تغيير السلوكات غير المرغوب فيها عند الأبناء (2)

Cover Image for تغيير السلوكات غير المرغوب فيها عند الأبناء (2)
نشر بتاريخ

لطالما تم اعتبار الأبناء خامة أولية، لا يمتلكون القدر الكافي من التجارب ولا المعارف التي تؤهلهم لاتخاذ القرارات المناسبة وانتهاج السلوكات الصائبة. وبما أن كل لحظة يعيشها الإنسان هي فرصة للتجريب والتعلم فالعمل، فإن شخصيته تتبلور بحسب الصورة التي تتشكل بها خبرته الذاتية.

اختلاف التعامل مع متطلبات الحياة وتنوع ترتيب الأولويات فيها، رهين باختلاف هذه الخبرات وتنوع مشارب اكتسابها. لكن الإجماع على ضرورة نقل هذه التجارب لما لها من أهمية في تسهيل خوض غمار الحياة على فلذات الأكباد أمر لا غبار عليه، إذ لا تكاد تخلو المواقف اليومية من تجلي السعي الدؤوب للآباء في تزويد الأبناء بهذا الرصيد الذي راكمته السنين.

فنجد منهم من يتأمل الواقع فلا يستشف منه المؤشرات التي كانت على عهدهم معيارا واحدا ووحيدا في قياس نجاح آبائهم في وظيفتهم التربوية حيالهم، لقد تمكن آباؤهم -حسب منظورهم- من تأهيلهم لتحمل أعباء أسرهم الحالية بنجاح.

الشخصية الإنسانية عموما – وكما سبقت الإشارة لذلك في المقال السابق – تتداخل في بنائها عوامل لا متناهية، وبذلك يكون لها التفرد في الحاجيات والرغبات والسلوكات، ولا تُستثنى  شخصية الأطفال من ذلك.

لكن مع هذا النوع من الآباء، تتسارع الذكريات حاضرة مع كل موقف طواه الماضي وكرره الحاضر  بتفاصيل جديدة، الأبناء أبطاله، ذكريات تختلج فيها مشاعر الفخر بالحسرة؛ فخر بما كان لديهم – ومنذ طفولتهم – من استعداد لتحمل المشقة الجسدية في سبيل التكسب ذكرانا، وفي تحمل أعباء القيام بشؤون البيت خاصة إن كن إناثا. وحسرة على ما لا يستطيعون تلمسه في معظم أبناء هذا الجيل من قدرة على الإنجاز.

الأمر الذي يكرس لديهم قناعة مفادها أن خبراتهم الحياتية لا بد أن تُنقل لهؤلاء الأبناء بالطرق والأساليب ذاتها التي تم إكسابهم إياها سابقا. وبذلك فإنهم لا يتوانون عاكفين على تقويم سلوكات الأبناء بغية تشكيلهم على شاكلتهم، متناسين بذلك الاهتمامَ بباقي مكوناتهم القلبية والروحية، متغافلين تميزهم واختلافهم. وكأن لسان الحال يقول: حَسْبُنا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا (1).

وغير بعيد منهم نجد من يسعى – وبكل عزم – لجعل غد الأبناء أفضل من يوم الآباء. سعي يغشاه صراع بين ماض قريب يمثل الأصل، وبين تطلع لامتداد مستقبلي لن يزهر أو يثمر إلا بالانسلاخ عن ذاك الموروث المثقل بندوب وجراحات الأساليب التربوية القديمة، محتكمين في ذلك لتجارب مستوردة.

فتراهم منبهرين بالحضارات الأخرى مقلدين لها جملة وتفصيلا، منتهجين في ذلك سبيل نِحلة الغالب كما سماها ابن خلدون في مقدمته، واصفا إياها بكون المغلوب فيها مولعا دائما بتقليد الغالب: “والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه. إما لنظره بالكمال فيه بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تُغالط به من أن انقيادها ليس لطلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب. فإن غالطت بذلك واتصل لها حصل اعتقادا، فانتحلت جميع مذاهب الغالب حتى تشبهت به” (2).

يستطرد الأستاذ عبد السلام ياسين -رحمه الله- بعد استشهاده بهذا الكلام في كتاب تنوير المؤمنات قائلا: “كلمات نتأملها لنكشف المداخل النفسية من تعظيم الغالب لقوته، ثم الانقياد له، ثم مغالطة النفس وإقناعها أن الغالب القوي أكمل. ثم رسوخ كل ذلك عقيدة، ثم انتحال مذاهبه والتشبه به والاقتداء في الشعار والزي وسائر الأحوال والعوائد” (3).

ثم يتابع – رحمة الله عليه – موضحا كيف تتأثر النفس الإنسانية بهذه السبيل: “تزول مع الأيام الآثار العمرانية والاقتصادية مما يجنيه الغالب في حق المغلوب. فتبقى الإصابات النفسية الثقافية التي تخضع لها النفوس وتتجرعها كرها، ثم تبرر مغالطة، ثم تتبناها تقليدا للنحلة الغالبة، ثم تصطفيها عقيدة ومذهبا ونمط حياة وأسلوب حضارة وغاية وجود. رواسب فينا متراكمة طبقا عن طبق” (4).

استيراد الأنماط والأفكار التربوية ليس نقمة على الحضارات المتباينة اقتصاديا فقط، بل إن خطرها محدق حتى بتلك المتقاربة معها. وفي هذا الباب يقول عالم النفس الألماني البريطاني Hans Eysenk: “إنني أنعى على بني جلدتي الأوروبيين كيف يقبلون دراسة التجارب النفسية التي أجريت على شباب وشابات أمريكيات، فإن تلك النتائج لا تصلح للتعميم على البيئة الأوروبية بغير تأصيل يتناسب مع البيئة الأوروبية” (5).

ثم نجد موقفا أمريكيا مماثلا يقول فيه الدكتور (Dr. J. B. Conant) في كتابه “التربية والحرية” (Education and liberty): “إن عملية التربية ليست عملية تعاط وبيع وشراء وليست بضاعة تستورد إلى الداخل. إننا وفي فترات من التاريخ خسرنا أكثر مما ربحنا باستيراد نظرية التعليم الإنجليزية والأوروبية إلى بلادنا الأمريكية” (6).

كلا الحضارتين – ورغم التقارب الاقتصادي والثقافي والجغرافي والديني أيضا – ترفضان استيراد الأنماط التربوية التي لا تنبثق من جذورهما والتي لن تراعي خصوصياتهما.

النجاح في أي عمل دون علم يظل حبيس المصادفة، فالعلم دليل العمل وقائده. ونحن إذ نتعب ونجد في تربية أبنائنا وتنشئتهم، ننأى بصلاحهم وإصلاحهم عن المصادفات، متطلعين لأن يكون هذا الولد فرعا من شجرة طيبة، ثماره آتية كل حين بإذن الله الحليم الكريم. وإنما الأصل الثابت هو سر طيب الشجر وإثمار الفرع.

فما هي الأصول التربوية الثابتة التي يجب أن ينطلق منها المربي ليسعى على ضوئها في تقويم ما اعوج من سلوكات في رحلة غايتها الحفاظ على الفطرة؟


الإحالات:

(1) سورة المائدة، الآية 104.

(2) عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ط1، 2004، ج1 ، ص283.

(3) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 1996، ج1، ص22.

(4) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 1996، ج1، ص23.

(5) مصطفى أبو السعد، رخصة القيادة التربوية، شركة الإبداع الفكري.

(6) السيد أبو الحسن الندوي، نحو التربية الإسلامية الحرة، دار الإرشاد، ط1، 1969، ص67.