تقديم مؤلف “سؤال العدالة الاجتماعية في الفكر الإسلامي المعاصر” للباحثة الراحلة حبيبة حمداوي

Cover Image for تقديم مؤلف “سؤال العدالة الاجتماعية في الفكر الإسلامي المعاصر” للباحثة الراحلة حبيبة حمداوي
نشر بتاريخ

“ليست العدالة الاجتماعية ترفا فكريا، بل هي ضرورة إيمانية واجتماعية، وسؤال ملح يطرق ضمير الأمة ويستفز ضمير الإنسان”. بهذه الرؤية العميقة، تطل علينا الباحثة حبيبة حمداوي (رحمها الله تعالى) عبر كتابها القيم: “سؤال العدالة الاجتماعية في الفكر الإسلامي المعاصر”، لتحفر في أعماق واحدة من أشد قضايا الإنسان المعاصر إيلاما: قضية الفقر.

هذا الكتاب النفيس صدرت منه الطبعة الأولى، عن إفريقيا الشرق للنشر والتوزيع، في سنة 1446 الموافق لـ2025م، ويقع في 180صفحة من الحجم المتوسط.

أما عن تصنيف المجال المعرفي للكتاب: فهو باختصار دراسة بينية، ينتمي إلى حقل الفكر الإسلامي المعاصر، ويستند إلى الأدوات التحليلية للعلوم الشرعية (الاقتصاد الإسلامي والسياسة الشرعية) لمعالجة قضية اجتماعية-اقتصادية معاصرة (العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر)، وبحضور حوارٍ نقدي مع الفلسفات والنظم الغربية.

لغة الكتاب جاءت واضحة ومباشرة تخلو من التكلف والتقعر والتعقيد غير الضروري، جمعت بين الرصانة الأكاديميَّة وحُسنِ السبك، مع نبرة نقدية تجاه الواقع المعاصر. لغة غنية بالمصطلحات والمفاهيم التي تخدم أطروحة الكتاب.

ومن لغة الكتاب أنتقل للحديث عن تأليف الكتاب ومحتوياته:

هناك حكمة لعالم أزهري شمس الدين البابلي قال فيها: “لا يؤلف أحد كتابا إلا في أحد أقسامٍ سبعة، ولا يمكن التأليف في غيرها، وهي: إما أن يؤلف من شيء لم يسبق إليه يخترعه، أو شيء ناقص يتممه، أو شيء مستغلق يشرحه، أو طويل يختصره دون أن يخل بشيء في معانيه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيءِ أخطأ فيه مصنفه يبينه، أو شيء مفرق يجمعه” 1.

وقد استجابت الأستاذة حبيبة حمداوي رحمها الله تعالى لهذه الحكمة وسارت على نهجها، فجاء الكتاب شارحا ومبينا، ومتمما لدراسات سابقة، مقترحا لنموذج تنموي يعتمد على رؤية إسلامية متكاملة، منطلقها الكرامة الإنسانية والعدالة الشاملة… وتركت بتواضع لقارئ الكتاب أن يحكم على مضمونه.

تصدر الكتابَ تقديم جامع قاصد معبر عن قيمة الكتاب وقدر الكاتبة بقلم رفيقة دربها الأستاذة الباحثة نادية بلغازي حفظها الله.

واستهل بمقدمة مرتبة ومتقنة أودعت فيها المؤلفة غاياتها من الكتاب؛ أذكر منها “اقتراح حلول عملية لظاهرة الفقر من خلال عرض الخطط الإنمائية مع إبراز المرتكزات الأساسية التي ينبني عليها الحل الإسلامي” 2. وأودعت فيها أيضا المنهجَ الذي آثرت الاشتغال به، وهو الوصفي التحليلي في توصيف ظاهرة الفقر وتحليل المعطيات واقتراح البدائل، والمنهجُ المقارن لدراسة التباين بين المقاربتين الوضعية والإسلامية للتنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية.

قسمت المؤلفة الكتاب إلى فصلين تنضوي تحت كلِ منهما ثلاثة مباحث، الفصل الأول: إشكالية تنامي ظاهرة الفقر في العالم، تعرضت فيه لمفهوم الفقر وآثاره، ثم أسبابه، وساقت المغربَ نموذجا للدراسة. أما الفصل الثاني فعنونته بالمشاريع التنموية بين المقاربة الوضعية والمقاربة الإسلامية، تناولت فيه المقاربة الوضعية للتنمية، ثم أسس ومبادئ المقاربة الإسلامية للتنمية، يليها مقترحات حول المشاريع المعتمدة في التشريع الإسلامي لتحقيق التنمية ومكافحة الفقر في دعوة ملحة إلى إحياء النموذج الإسلامي للعدالة الاجتماعية.

