النخب السياسية والتحولات الراهنة (1)

Cover Image for النخب السياسية والتحولات الراهنة (1)
نشر بتاريخ

تقديم

لقد شهدت الآونة الأخيرة أحداثا جساما، دارت رحاها ومازالت تدور في بلداننا العربية؛ ففي الوقت الذي ظن فيه الجميع أن هذه المنطقة عاجزة عن حلحلت أوضاعها الداخلية، بما يرسم معالم تحول ديمقراطي يقطع مع ماضي الفساد والاستبداد ويتصالح مع الإرادة الشعبية التواقة لغد أفضل؛ تفاجأ الجميع بموجات انتفاضات شعبية انطلقت شرارتها من أرض تونس الشقيقة فمصر ثم ليبيا واليمن والبحرين وسوريا و… انطلقت لتُحَدث العالم أجمع أن هذا الوطن العربي الكبير من حقه أن يتنفس الحرية ويعيش الكرامة ويحظى بالعدالة. وأنه مهما طال ليل الأنظمة الاستبدادية التسلطية، ومهما تفننت في أدوات القمع والتدجين والتفقير والتهميش… حتما سيأتي يوم تعلن فيه الشعوب كفرها بهذه الأنظمة لتلفظها غير مأسوف عليها في مزبلة التاريخ.

ومهما تنوعت المسارات واختلفت السياقات التي سلكتها الانتفاضات الشعبية فيما بات يعرف بالربيع العربي، ستظل تلك لحظةً تاريخيةً فارقةً تعقبها بإذن الله تعالى لحظات، وموجةً تغييريةً تلحقها موجات، حتى وإن كانت أحيانا موجات جزر؛ فالمسارات الثورية قد تعترضها منعرجاتُ إخفاق وانتكاس، كما تجني في سيرورتها مكتسبات وانتصارات.

إن لحظات التقدم والارتداد تلك التي يعرفها مسار الإصلاح والتغيير في بلداننا العربية تطلب إلى الجميع وقفات تأمل وتفحص وتدبر قصد استخلاص دروسها واستجلاء عِبرها بما يدفع في اتجاه التغيير المنشود؛ تغيير يقطع مع ماضي الفساد والاستبداد ويعيد للأمة حقها المغتصب.

وفي هذا السياق يصبح سؤال النخب السياسية سؤالا ملحا بالنظر لخصوصية هذه النخب ومسؤولياتها ووظائفها، وبالنظر أيضا لحجم التحولات الراهنة وتداعياتها على المنطقة بأكملها.

فما هي “النخبة السياسية”؟ وما أدوارها؟ ما حجم مسؤوليتها اتجاه التحولات الراهنة؟ كيف تفاعلت مع موجات الربيع العربي؟ وهل لها دور في المسارات التي اتخذتها الثورات العربية؟ ما هي الأدوار التي ينبغي أن تضطلع بها النخب السياسية لقيادة مسار تغييري وتوجيهه؟ وهل يمكن المراهنة عليها في خلق شروط تحول ديمقراطي حقيقي في البلدان العربية؟

أسئلة وغيرها نحاول في هذه الأسطر تلمس إجابات عن بعضها، وإعطاء وجهة نظر في بعضها الآخر، وقد نكتفي أحيانا بطرح أخرى دون الخوض فيها علها تكون محط تداول وتذاكر بين من يهمهم الأمر.

على أمل أن تكون هذه الأسطر مساهمة متواضعة في ملامسة موضوع غاية في الأهمية، يفتح بابا للمذاكرة والتداول بين كل المهتمين ليس في سياق الترف الفكري والسجال النظري، ولكن في سياق البحث عن مداخل حقيقية للتغيير تفرضها حالة الترهل المخجلة للأنساق السياسية العربية، حتى وإن اختلفت حدتها من بلد لآخر اختلافات لا تحجب عورها.

1- النخبة السياسية: مدخل مفاهيمي

لا يمكننا أن نتوقع من هذه الأسطر ملامسة كل الإشكالات التي يطرحها مصطلح النخبة في بُعده المفاهيمي، مع ما يقتضيه ذلك من خوض في اجتهادات المدارس الفكرية وانتاجاتها الغزيرة في الباب؛ لكني أكتفي بإشارات أظنها تنسجم مع طبيعة الموضوع والغاية منها.

