الوثيقة السياسية للعدل والإحسان وسؤال الثابت والمتغيـر

Cover Image for الوثيقة السياسية للعدل والإحسان وسؤال الثابت والمتغيـر
نشر بتاريخ

فـي إطار ديناميكيتها المؤسساتية، ومن خلال لقاء صحفي، قدمت جماعة العدل والإحسان بتاريخ: 25 رجب 1445هـ الموافق لـ06 فبراير 2024 وثيقة تضمنت رؤيتها للعديد من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمجتمعية ومقترحاتها فـي كل هذه المجالات؛ وثيقة سياسية تقع فـي 196 صفحة، تكونت من مقدمة وأربعة محاور: المنطلقات والأفق، المحور السياسي: حرية وعدل وحكم المؤسسات، المحور الاقتصادي والاجتماعـي: عدالة وتكافل وتنمية مستدامة، المحور المجتمعـي: كرامة وتضامن وتربية متوازنة.

وسعيا للتعريف بهذه الوثيقة، وانخراطا فـي التفاعل الإعلامـي الذي أثارته، يروم هذا المقال الإجابة علـى بعض التساؤلات ومنها: ما هو السياق العام والخاص للوثيقة؟ ما هـي دلالات ورسائل الوثيقة؟ ما حدود الثابت والمتغير في الوثيقة بالنظر إلـى خط الجماعة ومسارها العام؟ وهل تؤشر الوثيقة لتحول في خطها السياسي بعد أحد عشر عاما علـى رحيل مؤسسها ومرشدها الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله؟

في السياق العام، لن يختلف المتتبعون للشأن العام المغربي على نتيجة تشخيصه، فهو يعاني من حالة حادة من الجمود السياسي والموت السريري للفعل السياسي الرسمي، حيث توارى الوسطاء السياسيون الرسميون أحزابا ونقاباتٍ، وقد جاءت الإضرابات غير المسبوقة في قطاع التعليم لتؤكد هذا التشخيص الذي حذر منه الملك الراحل منذ تسعينيات القرن الماضي، حيث أضحت مخرجات الحوار الاجتماعـي لحلحلة الاحتقان الاجتماعي للشغيلة التعليمية دون جدوى، وهو ما اضطُرت معه الحكومة لسلوك طرق ملتوية للتحاور مع تنسيقيات الأساتذة؛ سياق عام لبؤس الفعل السياسي الرسمي تجاوز ما عُرف بالسكتة القلبية قبل أكثر من ثلاثة عقود، فرض علـى الفاعلين السياسيين من خارج النسق الرسمـي التدخل غيرة علـى المصلحة العامة، التدخل تنبيها لما يتهدد العباد والبلاد من مخاطر، واقتراحا لحلول وبدائل تقي البلاد من السقوط الحر فـي الهاوية. لا قدر الله.

وفـي السياق الخاص ممثلا في وفاء الجماعة بتحيزها لمطالب الشعب بالكرامة والعدالة والحرية، تأتي الوثيقة حلقة جديدة تنتظم فـي عِقد مواقفَ وقعت عليها الجماعة منذ نشأتها، بدءاً برسالة الإسلام أو الطوفان ورسالة القرن فـي الميزان، ورسالة إلى من يُهمه الأمر، وحلف الإخاء، ووثيقة جميعا من أجل الخلاص… مواقف كلفت الجماعة الكثير، ونالت -وما تزال- بسببها حظا كبيرا من التضييق والحصار؛ سياق خاص يؤكد حيوية الجماعة وعملها المؤسسـي، يدحض دعاوى اتهام الجماعة بالعنوسة السياسية والعدمية.

أما عن حدود الثابت والمتحول فـي الوثيقة، فتكفي القراءة السريعة وليس المتأنية للوثيقة للوقوف علـى أن الجماعة لم تتزحزح عن اختياراتها قيد أنملة، ولا أدل علـى ذلك من كم الاستشهادات مما سطره المؤسس والمرشد الإمام عبد السلام ياسين جدد الله عليه الرحمات في مؤلفاته بسطا لمشروع الجماعة: محور “المنطلقات والأفق” نموذجا، حيث تؤكد الوثيقة على انطلاق “المرجعية التنظيرية لجماعة العدل والإحسان من المنهاج النبوي بما هو آلة للعلم ومرشد للعمل، بقراءة متجددة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكتاب العالم والحكمة البشرية. فهو في مستوى التصور يحدد المنطلقات والمبادئ، ويرسم الأهداف والغايات، ويضبط الوسائل، ويرتب المراحل، وينظم الفعل الدعوي والمجتمعي لجماعة العدل والإحسان في إطار مشروع مجتمعي تغييري مطلبه الآني العدل، وغايته الإحسان، وأداته العملية الأساسية: التربية ثم التربية ثم التربية. يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “المستقبل لتغيير عميق شامل، تغيير من داخل الإنسان، من تربية الإنسان، من تعليم الإنسان. التغيير أجيال، التغيير أمهات صالحات، التغيير مدرسة صالحة، التغيير مَنَعة ضد الامتداد السرطاني للثقافة الدوابية، التغيير إعادة بناء الأمة على أصولها، التغيير تعبئة”.

