلى قممها جبل توبقال 4165 م ويقع جنوب مدينة مراكش. وتنقسم هذه السلسلة بدورها إلى كتلتين منفصلتين، والكتلة الغربية أعلى من الشرقية. تُقسم هذه الجبال المغرب إلى منطقتين مناخيتين مختلفتين؛ منطقة شرقية بمناخ صحراوي حار وأخرى معتدلة ذات مناخ رطب.

وتزخر هذه الجبال بثروات معدنية هامة وغطاء نباتي كثيف ومتنوع، يضم أصناف شتى لنباتات وأشجار مثمرة وغير مثمرة، وتربات خصبة، وثروة حيوانية تقاوم مصير أسود لم تعد في الأطلس. وهذا الغنى الطبيعي أكسب المنطقة أهمية اقتصادية باعتباره مصدرا للمواد الأولية الصناعية، ومرتعا للنشاط الزراعي والحيواني، وخزانا للموارد المائية، وفضاءات سياحية خلابة. أهمية لا تنعكس -يا للأسف- إلا مزيدا من الفقر والتهميش على سكان جبال قِيل أن تحتها مناجم ومعادن يعلمها مُنجِّمو المصالح الخاصة ويجهلها من هم أولى بها.

وقد مسّت الهزات العنيفة عموم الأطلس الكبير، بل امتدت إلى السلاسل والسهول المجاورة. ويعد إقليم الحوز، الممتد على سفوح الأطلس الأكبر، الإقليم الذي تضرر أكثر من هذا الزلزال العنيف. ويحد هذا الإقليم من الغرب إقليم شيشاوة ومن الجنوب إقليم تارودانت ومن الشرق إقليم ورزازات ومن الشمال إقليم قلعة السراغنة. وتبلغ مساحة إقليم الحوز نحو 6200 كيلومتر مربع، ويضم عشرات القرى وبعض المراكز شبه الحضرية. وأبرز مدنه وبلداته: أيت أورير ومولاي إبراهيم وأسني وأمزميز وتحناوت وتمصلوحت وتمكَرت وتيدلي وقرية إيغيل التي كانت بؤرة الزالزال الذي تجاوز حدود الحوز إلى أقاليم مجاورة خاصة تارودانت ومراكش وورززات وغيرهما.

قرى وفضاءات كانت تعج في كل الفصول بزوارها المحليين والأجانب الأوفياء من عشاق السياحة والرياضة الجبلية بين أحضان الطبيعة في مختلف تمظهراتها وحللها البيضاء شتاء والخضراء ربيعا، وظلالها المنعشة صيفا. طرقها ومسالكها كانت تضيق بالذاهبين والرائحين استجماما، لتجدهم الآن يعودون إليها يعجّون دفئا وعاطفة كأنهم يردون ديونها التي أغدقتها عليهم سنوات استجمام وراحة.

ساكنة راسية مثل جبالها رغم الفاقة والحاجة

حافظت ساكنة جبال الأطلس على بساطة العيش، أو قل عانت تلك الساكنة من شظف العيش كما عاشت أجدادها قبل قرون؛ فأغلب دواوير الأطلس الكبير تعيش على زراعات معيشية وما تجود به أراضيهم الفلاحية الضيقة من خضروات وفواكه موسمية، وما يقترحونه على طرقات الزائرين من أعشاب وفواكه وكل ما يمكن أن يحصلوا بثمنه بعض المستلزمات والحاجيات الضرورية.

