جاري قبل داري.. العدل والإحسان وطبيعة المجتمع المنشود

Cover Image for جاري قبل داري.. العدل والإحسان وطبيعة المجتمع المنشود
نشر بتاريخ

“جاري قبل داري” هو الشعار الذي اتّخذته نساء العدل والإحسان موضوعا لحملتهن الإعلامية التحسيسية، استثمارا لأجواء الشهر الكريم وما يفيض به من تجليات دينية وأبعاد اجتماعية، وتذكيرا بهذه العلاقة الأساسية في النسيج الاجتماعي، وتحريضا على فضائلها وتذكيرا بما وعدنا به ربنا إن نحن راعينا حقوق الجيرة وحفظنا رابطتها.

الحملة وهي تتغيّا تجديد معان إيمانية في القلوب، وتصويب أفكار واردة على العقول غرستها لوثة الفردانية وضغط المدنية، وتسديد سلوكيات يومية بغية الرقي بعلاقات لا مفر من نسجها، تتّخذ منحى اجتماعيا بارزا ليس بحكم طبيعة موضوعها فقط، ولكن أيضا لأن تمتين الروابط الاجتماعية وترسيخ وشائجها وتقوية نسيجنا الوطني غاية أساسية من غايات جماعة العدل والإحسان.

يمكن للمتفحّص أن يقف عند تغافل المهتمين والمتابعين لشأن الجماعة عن هذا العمق المجتمعي في مشروع العدل والإحسان، في الوقت الذي يتم تسليط الضوء أكثر على طروحاتها السياسية؛ لذلك ستجد السؤال دائما عن موقف العدل والإحسان من نظام الحكم والانتخابات والديمقراطية وتشكيل الحزب، وستلحظ تفاعلا مع بياناتها ومواقفها وحراكها الميداني ووثيقتها السياسية… ولكن أسس العلاقات بين الناس، وفلسفة الأسرة، ومعنى العلاقات الاجتماعية وفحواها ومضمونها، والنظرة إلى الطفولة ومكانة الوالدين والجيران ومختلف دوائر العلائق التي تربط المغاربة، لا تحظى بكثير اهتمام ونظر وتمحيص، مع أن هذا الشق يبقى اللّب والجوهر الاجتماعي الذي تعرضه العدل والإحسان.

إن سبحات تربوية صرفة يتنعّم في ظلالها المواطن المسلم منفردا، دون أن تتمثّل سلوكا إيمانيا راقيا ومعاملة اجتماعية سامية لا تعدو أن تكون “قشرة دينية” لا تعكس مقاصد ديننا الإسلامي الحنيف. وإن تغييرا عميقا في البنى السياسية وإصلاحا جادا للنظام الحاكم ومؤسساته وأدوات اشتغاله ولمنطق العملية السياسية برمتها بتجلياتها الاقتصادية والقانونية والثقافية، دون أن تنتظم فئات المجتمع وشرائحه الشعبية المختلفة روابط الثقة والاحترام والصفاء والمحبة والتعاون على الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يعدو أن يكون “تحولا شكلانيا” لا ينفذ إلى الأعماق حيث قلب الإنسان وعقله وسلوكه وحيث العلاقات الإنسانية الاجتماعية التي تبني الأمم المتماسكة.

ذلك جوهر من جواهر المشروع التغييري الذي تحمله الجماعة، وتلك بعض من سمات ما تصطلح عليه “مجتمع العمران الأخوي”، عمارة صالحة في أرض الوطن والأمة وأخوة تلحم العلائق بلحام متين.

إن هذا العمق الذي تعرضه الأطروحة النظرية للجماعة وتمثّلاتها الذهنية للمغرب والأمة، وتتصدى له في المقام الأول مؤسسات نساء الجماعة، وكذا رجالها، تعكسه مضامين مجالسها الدعوية والتواصلية وبرامجها التربوية والتعليمية وأنشطتها المتنوعة في الفضاءات الداخلية والخارجية، وما الحملات الإعلامية والتحسيسية إلا تجلّ تواصلي لطبيعة التربية والتوعية التي تقدمها لأبنائها وبناتها وتسعى إلى تعميمها على عموم الناس. والغاية ترسيخ مفاهيم المحبة والاحترام والتقدير والتعاون، بهدف الرقي بالعلاقات الإنسانية بدءا بالدائرة الضيقة داخل الأسرة وعروجا بها من الجيران وسكان الحي إلى عموم أبناء الوطن.

قبل حملة “جاري قبل داري” السّارية، أطلقت نساء العدل والإحسان في السنوات الأخيرة حملات متعددة، تنسج على نفس المنوال وتفتل في ذات الاتجاه، منها “أسرتي جنتي” لتمتين العلاقة بين الزوجين لتستقر على أساس المودة والرحمة والسكينة والمحبة، ومنها “قرة العين” للتنبيه على هذا الكنز الثمين والمسؤولية العظيمة التي بين أيدينا -أبناؤنا وواجباتنا نحوهم-، ومنها “غطيني برضاك الميمة” التي ترسخ فينا هذه العاطفة العظيمة صوب أمهاتنا، ومنها “صل رحمك” للتذكير بهذه الرحم التي تجمعنا بعائلاتنا وأقرابنا والتي لا ينبغي أن نهملها… وغيرها من الحملات ذات البعد الاجتماعي.

هو عمل أساس تقوم به الجماعة في قلب المجتمع، بقيادة نسائها وإشرافهن، وهو إن كان يعكس -داخليا- مكانة المرأة في بنية الجماعة وقدرتها على المبادرة والإشراف والقيادة، فإنه يكشف لعموم المغاربة والفاعلين والمهتمين طبيعة المجتمع الذي تريده العدل والإحسان؛ مجتمع يتجاوز أعطاب الكراهية والحقد والخصومات والانعزال والفردانية لينسج علاقاته على معاني الإحسان والرحمة والتعاون والتآلف والتعاضد.