تتدفق شلالات النظريات والأبحاث والتجارب والنماذج التربوية هادرة، في كل ثانية، لتزيد من غرق متتبعيها في بحر لا قاع له ولا شط ما لم يخبروا فنون الغوص والسباحة فيه. زخم من التقلبات يجعل المفكر المتخصص في تيه وحيرة خلال بحثه لإيجاد أرضية صلبة موحدة تؤهل للبناء والتنشئة الصالحة. إن كان هذا حال من خبِر خبايا التربية وتعلمها وعلّم فيها، فكيف يكون حال من نُسبت له كلمة مربّ لا لشيء إلا لأنه رُزق الولد؟
وقد قيل في الحكم: “من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أرادهما معا فعليه بالعلم”. والولد الصالح قرة عين في الدنيا ورافدٌ غير منقطع الأجر للآخرة، فهو بذلك من أغلى المطالب وتنشئته التنشئة الصالحة أمر يستوجب التعلم.
فما موارد الاستقاء؟ وما أسس البناء؟
وحتى لا تحيد بنا الطرق دون بلوغ المقصود، وحتى لا تجرفنا التيارات بعيدا عن المطلوب. كان من الضرورة الاهتمام بالأصول في تربية الأبناء كما في غيرها من باقي المجالات.
في الدعوة إلى الرجوع للأصول من قرآن كريم وسنة نبوية شريفة لقياس أوضاعنا الحالية وتقويم مفاهيمنا وتصوراتنا وتصويب خططنا ووجهاتنا.. دعوة إلى رشد. وفي أهميتها يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “من ضيع الأصول حرم الوصول، ومن ترك الدليل ضل السبيل” (1).
نجد في المعجم الوسيط كلمة “أصل” الشيء تعني أساسه الذي يقوم عليه ومنشأه الذي ينبت منه. وأصَّل الشيء أي جعل له أصلا ثابتا يُبنى عليه. وفي القرآن الكريم وردت كلمة أصل مع الشجر (وهو نوع من النبات) في موضعين مختلفين ذكرا وحالا، ولنا في الآيتين العبرة البليغة، إذ أن الولد نبات الآباء. ففي الأول قال الله تعالى: إِنَّهَا شَجَرَةٞ تَخۡرُجُ فِيٓ أَصۡلِ ٱلۡجَحِيمِ (2)، “إنها شجرة تنبت في قعر جهنم، ثمرها قبيح المنظر كأنه رؤوس الشياطين، فإذا كانت كذلك فلا تسأل بعد هذا عن طعمها” (3).
وأما الموضع الثاني ففي قوله عز وجل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيّبَة أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ * تُؤَتي أُكُلَهَا كُلَّ حينٍ بِإِذْنِ رِبّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون (4) في هذه الآية وُصف طيب الشجر بثبات الأصل، ولا أصل أثبت لنشء طيّب ثبات الدين الحنيف الذي ما ارتضى لنا رب العزة جلّ وعلا دينا سواه.
من أجل ذلك، أكرمنا الله سبحانه بالوحي، قرآنا وسنة، وهو أمتن الأصول حبلا وأقومها هداية، فبه غيّر الله تعالى مجتمعات وأجناسا، مختلفة الأسس والغايات، متباينة الأفهام والسلوكات، وبه وحده كان التغيير حتى صار قرنهم خير القرون على الإطلاق.
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “كان الصحابة رضي الله عنهم في زمان النبوة والخلافة الأولى يتعاملون في شفافية بالغة مع أنفسهم ومع الناس ومع الطبيعة لبساطة العيش وسذاجة الوسائل، وانحصار الحاجات في الضروريات. وكان القرآن خطابا موجها مفهوما تُبيّنه – لعقول وقلوب لمّا تستعجم بمخالطة الفلسفة الإغريقية و”الحكمة” الفارسية الهند – سنةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه، وكان السلوك يُشتق مباشرة من الآيات البينات” (5).
