المولدُ النبوي بفهم مُتجدّد

Cover Image for المولدُ النبوي بفهم مُتجدّد
نشر بتاريخ

مقدمة

تحل علينا هذه السنة 1447هـ ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمة تعيش حدثا مؤلما دام لسنتين عصيبتين، شعب في أرض مباركة فيها مقدسات يتعرض لإبادة جماعية بشعة وشنيعة لا مثيل لها في التاريخ، وهي أمة غثاء لا تستطيع الدفاع عنه وعن أرضه وعن مقدساتها. لحظة تاريخية من أسوء اللحظات. ابتلاء ما بعده ابتلاء. وهذا الشعب الفلسطيني العظيم برجاله ونسائه وأطفاله يصنع بفضل الله البطولات تلو البطولات، واقفا وحده أمام الخذلان العربي والإسلامي يقاوم ويتحدى الاستكبار العالمي تتقدمهم الصهيونية العالمية.

عن ذكرى المولد النبوي يتكرر السؤال في كل سنة: لماذا نحتفل بهذه الذكرى النبوية؟ والجواب المختصر الشافي والكافي: نحتفل بهذه الذكرى محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا حضرت محبته وملأت القلوب حضر الاتباع الكامل له. ولأن الأمة اليوم تبعد عن زمان ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسافة زمنية تقارب الخمسة عشر قرنا فهي الأحوج ما تكون إلى إحياء هذه المحبة ليتجدد الاتباع والسلوك على المنهاج النبوي حتى تنبعث فيها معاني النصرة للمستضعفين والدفاع عن المقدسات.

ربما لأول مرة يتمّ الحديث عن ولادة النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ثلاث ولادات، فبعدما كنّا شبابا ونحن نعتاد مجالس العلم والإيمان داخل جماعة العدل والإحسان، كان فقه السيرة للإمام البوطي رحمه الله من بين المراجع الأساسية في دراسة السيرة النبوية، استفدنا منه يومئذ وهو يتحدث عن ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم الطبيعية والجسدية بأنها كانت يوم الاثنين 12 ربيع الأول عام الفيل. بعد ذلك ونحن نكبر ويكبر فهمنا في ظل الصحبة والجماعة وفي تلك المجالس الإيمانية والعلمية وبفضل الاطلاع وتنويع المراجع في السيرة النبوية اكتشفنا أن هناك ولادة ثانية هي الأعظم قدرا والأعمق أثرا، وهي الولادة النورانية. وقد كنت كتبت مقالا في الموضوع قبل سنوات عنونته بـ“ذكرى المولد الحبيب صلى الله عليه وسلم، الولادة والحقيقة”.

اليوم أعود لأكتب عن هذه الولادة النبوية بعد التأمل في الموضوع بفهم متجدّد بأن للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ثلاث ولادات. الأولى طبيعية جسدية، والثانية نورانية، والثالثة روحية.

فماهي هذه الولادات الثلاث؟ وما الفرق بينها؟ وما علاقة ذكرى المولد النبوي بطوفان الأقصى؟

الولادات الثلاث

1. الولادة الجسدية (التاريخية/البشرية)

يقصد بهذه الولادة، ولادته ﷺ كإنسان من أمه آمنة بنت وهب وأبيه عبد الله بن عبد المطلب، ومن سلالة بني هاشم. وقد وقعت له هذه الولادة على الأرجح في يوم الاثنين 12 ربيع الأول عام الفيل بمكة (حوالي 570م)، وأنه ولد فجرا في وقت السّحر وساعة الاستجابة، وُلد وقتئذٍ ساجدا ومختونا ومسرورا صلى الله عليه وسلم. هذه الولادة الجسدية تُبرز بُعده البشري، وأنه وُلد صلى الله عليه وسلم كما يُولد البشر، وعاش ضمن المجتمع المكي كما يعيش الناس. والقرآن الكريم يُشير إلى بشريته صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110].

2. الولادة النورانية

مقصود هذه الولادة أن للنبي ﷺ “أصلا نورانيا” سابقا على خلق العالم المادي. تقول بعض الأحاديث والآثار (على اختلاف درجتها في الصحة): أن أول ما خلق الله “نور نبيك يا جابر”. يُشير هذا إلى أن النبي ﷺ كان نورا سابقا ثم تجسّد في صورته البشرية. فهو صلى الله عليه وسلم عين سابقة النبوة البشرية بدليل قوله: “كنتُ نبيا وآدم بين الروح والجسد”، وفي رواية “بين الماء والطين” 1. هذه الولادة بهذا الوصف للدلالة على مقامه العالي والرفيع صلى الله عليه وسلم عند الله وعلى ارتباطه بالحق قبل الوجود المادي.

قيل عن هذا النور المحمدي بأنه أصل الوجود، ومنه خلق الله آدم عليه السلام، ثم من آدم خلق الله النبيئين، وفي أصلابهم أودع الله تعالى هذا النور كما في قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء: 219]. قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم: أراد تقلبك في أصلاب الأنبياء من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة. ويقول الله عز وجل: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [المائدة: 15]. جاء في التفسير: (قد جاءكم من الله نور) يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم، وقيل: الإسلام، (وكتاب مبين) أي: بيّن، وقيل: مبيّن وهو القرآن.

3. الولادة الروحية (النبويّة/الرساليّة)

كانت هذه الولادة لحظة البعثة والوحي، أي حين نزل جبريل عليه السلام بالوحي في غار حراء. وقال له: اقرأ. يُنظر إلى هذه اللحظة المباركة كولادة جديدة، لأنها لحظة تحوّله صلى الله عليه وسلم من رجل صالح صادق أمين، إلى رسولٍ مكلّف بحمل رسالة عالمية، ومن إنسان هو محمد بن عبد الله إلى رسول هو رحمة للعالمين. بهذا الحدث الكبير وُلدت الأمة الإسلامية وغيرت مسار التاريخ، واتسع الأثر من شخص فردي إلى أمّة ودين عالمي.