بعد التصميم المقترح، ماذا يقدم لنا هذا الكتاب؟

طموح الكتاب كما تقول الأستاذة حبيبة حمداوي: “المساهمة ببحث يبرز دورَ المقاربة الإسلامية في التصدي للمشكلة (الفقر) من جميع جوانبها، ويطرح حلولا واقعيةً تساهم في ترسيخ العدالة الاجتماعية وتقليص هامش الفوارق” 3.

أما الأطروحة الأساس (أي الموضوع المحوري) التي يدافع عنها الكتاب وينبني عليها؛ فتتجلى في الدعوة إلى بناءِ نموذج تنموي منبثقٍ من الخصوصية الحضارية الإسلامية، وقائمٍ على الاعتماد على الذات وتحريرِ الإرادة.

فالإسلام يقدم نموذجا متكاملا للعدالة الاجتماعية، قادرا على معالجة قضية الفقر بشكل جذري، من خلال مقاربة تنموية شاملة تقوم على أسس عقدية وأخلاقية وتشريعية، وعلى وسائلَ عملية قابلة للتطبيق (والتجارب التاريخية شاهدة)، وتختلف هذه المقاربةُ التنموية جوهريا عن المقاربات الوضعية (الرأسمالية والاشتراكية) التي فشَلَت في تحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على الفقر.

ما هو الجديد الذي يحمله هذا الكتاب ويبشر به في ثنايا صفحاته؟ أختزله في خمسِ عبارات:

1- يقدم مشروعا نقديا: الكتاب ليس مجرد عرض للمعلومات. إنه مشروع فكري نقدي يبدأ بسؤال جوهري: كيف يمكن للفكر الإسلامي المعاصر أن يتعامل مع مفهوم العدالة الاجتماعية، خاصة عندما يتم اختبارُه في بوتقة قضية عملية عَويصة (هي الفقر)؟

2- الانتقال من النظرية إلى التطبيق: انطلق المسار من “سؤال العدالة” (نظري) إلى “قضية الفقر” (عملي)، ما يدل أن الكتاب يسعى لتجنب التجريد الفلسفي المجرد ويرتبط بواقع المجتمعات الإسلامية وتحدياتها.

3- الكتاب تشريح دقيق لظاهرة الفقر: حيث يغوص في تحليل أسباب الفقر التاريخية والهيكلية، من الاستعمار القديم والجديد، إلى سياسات المؤسسات المالية الدولية، مرورًا بفساد النخب وغياب الشفافية، وصولاً إلى “اقتصاد الريع الذي يُفتّت المجتمع ويقضي على روح المبادرة”.

4- نقد جذري للنماذج الوضعية: يُفكك الكتابُ ادعاءات النماذج التنموية الغربية والصناديق الدولية، ويخلص إلى أنها “أدوات لإدامة التبعية واستنزاف الثروات”، بدلا من أن تكون أدوات للتحرر والعدالة.

5- يقترح الكتاب رؤية إسلامية أصيلة وشاملة: لا يكتفي بالنقد، بل يبني بديلا متكاملا قائما على أساس العدل الذي هو “ميزان الله في أرضه”،  وعلى مبدأ الاستخلاف، وعلى منطلَق التكافل الذي يجسد مجتمع العمران الأخوي.

وينبني البديل المقترح أيضا على مقياس حد الكفاية: “توافقَ جل الباحثين في التنمية على أن تحقيق حد الكفاية هو أنجعُ السبل للحد من مشكلة الفقر والحرمان البشري”.

وعلى منطق بناء الإنسان (الإنسان هو صانع التنمية وفاعلها وناتجها والمستفيد منها)، وأيضا على مركزية تحرير الإرادة؛ بالتحرر من التبعية السياسية والاقتصادية والفكرية، وبناء “تنمية مستقلة نابعة من مقوماتنا وهويتنا والخصائص التاريخية”..