ودفعا لكل لبس أو سوء فهم تؤكد الوثيقة “أن جوهر الخط السياسي للجماعة قائم على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعارضة الشرعية القائمة على الشهادة بالقسط والكينونة مع المستضعفين قبل أن تكون معارضة تدبير المعاش والاقتصاد. يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “لن نكون إلا معارضة من المعارضات تنتقد الحكم وتطعن في كفاءته إن لم نتعرض لأصول الحكم الجائر، باعتباره خرقا في الدين وانتحالا تزويريا لقداسة الدين قبل كل شيء”. ومن نافلة القول -تذكر الوثيقة- التأكيد على سلمية هذه المعارضة، سواء في بعدها الشرعي أو المعاشي، والتأكيد على رفض الاستقواء بالخارج والانزواء في غلس السرية، وهذه ميزات تترجم اللاءات الثلاثة التي ما فتئت الجماعة تعلنها بوضوح: لا للسرية، لا للعنف، لا للتبعية للخارج”.

ومن الثابت في مواقف الجماعة كسرها للمتعارف عليه في الترافع السياسي الرسمي، فلم تتردد الوثيقة في إثارة قضايا الأمن الطاقي والأمن والدفاع والشأن الديني التي دأب الخطاب السياسي الرسمي على اعتبارها خارج التناول، وهو يجعل المتتبع للجماعة من خلال إصدارات قيادييها وبيانات مؤسساتها، سيخلص إلى أن الوثيقة السياسية أجرأة لمواقف الجماعة خلال مسيرتها التدافعية مع الاستبداد، وبالتالي فـ”الوثيقة التي بين أيدينا نسخة متطورة من مثيلاتها، وحلقة ضمن سلسلة الوثائق التي ضمنتها الجماعة مقترحاتها السياسية، مواصلةً اجتهادها وتطوير مشروعها وإسهامها الإيجابي: تفصيلا وتوضيحا وتدقيقا وتحيينا فـي اتجاه رص الصف وتوحيد الجهود وبناء القوة المجتمعية لصناعة التحول المنشود والتغيير المراد، راسمة بذلك حرص الجماعة الدائم على التواصل وتوضيح جوانب عديدة من تصوراتها في مختلف مجالات الشأن العام”.

وتبقـى الإشارة إلى متغير أشرت عليه الجماعة من إصدار وثيقتها السياسية، أو قل أسست عليه قرار الإعلان عن الوثيقة، هو نجاح الجماعة بنسب معتبرة في كسر حصون الحصار التي دأب المخزن على نصبها أمام أي تقارب أو تواصل مع مختلف الفاعلين السياسيين، وعيا منه أن اتفاق الغيورين وفضلاء البلد علـى كلمة سواء فـي إطار عمل مشترك يهدد قلاع الاستبداد، ويؤذن بخرابها.

لقد بذلت الجماعة جهودا مضنية لإنضاج شروط ميثاق وطني على مرأى ومسمع من الشعب بين مختلف الفرقاء من ذوي المشاريع المجتمعية، وحرَصت على إنجاح العمل الميداني في نكران للذات وبعيدا عن الحسابات الضيقة: حراك 20 فبراير نموذجا، اقتناعا منها أن رتق ما أحدثه الاستبداد في جسم المجتمع من أعطاب أكبر وأثقل من أن يتحمله مكون سياسي مهما بلغ عددا وعدة.

واليوم، وفي تقدير الجماعة، بعد توفر شروط ذاتية يجليها منسوب التقارب بين الجماعة ومجموعة من الفاعلين السياسيين، وشروط موضوعية يختزلها انسداد الأفق السياسي في المجتمع، ارتأت الجماعة طرح وثيقتها السياسية باعتبارها مبادرة جديدة للإصلاح متى حسنت النية، وتوفرت الإرادة السياسية الصادقة للقطع مع الفساد والاستبداد. “وبإصدارنا  -تقول الجماعة- لهذه الوثيقة فإننا لا ندعي لها الكمال، ولكنها تعكس إرادة صادقة لبناء مغرب جديد على هدى من الله وبمعية كل من له غيرة على هذا البلد. فقد كانت يد الجماعة منذ تأسيسها ممدودة لكل الصادقين، وستظل كذلك، وهو ما نعتبره واجبا وليس منة على أحد. ومما يجعل ذلك أكثر إلحاحا هو حجم مشاكل المغرب التي تعقدت وتضخمت لدرجة أصبحت أكبر من أن يواجهها طرف واحد مهما بلغت قوته وحسنت نيته، مما يتطلب حلا جماعيا يتم قبله وخلاله وبعده حوار مسؤول وواضح. وهو أمر ممكن إن صفت النيات، وكانت مصلحة المغرب والمغاربة أسبق في الاعتبار، وأبعد عن الحسابات الضيقة والدروب المعتمة”.

خلاصة القول: إن الجماعة من خلال إصدارها لهذه الوثيقة تؤكد ثباتها على مواقفها، فالجماعة قد تتدرج في الصدع بالحق مرونة وحكمة، لكنها لن تقول -توفيقا من الله تعالى- باطلا. مثلما أبانت ذات الوثيقة الدينامية التي تتميز بها الجماعة على الرغم من الظروف الاستثنائية التي تتحرك فيها؛ دينامية لا تخطئها عين المتفحص في مقترحات الوثيقة وفي مختلف المجالات الحياتية للمجتمع؛ مقترحات من حيث العمق تشي أن وراء هذا الإنجاز أطرا أكاديمية ذات باع في تخصصها: مقترحات تطوير مدونة الأسرة نموذجا. ثم إن الجماعة بهذه الوثيقة تقيم الحجة، وترمي بالكرة في معسكر من يُهمهم أمر هذا البلد وشعبه أن الإصلاح ممكن نزعا لفتيل ما يتهدد الاستقرار والسلم الاجتماعيين من جراء سياسة النعامة تجاهلا لمطالب مختلف فئات الشعب في الكرامة والحرية والعدالة.