وقد تجددت هذه الولادة الروحية للنبي صلى الله عليه وسلم على طول حياته الدعوية لأكثر من مرة في أحداث كبرى؛ مثل الإسراء والمعراج حين عرج به إلى سدرة المنتهى فكان قاب قوسين أو أدنى قريبا من ربه عز وجل، وفي فتح مكة وهو يدخلها بعد أن أخرج منها.

فالولادة النورانية للنبي صلى الله عليه وسلم أصلية فيه فهو نور، والولادة الجسدية المؤقتة بالزمان والمكان لتحمل هذا النور ويتجسد في إنسان، والولادة الروحية هي الانطلاقة الفعلية لنشر هذا النور في العالمين يدعو إليه رسول من عند الله، هذا النور هو الذي بقي يُتوارث جيلا عن جيل بالصحبة والمحبة والمجالسة والتلمذة. 

علاقة المولد بالطوفان

سؤال عميق يفرض نفسه هذا العام من ذكرى المولد النبوي هو: كيف نربط بين حدث ذكرى المولد النبوي وحدث طوفان الأقصى؟ عند التفكير العميق في الجواب نجد أن حدث ذكرى المولد النبوي الشريف، هو بداية النور والهداية، بينما حدث طوفان الأقصى (الذي نعيشه في واقعنا المعاصر)، بما يحمله من معان جهادية وروحية هو امتداد لذلك النور وتلك الهداية. وللتفصيل أكثر يمكن أن نفهم العلاقة على عدة مستويات:

1. المولد النبوي: ولادة النور والتحرر

مولد النبي ﷺ ليس مجرد حدث تاريخي عابر، بل هو ولادة مشروع تحرر الأمة من الظلم ومن الجاهلية. فقد جاء النبي ﷺ برسالة التوحيد والعدل، ليخرج الناس من عبادة الأصنام والطواغيت إلى عبادة الله وحده لا شريك له. فالمولد بهذا الفهم يمثل انطلاق الشرارة الأولى لمسيرة مقاومة الظلم والباطل، وبناء أمة العدل والإحسان.

2. طوفان الأقصى: امتداد لمسيرة التحرر

بالنظر إلى ما يجري في فلسطين اليوم، ومنه طوفان الأقصى، هو صورة من صور استمرار الصراع بين الحق والباطل وبين الخير والشر. فكما بدأ النبي ﷺ جهاده في مكة والمدينة ضد قوى الاستكبار القرشي، يستمر اليوم أبناء الأمة في مواجهة قوى الاحتلال والاستكبار العالمي. فكما كان مولده ﷺ بشارة بقدوم منقذ يحرر الإنسانية، فإن طوفان الأقصى يذكّر الأمة بواجبها في حمل رسالة التحرر للإنسانية.

3. البعد الرمزي للعلاقة

إذا كان المولد النبوي يمثل ميلاد الأمل والنور فإن طوفان الأقصى يمثل يقظة الأمة وبداية تحوّل جديد. فكأن الأمة تستمد من المولد روح التجديد والنهوض، لتجعل من “الطوفان” محطة تاريخية جديدة في مسار الصراع مع الظلم والتدافع مع الباطل وأهله.

4. القدس والمولد: وحدة الرسالة

في السيرة النبوية نقرأ ذكرى الإسراء والمعراج، وفيها أن النبي ﷺ ارتبط بالأقصى حين أُسري إليه، يقول الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء: 1]. فالأقصى بهذا الحدث العظيم يُعتبر رمزا لمركزية الرسالة المحمدية. وذكرى المولد النبوي يذكّرنا بأن تحرير الأقصى جزء من رسالة محمد ﷺ، وأن الأمة إنما تكون وفية لرسولها مُتّبعة له حق الاتباع إذا دافعت عن مقدساتها، وساندت من يدافع عنها.

فالعلاقة إذن بين المولد النبوي وطوفان الأقصى هي علاقة معنى برسالة؛ المولد النبوي هو بداية النور والجهاد ضد الظلم، بينما طوفان الأقصى هو تجلٍّ حديث متجدد لذلك النور في مقاومة الاستكبار العالمي. فكلاهما يعبّر عن حركة الأمة من الاستضعاف إلى التمكين، على المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا.

خاتمة

اللهم يا عزيز يا جبار، يا رحيم يا ستّار، نسألك باسمك الأعظم الذي إذا دُعيتَ به أجبت، وإذا سُئلتَ به أعطيت، أن تنظر إلى أهل غزة بعين رحمتك ولطفك. اللهم كن لهم عونًا ونصيرًا، وحرزًا وحصنًا، وسندًا وظهيرًا. اللهم اربط على قلوبهم، وثبّت أقدامهم، واشف مرضاهم، وارحم شهداءهم، وفكّ أسر أسراهم، واجبر كسر مكلوميهم. اللهم اجعل لهم من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، وارزقهم من حيث لا يحتسبون. اللهم احفظ أطفالهم ونساءهم، واكسُ عاريهم، وأطعم جائعهم، وآمن خائفهم، واشملهم بجنابك ورعايتك. اللهم اجعل دماءهم لعنة على المعتدين، ونورًا في دروبهم، وشرفًا ورفعةً عندك. اللهم احقن دماء المسلمين، وانصر المستضعفين، وكن لأهل غزة ولجميع بلاد الإسلام وليًّا ونصيرًا. آمين.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.


[1] رواه الحاكم في المستدرك.