وبعد هذا التطواف التقييمي والمناقشة الجادة أنهت الأستاذة حبيبة رحمها الله كتابها بتوصيات عملية أضفت على الكتاب قيمة كبيرة، وهذه التوصيات ليست نهائية أو مغلقة بل هي إطار مرن وغني يفتح آفاقا واسعة للبحث، وتجعل من قضية العدالة الاجتماعية في الفكر الإسلامي حقلا خصبا ومتجددا للباحثين في العلوم الاجتماعية والإنسانية على حد سواء وتدعو إلى التقاطع مع تخصصات متعددة. أذكر من التوصيات:

– تأكيدها على بناء تنمية مستقلة لا تنفصل عن بناء الإنسان، تقول مؤلفتنا رحمها الله: “إعداد الإنسان بتحرير مبادراته، وإشراكه في القرارات، وتمتيعِه بالحقوق والحريات التي تكفلها الشريعة دون أن يكبله الفقر والجوع والقمع، وهذا لن يتأتى إلا بالتخلص من الاستبداد السياسي، والاحتكار الاقتصادي لبناء تنمية ترتكز على خدمة الإنسان” 4.

– كما تقترح وضع منظومة تشريعية للزكاة: (مثلا توسيع وعاء الزكاة) “على اعتبار أن مؤسسة الزكاة جزء من النظام المالي في الإسلام، لما لها من دور محوري في تقريب الهوة بين الطبقات الاجتماعية، وقد أثبتت التجربة في مهد الحضارة الإسلامية نجاعتها وجدواها وقدرتها على تحقيق عدالة اجتماعية متفردة، تقوم الدولة بدور الرقابة على مدى الالتزام بالقيم والمبادئ والدعوة إليها والحرص على نشرها” 5.

– وكذلك تقترح “وضع منظومة تشريعية للوقف: وذلك ببناء مؤسسة مستقلة لها قانون إطار لضمان تطويرها وتجويد أدوارها، وانتشالها من سياسة الريع، وتوسيع مجالات الاستثمار فيها، ثم تقوية دورها الاقتصادي في بناء مؤسسات اجتماعية وتعليمية وصحية مع خضوعها للمراقبة والمحاسبة” 6.

– وتوصي الباحثة بضرورة تأسيس مراكزَ أبحاث تنموية: “ليكون عبارة عن مصنع له خط إنتاج ومدخلات ومخرجات تقوده إدارة، ويعمل به خبراءُ ومختصون يهتمون بجودة المنتج ألا وهو الأبحاث” 7.

وختاما

 هذا الكتاب وصية روحية وفكرية تركتها لنا المؤلفة الجليلة، تدعونا فيه إلى نصب ميزان العدالة من جديد، وأن نعيد للاقتصاد روحه الأخلاقية، وللمجتمع توازنه الإنساني، وللإنسان كرامته المهدورة. وألتقط من الكتاب باقة من العبارات الدالة على أفكاره النفيسة:

 “مفهوم التنمية انطلاقا مما عرضنا يشمل مختلف جوانب الحياة، ويجعل الإنسان محوريا فيها، ويقيس رفاهيتَه الاقتصادية بمقياس الأخلاقيات والقيم المنبثقة من تعاليم الشريعة” 8. وتقول أيضا: “فالبلدان الإسلامية في حاجة إلى تنمية بديلة نابعة من أسس الشريعة، قادرة على إحداث التوازن في المجتمع وتحقيقِ الكفاية والعدالة على حد سواء. والحديث عن التنمية البديلة والمستقلة لا يعني الانغلاق والتقوقع على الذات، بل هي توظيف الموارد والإمكانيات وكفاءة استخدامها وتنميتها قصد تحقيق الاستقلال الحقيقي بالخروج من الاستعمار الهيكلي” 9.

جزى الله تعالى المؤلفة خير الجزاء على هذه الإضاءات القيمة، والحمد لله رب العالمين.


[1] خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، محمد أمين بن فضل الله الدمشقي، دار صادر، بيروت، 4/41.
[2] سؤال العدالة الاجتماعية في الفكر الإسلامي المعاصر: قضية الفقر نموذجا، حبيبة حمداوي، ص 16.
[3] المرجع نفسه، ص 15.
[4] المرجع نفسه، ص 163.
[5] المرجع نفسه، ص 164.
[6] المرجع نفسه، ص 165.
[7] المرجع نفسه، ص 166.
[8] المرجع نفسه، ص 93.
[9] المرجع نفسه، ص 115.