كأنّ الصبح في غزة قد استيقظ هذا اليوم بوجهٍ آخر، لا يعلو فيه صهيل المدافع، ولا تفزع النيام صفارات الإنذار. كأنّ الريح نفسها تنحني لتقبّل الجراح التي أنهكها الليل الطويل، وتهمس للسماء: آن لهذا القلب أن يهدأ.
بما صبرتم، تفتّحت في الحصار زهور لا تعرف الذبول، وأثمرت الدموع رجاء يضيء العيون. اليوم، يتنفّس الأطفال لأول مرة منذ زمن طويل، ويركضون نحو البحر بلا خوف، كأنّ الموج نفسه يحتضنهم فرِحا بعودتهم إليه.
اليوم، تسمع في الأزقة ضحكة تخترق الصمت، تمتزج بصوت المآذن وهي ترفع “الله أكبر” من غير رجفة ولا فزع، وكأنّ الكون كله يردد مع أهلها: الحمد لله الذي أبدلنا من بعد الخوف أمنا.
إنه ليس وقفا لإطلاق النار فحسب، بل إعلان انتصار للروح على الفناء، وانتصار للثبات على السقوط. فكم من أمّ صبرت حتى غدا الصبر رداؤها، وكم من شهيد زرع في الثرى وعدا بأنّ هذه الأرض لن تموت.
وها هو الوعد يزهر اليوم، لا بالهتاف ولا بالأعلام، بل بابتسامة هادئة تخبّئ خلفها تاريخا من الألم، وبإيمان صادق يقول: لقد صدقنا العهد، وجاء أوان السكينة.
غزة اليوم ليست مدينة وحسب، بل قصيدة تمشي على الجراح، تكتبها الملائكة على صفحات الأفق: سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ.
ما أجمل أن يعود الصبح ومعه معنى الحياة. أن يلتفت المقاوم إلى أطفاله فيبتسم، أن تشعل ربة البيت مصباحها دون خوف من انقطاع الكهرباء، أن يسمع الشيخ خرير الماء في صحن المسجد، بعد أن غاب عنه الأذان طويلا.
كل شيء في غزة اليوم يقول: لقد انتصرنا بالثبات، لا بالرصاص فقط. انتصرنا لأننا لم ننسَ الله ساعةَ البلاء، ولأننا آمنّا أن الدم حين يُروى باليقين، ينبت حرية وعدلا وسلاما.
فيا أرض العزة، استريحي قليلًا، واغتسلي بدموع الفرح… فما هذا القرار إلا جسر نحو فجرٍ جديدٍ، يُعيد للغيم لونه، وللأمل نوره، وللأرواح حقّها في الحياة.
لكن… في زوايا البيوت المهدمة، ثمّة صمت لا يُكسره الفرح. ثمّة عيون تنظر إلى السماء ولا تعرف إن كانت تبكي أم تبتسم. فكيف لمن فقد أمّه، أو بيته، أو طفله الذي كان يملأ المكان ضوءا، أن يحتفل بسلام لا يشبه من أحبّهم؟
سيحاولون، نعم، أن يبتسموا رغم الغياب، أن يزرعوا وردة في ركام الذكريات، وأن يعلقوا على جدران الخواء آية من الرجاء. سيجلس الآباء أمام أطلال البيوت، ويحدّثون أبناءهم الشهداء كما لو كانوا ما زالوا هنا، يسمعون ويبتسمون من خلف الغيب.
ستمر الحرب النفسية عليهم كشتاء طويل، بارد وموجع، لكنهم تعلّموا أن في آخر كلّ شتاء ربيعا. سيغسلون أرواحهم بالذكر، ويضمّدون جراحهم باليقين، حتى تعود للحياة نكهتها، وللقلب قدرته على الحلم من جديد.
فالفرح عندهم لا يقاس بالضجيج، بل بالسكينة التي تهبط في القلب بعد صبر طويل. هم لا يحتفلون بالنصر كما يحتفل الناس، بل يحتفلون بأنهم ما زالوا على قيد الكرامة، وما زالوا، رغم الركام، يؤمنون أن الغد أجمل…
وأن الله ما تركهم لحظة واحدة.