وتشتد معاناة ساكنة دواوير سفوح الجبال كلما حلّ فصل الشتاء على بيوت ومساكن بسيطة محرومة من الإنارة والماء الصالح للشرب، عندما تنزل درجات الحرارة أرقاما قياسية في البرودة الشديدة بفعل تراكم الثلوج على قمم جبال الأطلس، فتُغلق المسالك الطرقية التي منها يطلون على عالم السهل والمدينة، ما يجعلهم يعيشون عزلة قاسية قساوة شهور فصل الشتاء في قفص قضبانه من صخور متينة الصلابة محصنة بأمتار من الثلوج السميكة. وعندما لا يكون للعبور بدٌّ بحثا عن طبيب ألمٍ أو مولدة جنينٍ أو مصل سُمٍّ أو قنينة غاز، يركبون مخاطر تحدي الطبيعة رغم إرثهم الثقافي الذي علمهم عواقب تحدي الطبيعة. ومع توالي الليالي الباردة في التوغل تبدأ مدخرات الساكنة تنفذ، وتنفق الحيوانات بسبب قلة الكلأ وشدة البرودة.  

ظروف تفرض رتابة على الحياة في شهور الكساد، في انتظار زوار الربيع والصيف، وكأن الجبل استعصى أن يعيش زمن البشرية الراهن، ويصر أن يعيش أزمنته الغابرة، بل وكأنه حكم على سكانه القبول بهذا الشرط ليعيشوا في جواره!

وحتى عندما تنجلي سحب الشتاء الداكنة وتذوب ثلوج القمم المتراكمة، فإن الخروج من إسار الجبل سراح مشروط! فأغلب الطرق بين جبال الأطلس مسالك وعرة تلتوي في منعرجات وحواف تجعل سالكها يدرك الخيط الرفيع بين الحياة والموت الذي يسلكه سكان الدواوير كل يوم بحثا عن مقتنيات بسيطة، وتجعل بضع كيلومترات نحو الأسواق الجماعية والمدراس البعيدة والمستوصفات النادرة الفارغة تقطع في ساعات وساعات!

نقل عمومي أشبه بعربات الموت تحسب على رؤوس الأصابع تضرب مع الراغب في التنقل لحاجة ملحة موعدا فجر صباح قارس، قد يخلفه ليعود أدراج الخيبة وتأجيل ما لا يقبل التأجيل إلى يوم آخر ربما يكون أحسن حظا من سابقه.

أغلب سكان قرى الجبال المنكوبة نساء وأطفال وشيوخ خلَّفهم الرجال والشباب وراءهم مغتربين في معامل المدن وضيعاتها ومتاجرها وورشات البناء والحرف، يصلِون الأسبوع بالآخر والشهر بأخيه لعلهم يسدّون رمق الجائعين في الجبال علاوة على مصاريف إقامتهم الهشة في المدن. وتعد النساء بؤرة الألم المستوطن للجبال؛ أمية وفقر ومعاناة وازدواج الأدوار بين حافظية للفطرة وقوامة اضطرها إليه غياب أو تغييب الزوج في طواحين العمر والأرزاق في المدن. وعند الحمل تدخل النساء إلى برزخ قد تنتهي بولادة للأم والجنين، أو موت أحدهما أو كلاهما.

أما أحلام الطفولة البريئة هناك فكل محاولة منها للتحليق فوق الجبال الشامخات يعترضها صغر الأجنحة وقلة الزاد، وتبقى حجرة الدرس الوحيدة التي بُنيت لدواوير كثيرة ومتباعدة نافذة أمل نحو عيش مقبول في المدن وضواحيها، لعله يكون مخرجا من حياة الجبل القاسية. قسم وحيد لكل المستويات وأستاذ أو أستاذة يعلمان حروف العلم والتربية ويزرعان بذور أمل ويسقيانها تشجيعا وتحفيزا لتثمر عزما وإرادة تغالب صلابة المجال. الدراسة هناك ليس إلا جزء من واجبات الأطفال المتنوعة من جلب للماء والحطب وأعمال لا تقوى عليها حتى أجسام الراشدين. وللطفلة هناك النصيب الأوفر من الحرمان فهي ظل أمِّها تلازمها في كل معاناتها.