• مفهوم النخبة السياسية

إن مفهوم “النخبة السياسية” من المفاهيم التي حظيت باهتمام كبير لذا العديد من المدارس الفكرية في محاولة لتحديد جوهرها ورسم معالمها وتدقيق معانيها. وقد ظل هذا المفهوم عصيا على التطويع في قالب يحصر مدلولاته في اتجاه معين، بل تناسلت التحليلات والدراسات في الموضوع مشكلة تراكما معرفيا مهما، لكن دون أن تستطيع بلورة تعريف موحد جامع مانع لمفهوم النخبة السياسية أو النخب السياسية.

لكن من خلال تتبع واستقراء عدد من الكتابات المنتمية لعلم الاجتماع السياسي؛ سواء في النسق المعرفي الغربي أو في النسق المعرفي العربي، بدءا بعالم الاجتماع الإيطالي باريتو Vilfredo Pareto وبوتومور Bottomore وميلز G.Wrignt Mills….وصولا إلى علي شريعتي ومحمد عابد الجابري وأركون… وغيرهم أمكننا أن نرصد ثلاث اتجاهات في دراسة النخبة السياسية حسبما ذهب إليه المفكر أورس Jaeggi Urs: الاتجاه الأول يشمل كل النظريات التي ترد النخبة السياسية إلى الفئة الحاكمة، وقد اعتمد أصحاب هذا الاتجاه على معيار السلطة؛ الاتجاه الثاني ويشمل كل النظريات التي تجعل من النخبة فئة متسمة بجملة من القيم تؤهلها لممارسة الحكم اعتمادا على معيار أخلاقي؛ أما الاتجاه الثالث فيظم كل النظريات التي تحدد النخبة السياسية من خلال وظيفتها في المجتمع اعتمادا على معيار وظيفي، ويمكن اعتبار مجهود سوزان كيلر Killer في دراستها المنشورة عام 1963 مجهودا متميزا في الباب.

لقد تطور مفهوم النخبة السياسية ليتجاوز التعريف الكلاسيكي الذي يعتبر النخبة السياسية كثلة واحدة موحدة منغلقة ذات قدرات وامتيازات تؤهلها لممارسة السلطة السياسية، ليصبح مفهوما متسعا مرنا يشمل جماعات مختلفة، ومجموعات متعددة ومتنوعة بتنوع مجالات الحياة ومصادر التأثير، وبدل الحديث عن نخبة سياسية أصبحنا نتحدث عن نخب سياسية تؤدي وظائف طلائعية ومهمة في النسق السياسي والمجتمعي من خلال توجيه حركة المجتمع وتوجيه حركة الدولة.

وتبعا لهذا فإن تحديد أنواع النخب يدخل فيه بعدان اثنان، أولهما اختلاف مجالات الاهتمام والاشتغال، وثانيهما طبيعة ودرجة النفوذ والتأثير سواء من جهة اتخاذ القرارات وصناعتها أو من جهة التأثير فيها والتفاعل معها أو من جهة طرح التصورات والبدائل للمشاكل المطروحة بما يرسم ملامح المستقبل.

• وظائف النخبة السياسية

إن الانخراط الفعلي لبلداننا العربية في مسلسل التغيير الجذري، أو على الأقل لنقل في مشروع الإصلاح الجدي يخرجها من مسلسل الاخفاقات المتتالية على مختلف الأصعدة؛ يظل مشروطا باستيعاب النخب السياسية العربية لتحديات المرحلة ورهاناتها وقيامها بأدوارها ووظائفها التاريخية.

ولئن كانت النخب السياسية تحظى بمكانة متميزة داخل المجتمعات باعتبارها قيادة وطليعة، فذاك نابع بالأساس من طبيعة الوظائف والمهام التي يفترض أن تضطلع بها. مهام ووظائف تستند إلى معرفة دقيقة ودراية عميقة بالواقع وما يعتمل فيه من إشكالات وإكراهات وإخفاقات وما يختزنه من خيرات وخبرات وكفاءات، بدون هذا تصبح نخبنا السياسية بدون “حقائب”، فاقدة للبوصلة والاتجاه.

