لقد أكرم المولى تبارك وتعالى صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام رضي الله عنهم بشرف السَّبق إلى محبّة وتعظيم العروة الوثقى والنعمة العظمى مولانا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكانوا رضي الله عنهم أهلًا لهذه المحبّة.
يقول أبو سفيان رضي الله عنه قبل أن يُسلم –والحقّ ما شهد به أعداء الإسلام–: (ما رأيت أحدًا أشدّ حبًّا لأحد كحبّ أصحاب محمد محمدًا) [سيرة ابن هشام].
ويحدّثنا أيضًا ابن هشام في السيرة عن حبّ أمّنا خديجة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف أنّها رضي الله عنها بذلت كلّ ما تملك: قلبها، ونفسها، ومالها، وجاهها، محبّةً وفداءً للمحبوب رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكانت رضي الله عنها أطيب وأحبّ خلق الله تعالى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى الإمام أحمد رحمه الله عن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يومًا، فقلت: هل كانت إلا عجوزًا قد أبدلك الله خيرًا منها؟ فغضب، ثم قال: لا والله، ما أبدلني الله خيرًا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء).
لقد أحبّت الرسول عليه الصلاة والسلام من أعماق قلبها، وأحبّها الرسول عليه الصلاة والسلام من أعماق فؤاده، وهو القائل: (إنّي قد رُزقت حبّها) [رواه مسلم].
حتى إنّ السنة التي ماتت فيها أمّ المؤمنين خديجة رضي الله عنها سُمّيت عام الحزن، من شدّة حزن الرسول عليه الصلاة والسلام عليها. ولقد بكى عليها رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى سالت دموعه على وجهه الشريف، ثم نزل قبرها وافترش ترابه واستلقى فيه، ثم قام وأنزلها بيديه الشريفتين إلى لحدها، ثم غطّاه بالآجر وأهال عليه التراب. [سير أعلام النبلاء].
قلت: هكذا كانت أخلاق الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، المحبّة والوفاء لمن أحبّه.
ويُحدّثُنا ابن هشام في السيرة عن حبِّ سيدنا أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه لرسول الله عليه الصلاة والسلام، كيف أنه رضي الله عنه قدَّم نفسه فداءً لمحبوبه الرسول عليه الصلاة والسلام. فلاحظناه وهو يُصدِّقه عندما أُسري بالنبي عليه الصلاة والسلام من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ولاحظناه كيف بكى بكاءً شديدًا فرحًا عندما أخبره الرسول عليه الصلاة والسلام بالصحبة في الهجرة النبوية. كما لاحظناه وهو يسبق رسول الله عليه الصلاة والسلام في دخول غار ثور، يجعل نفسه فداءً لرسول الله عليه الصلاة والسلام فيما إذا كان في الغار وحشٌ أو حيّةٌ أو عقربٌ أو أي مكروهٍ يُصيب الرسول عليه الصلاة والسلام منه أذًى. ورأيناه رضي الله عنه كيف بذل نفسه وماله وكل ما يملك فداءً لرسول الله عليه الصلاة والسلام، ورأيناه يُسخّر ماله في عتق أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام من الرِّق والتعذيب، ولاحظناه كيف استعمل أولاده وبناته في خدمة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكيف زوّجه أعز بناته، أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. فكان سيدُنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه نِعم الصاحب ونِعم المحب لرسول الله عليه الصلاة والسلام.
وكان سيدنا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه أشدَّ حبًّا لرسول الله عليه الصلاة والسلام حتى من نفسه التي بين جنبيه. فرأيناه عندما التحق الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى سبحانه وتعالى، وقد غلبته محبته للرسول عليه الصلاة والسلام، شاهرًا سيفه، رافعًا صوته: “من قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، ضربتُ رأسه بسيفي هذا”. (تاريخ ابن كثير). وسُمع رضي الله عنه بعد موت الرسول عليه الصلاة والسلام يبكي بكاءً شديدًا، وهو واقف أمام جثمانه الشريف يرثي رسول الله عليه الصلاة والسلام ويقول:
ليس البُكاءُ وإن أطلتُ بمُقنعي
الخَطبُ أعظمُ قِيمةً من أدمعي
تالله ما جار الزمانُ وما اعتدنا
بأشدَّ من هذا المُصابِ وأوجعِ
فقد الرسول فأظلمتْ كلُّ الدُّنا
والحزنُ عمَّ بكلِّ القلبِ موضعِ
ما زال بالإسلام فينا باقيًا
يَهدِي الأنامَ بنورِه المتشعشعِ
(بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد كان جذعٌ تخطبُ الناسَ عليه، فلما كثر الناسُ اتخذتَ منبرًا لتُسمعهم، فحنَّ الجذع لفراقك، حتى جعلتَ يدك عليه، فسكن. فأمتُك كانت أولى بالحنين إليك لما فارقتهم.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، بلغ من فضيلتك عنده أن جعل طاعتك طاعته، فقال عز وجل: من يُطع الرسول فقد أطاع الله.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، بلغ من فضيلتك عنده أنه أخبرك بالعفو عنك قبل أن يُخبرك بالذنب، فقال تعالى: عفا الله عنك لِمَ أذِنتَ لهم.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده أن بعثك آخر الأنبياء وذكرك في أولهم، فقال عز وجل: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوحٍ وإبراهيم.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أهل النار يودّون أن يكونوا قد أطاعوك وهم بين أطباقها يُعذّبون، يقولون: يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لَئن كان موسى بن عمران أعطاه الله حجرًا تتفجّر منه الأنهار، فما ذاك بأعجبَ من أصابعك حين نبع منها الماء. صلى الله عليك وسلم.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لَئن كان سليمان بن داود أعطاه الله الريح، غُدوُّها شهرٌ ورواحُها شهرٌ، فما ذاك بأعجبَ من البُراق حين سريتَ عليه إلى السماء السابعة، ثم صليتَ الصبح من ليلتك بالأبطح. صلى الله عليك وسلم.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لَئن كان عيسى أعطاه الله تعالى إحياء الموتى، فما ذاك بأعجبَ من الشاة المسمومة حين كلّمتك وهي مشوية، فقالت لك الذراع: لا تأكلني، فإني مسمومة.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد دعا نوحٌ على قومه، فقال: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارًا، ولو دعوتَ علينا مثلها لهلكنا. فلقد وُطِئ ظهرك، وأُدمي وجهك، وكُسرت رُباعيتك، فأبيتَ أن تقول إلا خيرًا، فقلتَ: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد اتبعك في قلّة سنك وقِصر عمرك ما لم يتبع نوحًا في كثرة سنّه وطول عمره، ولقد آمن بك الكثير، وما آمن معه إلا القليل.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لو لم تنكح إلا كفؤًا لك، ما نكحتَ إلينا، ولو لم تواكل إلا كفؤًا لك، ما واكلتنا، فلقد – والله – جالستنا، ونكحتَ إلينا، وواكلتنا، ولبستَ الصوف، وركبتَ الحمار، وأردفتَ خلفك، ووضعتَ طعامك على الأرض، ولعِقتَ أصابعك، تواضعًا منك. صلى الله عليك وسلم).
