تزايدت المسؤوليات اليومية وتلونت بتلون أنماط الحياة، ما جعل الشعور بالرضى عن الأداء في عملية التربية عند بعض الآباء يقاس بكمّ التضحيات المبذولة في توفير الكماليات، بل تتجاوز ذلك في بعض الأحيان لتصبح الرفاهيات من أوكد الضروريات.
ابتعاد كبير عن أولى أولويات التربية؛ وهي التذكير بالغاية وتصويب الوجهة، ومعها كل ما يخدم هذه الأولوية من بناء للشخصيات وتطوير للقدرات وتنمية للمعارف وغرس للقيم.
ومع تسارع الأيام وعمق الانغماس في هذه التضحيات، يستفيق الآباء منتفضين ينشدون التغيير في ما برز صبحا جليا من سلوكات مرفوضة بعد ظلمات ليل غفلة طويل.
عندها تنطلق رحلة الرغبة في التغيير؛ انتفاضة، دون علم ولا دراية، لتكون النتيجة نفورا وتباعدا وإحباطا واستسلاما أو قطيعة وانفصاما لا قدر الله…
فما هو التغيير المنشود؟ وما السبيل إليه؟
عملية التغيير في شخصية الإنسان عملية معقدة تتداخل فيها عوامل عدة ومؤثرات كثيرة، هي أكبر من أن تتحقق بمجرد الرغبة فيها أو تكرار المقال عنها. وبذلك فإن عوامل إنجاحها أو ملامسة النجاح فيها لا يمكن حصرها في مجملها ولا الإحاطة بكليتها، فالشخصية الإنسانية قابلة للتأثر بكل ما خلق الله عز وجل وذرأ وبرأ، وبحسب استعدادها وقدرتها على التفاعل مع كل هذه المثيرات اللامحدودةّ، تُراكم الخبرات؛ فتتبلور صورتها وتتنامى سماتها، وبذلك تحقق تفردها.
لكن رغم صعوبة بسط اليد على كل هذه العوامل والمؤثرات، إلا أن المعمل الكبير والذي يشتغل على النصيب الأوفر من صناعة الإنسان؛ هو الأسرة.
في الحديث المشهور الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كل إنسان تلده أمه على الفطرة، وأبواه بعد يهودانه وينصرانه ويمجسانه، فإن كانا مسلمين فمسلم”.
“إنما يشير صلى الله عليه وسلم بقوله «فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» إلى عامل التربية، ولا مفهوم للأبوين في الحديث.
معنى «لا مفهوم» بتعبير فقهائنا وعلمائنا أن الأبوين ليسا فقط المؤثرين الوحيدين في الطفل، بل يمكن أن يؤثر فيه غير الأبوين: البيئة الفاسدة تؤثر في الطفل، إن لم يكن أبواه فاسدين تكون في الأسرة عناصر فاسدة تؤثر فيه، إن لم يكن في الأسرة عناصر فاسدة يكن في الشارع عناصر فاسدة تؤثر فيه، إن لم يكن في الشارع يكن في المدرسة، إن لم يكن في الشارع ولا في الأسرة ولا في المدرسة، خاصة في زماننا هذا، يكن في الأجهزة التي تنشر الفساد، وتعلم الفساد، وتعبر عنه، وتحض عليه: أجهزة الإعلام، الراديو، التلفاز، السينما، الجريدة، المجلة، الصور الخليعة….” (1).
عندما تنطلق رحلة الإنسان على هذه الأرض حين ولادته تكون أهم مكوناته؛ جسد وقلب وعقل ونفس محدودة الإمكانيات، لكن من رحمته سبحانه وجميل عنايته به أن أودع فيها خاصية النماء، وأن ألقى على قلب والديه محبة منه عنوانها العطاء.
“فالجسد يخلق صغيرًا ضعيفًا، ولكي ينمو لابد له من غذاء متنوع يلبي احتياجاته ويترك فيه أثره الدائم، وينتج عنه دومًا طاقة تدفع صاحبه للنشاط والحركة.
ومع ضرورة إمداد الجسد بالغذاء المناسب لابد كذلك من دوام توجيه نشاطه وحركته بالطريقة التي تساهم في نجاح المرء في أداء وظيفته على الأرض.
وما ينطبق على الجسد ينطبق على العقل والقلب والنفس، فلابد لهذه المكونات الثلاثة من تربية وإنماء حتى تكتمل وتصلح ويساهم كل منها بأثره في تنشئة المسلم الصالح المصلح الذي يقوم بوظيفته الأساسية؛ ألا وهي معرفة ربه وعبادته وخشيته بالغيب، وإقامة دينه في نفسه، ثم في نفوس المسلمين، وأن يجتهد في تبليغه للبشر جميعًا” (2).
إنها التربية بمعناها: إحداث التغيير الدائم والمستمر والإنشاء حالا فحالا حتى بلوغ الأثر، بغض النظر ما إذا كان الأثر مرغوبا أو مرفوضا. وفترة الطفولة عند الإنسان هي أطول الفترات مقارنة بمثيلاتها عند كثير من المخلوقات، مما يجعل هذا التأثير أعمق وأبلغ.
وما يزال الولد نزاعا للخير، ميالا لاستكمال الكمال المقدر له ما لم تصبه القوارع أو تصرفه عن طريق الجادة الصوارف، مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه سبحانه في الصحيحين: “إني خلقت عبادي كلهم حنفاء وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم”.
فالطفل عامة يتعرض لما يفسد فطرته في جميع مستوياتها الإيمانية والوجدانية والمعرفية والسلوكية، ليصبح دور الوالدين متغيرا بتغير المطلوب من وقاية وبناء وعلاج. وما جاء في حديث “فأبواه…” السابق الذكر ، تبيان واضح لعظمة تأثير هذين الوالدين.
فهل يمكن للأسرة أبا وأما أن يميزا هذا المطلوب انطلاقا من سجيتهما فقط؟
أم أن الأمر يحتاج تأهيلا وتعليما؟
الهوامش:
(1) عبد السلام ياسين، سلسلة دروس المنهاج النبوي 2، الفطرة وعلاج القلوب، ص: 23.
(2) مجدي الهلالي، التوازن التربوي وأهميته لكل مسلم، ط 1، 2009م، ص: 6.