وتبعا لذلك يمكن رصد أهم وظائف النخب السياسية في ظل الأنظمة التي تحترم نخبها ومواطنيها؛ حيث تعمل النخب على بلورة صيغ مشتركة من خلال تنسيق الجهود بين مختلف الفاعلين داخل المجتمع لوضع السياسات ومواجهة المشكلات وصياغة الحقوق والواجبات؛ وتحرص على تنشيط الحياة السياسية وحفظ التوازن داخل المجتمع 1 وبث قيم ومثل مشتركة، إلى جانب دورها في تأطير المواطنين والرفع من منسوب الوعي السياسي لديهم؛ بما يجعل منها حاضنة للتأطير السياسي والتنشئة الاجتماعية. كما لا يمكن الحديث عن وظائف النخب السياسية دون التأكيد على دورها المحوري في كبح الجموح السلطوي لدى الأنظمة ووقوفها سدا منيعا في وجه الفساد والاستبداد.

بهذا تكون النخب السياسية رافعة مهمة ودعامة أساسية لتحقيق تنمية شاملة في مختلف أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

لكن واقع الممارسة في البلدان العربية يعري عن قصور واضح في القيام بالوظائف والمهام المطلوبة، مما يجعل من مطمح بناء دول قوية وإقامة حكم راشد وتحقيق تنمية شاملة حلما مؤجلا إلى حين، ويجعل سؤال السبب سؤالا ملحا ومشروعا.

سيكون من الظلم تحميل النخب السياسية جريرة الواقع العربي المأزوم، على الأقل في بعده السياسي -ولو أنه فصل اعتباطي لما لا ينفصل-، وهنا ينبغي أن نميز بين نخب سياسية حاكمة لها سلطة اتخاذ القرار وفي يدها كل أدوات النفوذ والسلطة والتأثير، وبين نخب اختارت أو اختير لها أن تقف على مسافة من مراكز القرار، نخب لا تملك إلا مواقفها ومبادئها، وقد يكون أحيانا هامش الحرية الضيق ومنسوب التحرش الذي تتعرض له سببا حائلا بينها وبين تبليغ رؤاها وتصوراتها والتعبير عن مواقفها بالشكل المطلوب.

إن الطبيعة القمعية الاستبدادية التسلطية لأغلب الأنظمة العربية تجعلها بعيدة كل البعد عن الديمقراطية ومستلزماتها وعن العدالة ومقتضياتها، إلا في حدود تلميع الصورة وتزيين الواجهة لا أكثر. وفي ظل هذه الأنظمة تجد النخب السياسية نفسها في مواجهة ثلاث أساليب تحكمية تتقنها الأنظمة بحِرفية تتفاوت من بلد لآخر:

أولها: أسلوب الاحتواء إما ترغيبا أو ترهيبا.

ثانيها: أسلوب التفرقة استغلالا لئيما للخلافات وإشعالا للنعرات وضربا لكل إمكانية تقارب بين الفرقاء.

ثالثها: أسلوب التوليد من خلال استنبات “نخب تحت الطلب” من أجل مباركة سياساته وتلميع صورته وتثبيت مشروعيته.

وللأسف الشديد ينم هذا الأسلوب في التعامل مع مختلف الحساسيات السياسية والفاعلين السياسيين عن تدني في الممارسة السياسية يعمل على تجريف الحياة السياسية وجعلها رهينة التشظي، وبصمها بطابع الجمود والرتابة، كما أنه يعمق الفجوة بين النخب والجماهير ويكرس حالة العزوف وفقدان الثقة لدى المواطن في كل ما له علاقة بالشأن العام.

ولن تستطيع النخب السياسية الفكاك من هذه الأثافي الثلاث إلا من خلال إصرارها على القيام بأدوارها ووظائفها المجتمعية، إلا من خلال الالتحام مع الجماهير -رأسمالها الحقيقي- والتعبير عن همومها وآلامها وآمالها، إلا من خلال استعدادها لدفع ثمن ذلك، فهي تعلم أكثر من غيرها أن لكل تغيير ثمنا لا بد من دفعه، ومن الظلم جعل الشعوب وحدها تذوق مرارته وتدفع كلفته.


[1] علم الاجتماع السياسي أسسه وأبعاده، د. صادق الأسود، ص 439.\