الوضع في المغرب: أصل المشكل والحل المطلوب

Cover Image for الوضع في المغرب: أصل المشكل والحل المطلوب
نشر بتاريخ

بعد استقلال المغرب سنة 1956 وجدت الحركة الوطنية التي قادت حرب التحرير نفسها خارج دائرة الحكم بشكل كلي. وهذا أمر قد يكون من الاستثناءات الفريدة عالميا، إذ في كل حروب التحرير كانت الجهة القائدة للتحرير هي المخولة منطقيا وعمليا وشعبيا لتتسلم حكم البلد.. لكن في المغرب أغلب الذين تسلموا السلطة بعد الجلاء العسكري للمستعمر كانوا ممن عملوا مع هذا المستعمر مباشرة أو في الإدارة.. بل إن أطرافا كثيرة في الحركة الوطنية تعرضت لتصفيات وملاحقات ليس هذا موضوع التفصيل فيها… وعاش البلد بدون دستور إلى سنة 1962 حيث تم التأسيس للعهد القديم الجديد، عهد الدساتير الممنوحة..

واستمر الشق السياسي للحركة الوطنية ممثلا في حزب الاستقلال في الصمود ومعارضة النظام ثم دخل الحكومة بهدف التغيير من الداخل، في حين كان هدف المخزن الاحتواء والتوظيف والإضعاف بالإغراءات والإفساد وببث الفرقة والتقسيم.. لأن استراتيجية النظام كانت واضحة منذ البداية: عدم ترك أي طرف قوي في الساحة والعمل على إضعاف الجميع بالإغراء والاحتواء أو بالقمع والمواجهة والتنكيل..

انشق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عن حزب الاستقلال سنة 1959 وصار حزبا قويا فواجهه النظام بكل السبل إلى أن انشق عليه حزب الاتحاد الاشتراكي سنة 1975 وآثر الدخول في مربع العمل المخزني، وكان أيضا حزبا قويا بوُجوهِه النضالية وبنقابته وبشبيبته وبإعلامه وبوجوده النسبي في الإدارة.. وفي كل انتخابات مخزنية كان يحاول الحصول على أغلبية راضيا بمسلسل التزوير المخزني حتى جاء عام 1997 حين احتاج النظام لوهم ديمقراطي قوي يخيل للناس أنه يسعى فعلا لتغيير حقيقي يضمن نقل المُلك من الملك محمد السادس؛ فأعطاهم الأغلبية ورئاسة الحكومة سنة 1998 بدون أي تفاوض سياسي أو اتفاق أو ميثاق سياسي معلن أو خفي، وحل شطرا من المشكل الاقتصادي بالخوصصة المعلومة لمعظم المؤسسات العمومية المهمة.. واشتغلت الحكومة بنفس المنهجية غير الديمقراطية: تصرف مطلق للنظام مع هامش في مجال السياسات العمومية للحكومة…

في 2002 صار واضحا الاستقرار السياسي للنظام فاستغنى عن خدمات المعارضة البرلمانية القديمة، واحتج الاتحاد الاشتراكي احتجاج الديك الذبيح، وبقية القصة معروفة بانفصال الشبيبة والنقابة التي كانت عتيدة وتراجع الأداء الإعلامي الحزبي.. وظهر التراجع الواضح لشعبية الأحزاب المهمة بسبب دسائس النظام ومجاراته في استدراجاته واختياراته غير الديمقراطية وغير الشعبية، وكذلك في غياب الديمقراطية الداخلية للأحزاب وغياب الوفاء والإخلاص للمبادئ والثبات عليها.. مقابل ذلك تصاعد مد الحركات الإسلامية فنزل النظام سنة 2008 لتأسيس حزب يتموقع يمين النظام مباشرة ويكون قادرا على مواجهة الإسلاميين سياسيا وجمعويا، مع إعادة ترتيب “الوضع الحزبي” لعدة أحزاب لخدمة الأجندة المخزنية الثابتة المستقرة والمستمرة..

جاء الربيع العربي عام 2011 ليخرج الشعب المغربي مطالبا بالديمقراطية والكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية في حركة 20 فبراير التي أطرتها وشاركت فيها بقوة جماعة العدل والإحسان وبعض أحزاب اليسار منها النهج الديمقراطي والاشتراكي الموحد وفدرالية اليسار بينما عارضتها كل الأحزاب الممثلة في البرلمان. فاستبق النظام الأمر وطرح مبكرا (9 مارس 2011) تغييرا للدستور وانتخابات مبكرة.. لكن الدستور جاء ممنوحا وكرس مؤسسات شكلية عديمة الصلاحيات لم تعط للمنتخب الدور المعروف في الأنظمة الديمقراطية الحقيقية.. قبلت الأحزاب السياسية هذا الدستور وترأس حزب العدالة والتنمية الحكومة لمدة 10 سنوات اشتكى منها قبل غيره من التحكم المطلق للقصر في مقاليد الأمور. وجاءت بعدها حكومة أخنوش، وكانت سنوات استمرار التردي في كل شيء (30 مليار دولار ديون الدولة سنة 2011… و140 مليار دولار سنة 2025! من ناتج داخلي خام يبلغ 163 مليار دولار… أي نسبة الديون الآن %86!).

كما استمر البلد في ذيل ترتيب معظم المؤشرات الدولية. (المغرب في المرتبة 120 عالميا، من أصل 193 دولة، في مؤشر التنمية البشرية السنوي ضمن تقرير عام 2025 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. خلف دول مجاورة مثل تونس (105) والجزائر (96) وليبيا (115)، وأخرى على غرار الغابون (108) ولبنان (102)).