ويُسأل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: “كان والله أحبَّ إلينا من أموالنا، وأولادنا، وآبائنا، وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ”. [كتاب الشفا للقاضي عياض رحمه الله].
وهذا الصحابي الجليل ثوبان رضي الله عنه، خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، كان شديد الحب لرسول الله عليه الصلاة والسلام، لدرجة أنه كان قليل الصبر عنه، ولا يطيق فراقه، ولا يغفل عنه. يعني: إنه يستحيل أن لا يرى الرسول عليه الصلاة والسلام في نهار اليوم وليلِه. فأتاه ذات يوم، وقد تغيّر لونه، يُعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما يُغيّر لونك؟” فقال: “يا رسول الله، ما بي مرضٌ ولا وجع، غير أنّي إذا لم أرك استوحشتُ وحشةً شديدةً حتى ألقاك، ثم إني إذا ذكرتُ الآخرة أخاف ألا أراك، لأنك تُرفع إلى علّيّين مع النبيين، وأني إن دخلتُ الجنة كنتُ في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخلها لم أرك أبدًا.” فنزَل قول الله تعالى: وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّـٰلِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُوْلَـٰئِكَ رَفِيقًا [تفسير القرطبي، سورة النساء: 69].
وذكر مكّي عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري، أنه لما التحق الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى، قال: “اللهم أَعْمِني حتى لا أرى شيئًا بعده”. [تفسير القرطبي].
وفي رواية الإمام القُشيري قال: “اللهم أَعْمِني، فلا أرى شيئًا بعد حبيبي حتى ألقى حبيبي” فعَميَ مكانه.
قلت: سبحان الله! انظر كيف سيّرت محبةُ الرسول عليه الصلاة والسلام هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم!
والأحاديث والروايات مستفيضة في استباق الصحابة رضي الله عنهم إلى فضل وضوء الرسول عليه الصلاة والسلام، والتبرك بالكثير من آثاره، كألبسته، والقدَح الذي كان يشرب منه، محبةً فيه صلى الله عليه وسلم.
يُحدثنا البخاري رحمه الله تعالى عن أم المؤمنين سلمة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها كانت تحتفظ بشعرات من شعر الرسول عليه الصلاة والسلام في جلجل لها (ما يُشبه القارورة، يُحفَظ فيه ما يُراد صيانته)، فكان إذا أصاب أحدًا من الصحابة عينٌ أو أذى، أرسل إليها إناءً فيه ماء، فجعلتِ الشعراتِ في الماء، فأخذوا الماء يشربونه.
والروايات في شُرب بوله الطاهر، ودمه الزكي، وما فَضُل من طعامه المبارك، كثيرة. كلّ هذا يُوضح بجلاء المنزلة العظمى لرسول الله عليه الصلاة والسلام عند الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، والتفاني في محبته وتعظيمه صلى الله عليه وسلم.
ومحبة الرسول عليه الصلاة والسلام ليست مقتصرة على أصحابه فقط، بل تشمل أصحابه وإخوانه وأحبابه إلى يوم الدين، يوم يلقونه على حوضه الشريف، فيشربون من يديه الشريفتين شَربةً لا يظمؤون بعدها أبدًا.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من أشد أمتي لي حبًّا، ناسٌ يكونون بعدي، يودّ أحدهم لو رآني بأهله وماله” [رواه مسلم].
قال هائمٌ مُحبّ في ذات الحبيب محمد، صلوات ربي عليه وسلَّما:
حَظِيتْ بك الأكوانُ يا خيرَ الورى
وكذا الفروعُ بأصلِهِنَّ تطيبُ
أنتَ الحبيبُ وكلُّها لكَ نُسخةٌ
وجميعُ ما هوَ للحبيبِ حبيبُ
وقال مُحبٌّ مُشتاق للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم:
يا خيرَ من دُفِنَتْ بالأرضِ أعظمهُ
فطابَ من طيبِهِنَّ القاعُ والأكمُ
نفسي الفداءُ لقبرٍ أنتَ ساكنهُ
فيهِ العفافُ، وفيهِ الجودُ والكرمُ
أخرج الأصبهاني عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: “الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من عِتق الرقاب، وحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من مُهج الأنفس، ومن ضرب السيف في سبيل الله تعالى”.