تعديل مدونة الأسرة.. وجهة نظر

Cover Image for تعديل مدونة الأسرة.. وجهة نظر
نشر بتاريخ

بداية لست من أنصار التصنيفات السطحية التبسيطية التي تختزل النقاش حول تعديل مدونة الأسرة في ثنائية مع أو ضد، وأعتبر هذا من الفخاخ التي تحول دون التأسيس لمناخ مفتوح وآمن لأي حوار أو نقاش في الموضوع.

وعليه فلا أريد لكلامي أن يفسر على أنه انتصار لنص المدونة الحالي، ولا هو رفض مطلق لأي دينامية إصلاحية في الباب. إنه ببساطة رأي ووجهة نظر تأبى الخضوع لهذا التصنيف ولا تجد مكانها فيه.

إن المراقب المنصف لا يمكنه أن ينكر التطور التشريعي والقانوني المرتبط بالأسرة، لكننا حينما نعرض هذا “التطور التشريعي” على واقع الأسرة المغربية عموما وعلى واقع المرأة المغربية بالخصوص فمن حقنا أن نطرح عليه السؤال من جهتين: من جهة طبيعته ومن جهة أثره. وأظن أن الجواب على هذا السؤال يكمن في قراءة التشريعات في علاقتها بخطين اثنين، خط الفلسفة التصورية الناظمة والضابطة لهذا التشريع (وأقصد بها المرجعية التي يستند إليها)؛ وخط الحركة التطورية المؤثرة فيها (أي ما يرتبط بالسياق المحلي والدولي). قراءة تحتاج منا استدعاء تحليليا لعناصر كل خط على حدة وهو ما لا يسمح به المقام هنا، وحسبي فقط إشارات قد تسهم في ذلك:

الإشارة الأولى مرتبطة بالمكانة الاعتبارية للأسرة كجزء لا يتجزأ من الهوية المغربية، مكانة اعتبارية تستمد خصوصيتها من ديننا الحنيف الذي أحاط هذه البنية الاجتماعية بعناية خاصة لما لها من أثر وتأثير في صناعة الإنسان السوي والمجتمع القوي. فجعل العلاقات المنسوجة داخلها لا تقوم فقط على ميزان الحق والواجب، بل إن ما يمسك بنيانها ويحميه من التصدع هو قاعدة القيم والأخلاق التي يرتكز عليها. ولعل هذا ما جعل تماسك الأسر والاحتماء بها من أقوى ما تستقوي به المجتمعات خاصة في لحظات المحن والأزمات. وعليه فإن أي تشريع يرتبط بالأسرة عليه أن يستحضر هذا البعد؛ وإلا تحوّل إلى جناية على الأسرة وعلى مكوناتها وعلى وظائفها داخل النسيج المجتمعي.

الإشارة الثانية لها علاقة بالأعطاب والاختلالات التي تظهر من حين لآخر جراء تفاعل النص القانوني مع الواقع، وهو أمر طبيعي يجعل التشريعات منفتحة باستمرار على التحول والتطور دونما إخلال بقاعدة الأمن التشريعي. وعلينا أن نكون متيقظين ونحن ندرس هذه الحركية التفاعلية حتى لا نقع في مزلق التركيز على اختلالات فرعية تحجب عنا في كثير من الأحيان اختلالات في العمق والجوهر، وهو ما أراه وللأسف الشديد حاضرا في السياق المغربي؛ حيث يخفت صوت النقاش العمومي حول هذا النوع من الاختلالات، خاصة تلك المرتبطة بسؤال الكرامة وسؤال العدالة وسؤال المواطنة.

الإشارة الثالثة وهي ما يمكن تسميه بانتقائية الإصلاح التي ترتكز على فلسفة التسكين، حيث تغيب إرادة التغيير الحقيقي وتغيب معها الرؤية الكلية الناظمة التي تضع الفعل الإصلاحي -مهما كبر أو صغر- في إطار نسق كلي منسجم. حين يغيب هذا، نجد أنفسنا أمام شتات من المبادرات لا يجمعها خيط ناظم، اللهم خيط تسكين الأزمات، وهو خيط أوهى من خيط العنكبوت.

إن الاختلالات المركبة تستلزم بالضرورة حلولا كلية شاملة، لأنها وحدها القادرة على تفكيك الأزمات وتصنيفها وتقديم “الوصفة العلاجية” الخاصة في إطار “بروتوكول علاجي” كلي داعم. وهذا هو السياق الذي ينبغي أن تعالج فيه إشكالات الأسرة المغربية. إذ الأزمة التي تمر منها ما هي إلا واجهة من واجهات الأزمة الكلية التي يمر منها البلد، ومحاولة البحث عن حل معزول لها في مستنقع من الأزمات هو عبث في عبث، حتى وإن أضاء بعض العتمة فسرعان ما يخبو وميضه ولا يقوى على مجابهة الرياح العاتية القادمة من جهة السياسة والاقتصاد و…

لذا فإن كسب بعض الرهانات يستلزم بالضرورة كسب رهانات أخرى ترتبط بها ارتباطا وجوديا وليس فقط ارتباطا تفاعليا؛ إذ كيف يمكننا كسب رهان التنمية (وأعني هنا بالتنمية تلك المرتكزة على نمط العيش وليس فقط على مستوى العيش) دون كسب رهان حقوق الإنسان، وكيف يمكننا كسب رهان حقوق الإنسان دون كسب رهان الديمقراطية، بل كيف يمكن تحقيق كل هذا دون أن تكون النساء وقضايا النساء في صلب هذه الدينامية؟

إن هذا النقاش حول تعديل مدونة الأسرة وما أسفر عنه من دينامية مجتمعية بإمكانه أن يفتح أفقا مهما لتمتين البناء الأسري وإنصاف النساء في إطاره لو توفر له شرط الإرادة السياسية وشرط المقاربة الكلية وشرط الحوار المفتوح، وهو ما لا أجدني متفائلة بخصوصه إلى حين ثبوت العكس.