كما تم استهداف نظام المقاصة الذي يبلغ حوالي 5 مليار دولار في حين لا يسأل أحد عن 8 ملايير دولار حجم الأموال المهربة سنويا منذ عدة سنوات! ووضعية كارثية للتعليم انتهت باكتظاظ رهيب هذه السنة، وتدني المستوى والهدر المدرسي وارتفاع نسبة الأمية وتدهور معظم الخدمات الاجتماعية الأساسية وعلى رأسها الصحة والبنية التحتية والتشغيل، ووضعية منكوبي زلزال الحوز منذ أكثر من سنتين.. ومع ذلك استمر الجميع -نظاما وأحزابا- في نفس المسار الأعوج دون وقفة تاريخية جدية تصححه!

وفي خضم الفراغ السياسي المهول المغيب لكل إرادة حقيقية في التغيير ولكل صلاحيات حقيقية للمؤسسات المنتخبة (الملك يرأس مجلس الوزراء الذي يحدد السياسة العامة الأساسية للبلد اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، ويعين الوزراء ويقيلهم، ويعين السفراء ويقيلهم، ويرأس السلطة القضائية والمجلس الديني الأعلى والمجلس الأعلى للأمن، ويحل البرلمان، ويعين مسؤولي المؤسسات الكبرى الاستراتيجية..).. في خضم هذا الفراغ يستعد النظام وكثير من الأحزاب، هذه السنة لتجديد ملهاة الانتخابات التي تصرف عليها أموال كبيرة لتسويق وهم ديمقراطي للداخل والخارج؛ ليكون الناتج مؤسسات مشلولة يوظف أصحابها ويشترى صمتهم بأموال من خيرات الوطن، يرى النظام أنه تفضل بها عليهم، وأنها مقابل المشاركة في دوران الأسطوانة المشروخة للمسلسل السياسي المخزني لتبقى المعادلة القائمة منذ الاستقلال إلى الآن كالتالي:

نظام مُصر على الاستبداد وإطلاق العنان للفساد بشتى أنواعه خدمة للأجندة التسلطية، وحريص على الاستفراد في التصرف في الثروة الوطنية الأساسية، واعتبار الأحزاب السياسية أدوات تزيينية لمشهد ديمقراطي مغشوش توظف في تنفيذ جزء من عمل الآلة المخزنية أساسا في مجال السياسات العمومية مع الحذر كل الحذر من قوتها (تضخمها في مفهومه..) لذا ينبغي أن تخضع باستمرار لمتتالية الإخضاع والتوظيف والإضعاف.. في هذه الأجواء فإنه لا جدوى من قيمة من يتصدر الانتخابات لأن الغرض الأساس، وأقول الغرض الأساس، هو تجديد السلطوية وبعث نفس متجدد في الاستبداد ولانتقاله.. لهذا نثير انتباه الجميع إلى أنه قد سئم المواطن من استمرار هذه المهزلة، ويتطلع إلى تغيير جدي؛ حرية، كرامة، ديمقراطية، صون الهوية، استقلالية، وعدالة اجتماعية..

إن المطلوب للمغرب إن كانت هناك غيرة حقيقية على الوطن وعلى مصيره ومصير أبنائه المستقبلي: إرادة حقيقية في التغيير ودستور ديمقراطي يتوافق حوله الجميع ويؤسس للمقومات الأساسية للدولة الديمقراطية، منها صلاحيات حقيقية للمؤسسات ولفصل واضح للسلط، وحرية وعدالة اجتماعية تسع الجميع دون إقصاء أو تمييز.. وعلى القوى الوطنية الغيورة أن توحد جهودها وتواصل عملها السلمي من أجل إقرار هذه المقومات وتجنيب البلد كل مآل لفوضى أو فتنة لا يريده مواطن مخلص لبلده العزيز المغرب. ولابد من خطوة سياسية جادة من قبل الجميع في هذا الاتجاه.

مع انتباه الجميع أن وطأة الظلم المتزايد والتهميش المستمر والتفقير المتعاظم، كل ذلك يشكل مخاطر حقيقية على الاستقرار. وعلى كل تأخير للمعالجة الجذرية لأصل الداء.

عندما نجد أكثر من 2 مليون تحت خط الفقر، و5 ملايين في وضعية هشاشة اقتصادية، و4.3 ملايين شاب خارج سوق الشغل والتعليم والتكوين، فإننا أمام جيل معذب، مهدد بالتهميش والانزلاق نحو مسارات خطيرة.

أخطر ما في هذه الأرقام أن جيل الشباب، الذي يُفترض أن يكون قاطرة التنمية، هو أول الضحايا: بطالة تتجاوز 35% للفئة العمرية بين 15 و24 سنة، وأكثر من 25% بطالة في صفوف حاملي الشهادات. كلها مؤشرات على فشل ذريع في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وغياب رؤية تنموية حقيقية تراعي الإنسان قبل الأرقام.

إن استمرار تجاهل هذه المعطيات وما يتبعها من معاناة على الأرض، يعد مغامرة بمستقبل البلد، وإصرارا على إنتاج نفس المآسي الاجتماعية والاقتصادية.

إن الحل لا يكون بالتضييق والقمع، بل بإطلاق سراح جميع المعتقلين بمن فيهم معتقلي الريف، وإعادة الاعتبار للكرامة وللعدالة، وإطلاق مشروع وطني جامع يضع الشباب في صلبه، ويوفر التعليم الجيد المجاني للجميع، والشغل الكريم، والأفق المفتوح.

إنها أرقام تُمثل ناقوس خطر حقيقي يُهدد استقرار المغرب ومستقبل أجياله. فهل من عقل رشيد؟