فهم الصحابة الكرام الدين حق فهمه فتشربوا معانيه حتى صارت تجلياته معتقدات وقيم وتعاملات، وعزز من ذلك الفهم وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وتوّجه إتقانهم للغة الدين، ملَكة وسليقة.
قال الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (6) وقال سبحانه عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ العَزيزُ الْحَكِيمُ (7).
جعل الله الوحي عربيا، قرآنا ورسالة محمدية، فازدادت بذلك اللغة العربية عزة وشرفا. ولما انتشرت الدعوة بين فرس وروم دخلت العُجمة في لسان العرب وبدأ اللحن يظهر جليا في الكلام، خاصة بعد اختلاط الأنساب وتعدد الثقافات، فما كان من سيدنا علي كرم الله وجهه إلا أن وجّه أبا الأسود الدؤلي لوضع أصول النحو حفاظا على هذه اللغة من الضياع.
واقع لغتنا العربية الآن يستصرخنا جميعا لعقد الصلح معها من جديد والتشمير عن ساعد الجد في تعلمها قبل تعليمها. ولا يجب أن ينبثق اهتمام المربي باللغة العربية عن عصبية لسنية ولا عن قومة عرقية بقدر كونها الوعاء البياني البلاغي لروح الدين الإسلامي.
تعلم الوالدين ما لا يسعهما جهله من اللغة العربية بالضرورة وتعليمه لأبنائهم، لَمن أعظم الأبواب التي بها يحسُن الفهم عن الله عز وجل وعن نبيه صلى الله عليه وسلم. ويزيدهما تقييما للحال واستبصارا للمآل، إلمامهما بتاريخ العرب والعجم على حد سواء، إذ أن هذا الغالب الذي أبهرنا اليوم فصرنا لأثره مقتفين، حتى إذا ما دخل جحر ضب دخلناه، لم يكن دائما بهذه الريادة البراقة في ظاهرها.
وإن استعداد الوالدين لفهم ماضي الأمة وتفسيره واستخلاص عبره لمن أعظم آليات قراءة الواقع الحالي، نحن هنا الآن بتمهيد من الأمس وعلى ضوء اليوم يتم استشراف الغد. وغدنا رهين بمدى حرَفيتنا في صناعة ولد اليوم.
في فوائد التاريخ يقول الأستاذ محمد الطالبي: “من فوائد التاريخ أنه من أهم مقومات الشخصية، حيث أن الفهم الصحيح لأحداث التاريخ يعين على بناء الشخصية السوية ووقايتها من الذوبان، من الأمراض النفسية التي تعترضها وتشل طاقتها. فكما أن الإنسان يحتاج إلى ذاكرة فهو يحتاج إلى تاريخ، لأن التاريخ هو ذاكرته القومية، وعلماء النفس يعلمون الاختلال الذي يطرأ على التوازن العقلي والنفسي إذا فقد المرء ذاكرته، فكما يمرض الفرد لفقد الذاكرة أو اضطرابها، كذلك تمرض الشعوب لضياع تاريخها” (8).
وبهذا يمكن أن نجمل ما سبق في مقومات الأصل الأول من أصول البناء، ألا وهو الأصل الديني والذي يتمثل في كل من القرآن والسنة شرعة ومنهاجا، وفي اللغة العربية وعاء، ثم في التاريخ منطلقا وامتدادا.
إنه الأصل الأساس، ولو كان وحده لكفى فهو عماد العملية التربوية، على مناراته وفي سياقه يتم السعي نحو تغيير السلوكات وإصلاح الإنسان أفرادا وجماعات. ونحن نتحدث عن الإنسان جماعات نستحضر تأثره بمجتمعه وتأثيره فيه، قال رسول الله صلى الله عيه وسلم في الحديث الشريف: “المَرءُ عَلى دينِ خَليلِهِ، فَليَنظُر أَحَدُكُم مَن يُخالِل” (9).
