امتحان المحاماة.. سقوط منظومة

Cover Image for امتحان المحاماة.. سقوط منظومة
نشر بتاريخ

لم يكن أحد ليتوقع أنّ مجرد امتحان “شهادة الأهلية لمزاولة المحاماة”، سيكون شاهدا أمينا على حجم الفساد المستشري في دواليب الدولة، ويكشف للرأي العام الوطني معطيات، لو كشفها غيره لانضم إلى لائحة من تنتظرهم إحدى التهم المعلومة، الموجهة إلى كل محارب للفساد والاستبداد.

معطيات كانت إلى الأمس تدخل ضمن الاتهامات المفتوحة لمغرب تُتوارث فيه المناصب وتشترى، وتستغل في فرض النفوذ، بعيدا عن المحاسبة المفترض ارتباطها بتلك المسؤولية. لكن هذا الامتحان الذي أسالتِ المعطياتُ المرتبطةُ به مدادا كثيرا من قبل الصحافة والمدونين ورواد مواقع التواصل الاجتماعي، أضاف بصمة ستبقى وسيلة إيضاح جديدة ومؤشرا عن التوازنات والتسويات التي تعقد في الخفاء على حساب مصالح الشعب المستضعف وأبنائه المغلوبين على أمرهم، كما أنها ستبقى وصمة عار في جبين كل من استسهل له ضميره أن يكون جزءا من هذه الفضيحة المدوّية.

فقد جرت العادة في وطننا بأن تكون الأحداث المؤسفة أيضا وسيلة تأريخ لكل مرحلة، لتبقى “فضيحة المحاباة” شاهدة على عبث آخر بمصير آلاف الشباب، وضوءا كاشفا بأن العابثين بمصير أبناء الشعب، غير مهددين لا بالمحاسبة ولا فتح التحقيقات، ما داموا خداما أوفياء للدولة، ضدا في الأصوات المتعالية، المطالبة بالتحقيق وبالإنصاف والعدالة. وكيف لا يكون الوضع كذلك وسياسة الدولة تحكمها قاعدة راسخة منذ فجر الاستقلال “العطاء مقابل الولاء”!

إن “فضيحة المحاباة” من بين شهاداتها المكشوفة أمام الرأي العام، أن هناك لوبيات “مجردة من وخز الضمير” تتآمر في الخفاء على مصالح أبناء الشعب، مستغلة مؤسسات صنعتها الدولة على المقاس، ليس بغرض القيام بوظيفتها الديموقراطية في ضمان العدالة وإعلاء القانون وترسيخ المساواة و بناء التنمية وخدمة المواطن، وإنما لمكافأة خدامها وتمكينهم من جزء قليل من السلطة، من أجل بسط النفوذ وتقسيم الكعكة على الأقارب…

فضائح كلها تنضاف إلى السجل الأسود للنظام في تدبير ملفات تشغيل الشباب، وفضيحة تسقيف سن الولوج إلى التعليم، ليست بمعزل عما تفتقت عنه عبقرية القائمين على تدبير أمور الضيعة السعيدة. وكلها أسلحة فتاكة تناوبت على إصابة آمال الشباب في مقتل، وزادت من تعميق جراحاتهم، لتنبسط أمامهم على أنها وسائل إيضاح ناصعة البيان على أن الشعارات الرسمية البرّاقة التي تدغدغ العواطف لا تجدي، وأن التغيير الشامل لإعادة بناء المغرب الذي يسع الجميع، ويحترم الجميع، هو الحل.

لا يمكن لهذه الفضيحة أن تكون من صنع شخص واحد أو من سبب واحد، بل هي تداخل مؤسسات وتحالف مصالح وتراكم إخفاقات، غير أن النتيجة في النهاية واحدة، هي آلاف من الشباب ازدادوا فقدانا للثقة في كل تلك المؤسسات، بما فيها المؤسسات الوسيطة، التي يفترض فيها حماية القطاعات والحرص على إدماج الشباب، والتعالي عن الحسابات الشخصية، كما ينتظر منها أن تكون في صف أبناء الشعب لحمايتهم من أي مخططات لاغتيال آمالهم في مستقبل كريم في بلدهم.

لقد كشف “امتحان المحاباة” أن أبناء الشعب المستضعف لا راعي لهم ولا من يمثلهم في مؤسساتٍ أضافت إلى صوريتها محاباتها للأقوى والأغنى والأقرب والأكثر نفوذا لا الأكفأ، كما كشف أن رأس المال أصبح صاحب الكلمة، وأكد لهم بما لا يدع مجالا للشك أن مؤسسات الدولة أصبحت في خدمة الفئة النافذة دون غيرها من أبناء الوطن.

هذه الفضيحة، أعادت إلى الواجهة سؤال تكافؤ الفرص بين أبناء الشعب المغربي، وبيّنت أنه مجرد شعار لا يتجاوز الأوراق التي يكتب عليها إلى واقع الشباب، وضربت كل الشعارات المرتبطة به عرض الحائط. فلم يعد هناك داعٍ لإعادة رفعه ثانية في برامج الدولة، وفي الأوراش الحكومية والوزارية المستنسخة، وما عاد المواطن المغربي قادرا على الاستماع لشعارات يتبين في الواقع نفاقها ونفاق من يرفعها.

لماذا الإصرار على التمييز الواضح بين مؤسسات الدولة وأبناء الشعب المستضعف؟ فبينما المجتمع المغربي يحيي قيمه الأصيلة بالتضامن والتكافل والتعاون كما رأينا في وقائع كثيرة، منها واقعة أستاذ تونفييت الذي نابت فيه سواعد أبناء الوطن الخُلَّص عن غيرها في البحث عنه. وبينما أبناء الشعب استطاعوا رسم بسمة أمل بعد نجاحهم في أكبر محفل رياضي عالمي بتعاونهم وإحيائهم للقيم المغربية الأصيلة، نرى في المقابل أن من يَنْسُبُون أنفسهم إلى مؤسسات الدولة مصرون على محو هذه الابتسامة، وتذكيرنا بسواد الواقع وانسداد أفقه.

وبينما هناك من يدفعه يُسْرُ الحال إلى الهجرة نحو بلدانٍ خارج المغرب للعودة منها بشهادات ووراثة مناصب المسؤولية في هذا البلد السعيد، هناك في المقابل من يدفعه الفقر وفقدان الأمل في العيش الكريم إلى الهجرة، والمغامرة بحياتهم في “قوارب الموت” بعد أن دفعهم فشل التدبير والتسيير، وغياب التقسيم العادل للثروة، وفساد أجهزة الدولة، نحو المجهول.

إن اللحظة، وما تشهده من موقف كاسح رافض لهذا التلاعب بمصير الآلاف من الشباب المغاربة خرّيجي كليات الحقوق، وما يستبطنه ذلك من مؤشر صحّي على عدم قبول الطرق الملتوية في تقلّد المناصب وولوج المهن والوظائف مقابل الدفاع الصريح عن تكافؤ الفرص والمساواة بين كل المواطنين، تشكّل انفضاحا مدوّيا على رؤوس الأشهاد لمنظومة الفساد ومنطقه وفسلفته، ومن ورائه إدانة صارخة للسلطوية المخزنية التي تقف صامتة أمام كل الذي يجري. وكيف لا تفعل، وهي من تؤسّس للريع وتدعم الفساد؟! وهو ما يؤكد مقولتنا: ألا محاربة للفساد دون القضاء على حاضنه الاستبداد.

باختصار، المشهد كلّه، ولأننا بإزاء امتحان، تلخّصه عبارة: سقوط منظومة ورسوب دولة!