شظف وقسوة وقساوة لم تزد ساكنة جبال الحوز إلا رسوخا في قيم الإيجابية والكرم وحسن الضيافة والبسمة والنكتة وحب الخير وفضائل المودة والتعاون والتكافل، وصناعة الفرح عيدا وعرسا ومواسم للتلاقي والتزاور بعد حظر التجوال في شهور البرد القارس. لا يأبهون كثيرا بشعارات حقوق الإنسان والمرأة والطفل. يعاندون واقعهم بكثير من الصبر والرضى والقناعة وعزم من حديد خاصة من نساء طرد الفقر أزواجهن وراء الجبال بحثا عن لقمة كريمة لعيش بسيط.

حياء وأدب وحشمة ووقار. مبادئ سامقة تأبى الرضوخ والتنازل والتفريط أمام الفقر المدقع والحاجة الملحة. شهامة وصدق فطري يحس به كل زائر وكل سائح للمنطقة.

فهل نال الزلزال من هذا الرسوخ والرسوّ أم أنّى له ذلك في جبل الحياة وجبالِ الرجال، ومن رجالٍ ونساء وأطفالٍ جبالٍ؟

زلزال الحوز فرصة جديدة لجبل الحياة

شكل زلزال الحوز اختبارا جديدا لرغبة “أدرار ءيدْرْنْ” في حياة شكلت هوية وجوده بعد أن خرقت أصوات الخراب سكون ليلة لم تكن مثل سائر لياليه الهادئة، وزلزلت الأرض أقدام رسخت في أعماق التاريخ، وسمقت في قيم الإنسانية. ونشر الزلزال رائحة الموت في كل مكان وسكبت الوجوه الشاحبة عبرات ألم فاجعة فَقدٍ تنوعت قصصه وتلاقت نهاياته.

تحولت عدسات العالم إلى بسطاء الجبال، ونالوا تعاطف القريب والبعيد. ورفع الله ذِكر قرى كُتب تاريخها لقرون أراد الزلزال طيها في ثوان الهزة العنيفة. كان رجة قوية لفتت انتباه غافلين عن تلبية حاجياتها وتنمية مجالها وتشغيل أبنائها وصيانة مساكنها وتوفير أسباب استقرار لائق بإنسان عريق عراقة الجبل.

هبّ الجسم المغربي في حركة فريدة نادرة للتضامن وتضميد جراح المكلومين أذهلت العالم، كيف لا والعضو الذي اشتكى هو قلب الوطن وأصله. لم يأبه المتضامنون بخطر الارتداد الزلزالي، ولا أوقفتهم المسالك التي محاها الزلزال عن مدّ يد الإنقاذ لمن هم تحت الأنقاض، وإيواء من فقد مسكنه وافترش العراء والتحف السماء. قوافل ومواكب مواساة ومساعدة لم تتوقف رغم مرور الأسبوع على المصاب الجلل، ولا يتوقع أن تقف.

كارثة تلك التي خلفها الزلزال شهداء وجرحى ومكلومين ومشردين، ودمارا في البيوت، بل دكّاً لبعض القرى وتدميرا كبيرا لأخرى… لكن الله الذي خلق الإنسان ليعطيه لا ليعذبه أنزل الرحمة وسط النقمة، وأنزل السكينة وسط الفزع، وأخرج الحي من الميت كما أخرج بين شقوق صخور الجبال القاحلة ينابيع ماء عذب زلزال.

فهل أرادت الهزة الأرضية أن تنقل صوت ساكنة تعففت عن السؤال والمطالبة والاحتجاج إلى آذان مسؤولين صمّت عنها لعقود؟

هي رسالة واضحة لمن تحمل كل مسؤولية ولم يؤديها حقها أن الله سائله عن صغيرة وكبيرة صنعت مأساة تقصيرا وتملصا.

لله ذركم يا أهل سفوح الأطلس أحبكم الله فترككم على فطرة الإسلام وأخلاقه وأسكنكم قلوب عباده دنيا، واتخذ منكم شهداء بالآلاف لتجاوروا علية البشرية من نبيئين ورسل وأولياء وشهداء وصالحين أخرى.