وفي الباب نفسه وباعتبار تأثير العلاقات الاجتماعية في النفس البشرية أصل آخر من أصول التربية، يقول الإمام الغزالي رحمه الله: “وأصل تأديب الصبيان الحفظ من قرناء السوء” (10). فكيف السبيل إلى ذلك؟ هل بمنعهم من مخالطة القرناء واللقاء بهم؟ أم بالمحاصرة وتسييج الحركة؟
أنّى يتحقق لنا ذلك، وقد بات الرفيق اسما افتراضيا في عوالم شبكية تسلُب الأبناء خلف الأبواب المغلقة؟
عن الوسيلة في ذلك يخبرنا ابن خلدون رحمه الله في مقدمته قائلا: “ومن كان مُرباه بالعسف والقهر … سطا به القهر وضَيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل وحمَل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة، وصارت له هذه عادة وخلقا” (11).
إنهما أصلان آخران مهمان في التربية، الأصل الاجتماعي والأصل النفسي للولد. من خلالهما يكتسب المعايير والقيم التي على أساسها يتم توجيه سلوكاته في تفاعلاته اليومية مع الآخرين.
لابد للوالدين من مراعاة هذين الأساسين أيضا، فالأسرة من حيث كونها بيئة تربي وتوجه وتقوم؛ لا تشترك مع المجتمع إلا في بعض أجزاء الحلقات التي يشغلها الولد، أسرة تتنوع بتنوع الأدوار الاجتماعية وتتدرج في المراحل العمرية للنشء. وعليها المُعول بعد الله تعالى في تيسير اندماجه في هذا المجتمع مع الحفاظ على تفرده طبعا.
وهناك أصول أخرى عديدة، وقد تم الاقتصار فقط على كبرياتها في هذا المقال.
ولا يعني الحث على تعلم الأصول التربوية أبدا الانزواء والانطواء، بل هي دعوة تجعل الانفتاح الفكري على ثقافات العالم ولغاته أكثر اتزانا وأكثر مرونة. ولنا في هذا الموقف النبوي التوجيه الرشيد؛ فعندما همّ الرسول صلى عليه وسلم بإرسال الرسل للدول المجاورة يدعوها للإسلام، بدايات قيام الدولة الإسلامية، بيّن له بعض الصحابة أن المجتمع الدولي آنذاك لا يعترف بالرسائل غير المختومة، لم يمانع صلى الله عليه وسلم وعلى آله في اتخاذ خاتم خاص به بدعوى أنه ليس من الثقافة العربية أو من التعاليم الإسلامية، لكنه طوعه للنهج الإسلامي.
عن أنس بن مالك قال: “كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابا أو أراد أن يكتب، فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتابا إلا مختوما، فاتخذ خاتما من فضة، نقشه: محمد رسول الله، كأني أنظر إلى بياضه في يده” رواه الشيخان.
وختاما، كان لزاما قبل الخوض في استراتيجيات تغيير السلوكات غير المرغوبة لدى الأبناء من إطار عام للوالد المربي يبني فيه نفسه أولا ثم يعتمده منطلقا وعودة لتصويب المسار في كل حين؛ إذ الحياد عن الصواب من صفات البشر كبارا وصغارا، لكن سلوى النفس أن باب التوبة والرجوع مفتوح ليل نهار.
المراجع:
(1) عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي، الدرر السنية في الكتب النجدية، 5/352.
(2) سورة الصافات، الآية 64.
(3) تفسير الميسر.
(4) سورة إبراهيم، الآية 24/25.
(5) عبد السلام ياسين، سنة الله، ص: 262.
(6) سورة يوسف، الآية 2.
(7) سورة إبراهيم، الآية 4.
(8) التاريخ ومشاكل الغد واليوم، مجلة عالم الفكر، ص: 25.
(9) رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والبيهقي.
(10) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، 3/73.
(11) ابن خلدون، المقدمة، ص: 583.