فاطمة، زينب، سعيدة وغيرهن كثير… نساء يقبعن وراء جبال الأطلس الشامخة، جبال تحكي شموخهن وتتناقل أخبارهن بصدى لا يتجاوز فجاجها.
اعتادت النساء هناك الاستيقاظ قبل شروق الشمس يتأهبن لعمل يوم كأنهن في دوام إداري منتظم، يبدأ بشق الطريق إلى أعالي الجبال بحثا عن الحطب المستعمل للطهي والتدفئة لأن قارورة الغاز في عرفهن من الكماليات التي لا يستطعن إليها سبيلا. رحلتهن إلى الجبل بكل مشاقها ومخاطرها، تحمل في طياتها آهات وأحزان شابات حلمهن البسيط، هو الحصول على مقومات العيش الضرورية، يحقق لهن استقرارا أسريا معقولا غير مجهول المصير. آهات وأحزان غالبا ما تتحول إلى أهازيج شعبية تحكي فيها إحداهن أحوالهن وأمانيهن. لكن هذه الأهازيج لا تعدو أن تكون هي الأخرى صدى تتناقله فجاج الجبال، وتردده شهادة منها على قوة إرادة لا تقهر وعزيمة تتجدد.
ومن سفر في أعالي الجبال بين الغابة وأشجارها وخرير المياه وتغريدها، تعود النسوة إلى المنازل الوطن، وقد بدأت الشمس ترسل أشعتها إلى الوجود، وفرحتهن لا توصف لأنهن استطعن أن يؤمن حطب يومين أو ثلاثة، فرحة ظاهرها الرضا بواقع وجدن أنفسهن شخصياته الرئيسية وباطنها الإحساس بالدونية والقهر لتبدأ رحلة العمل بالدوام الكامل في المنازل. فمن متخصصات في إدارة الإصطبلات والبيطرة إلى عاملات للنظافة بامتياز، تشبه حركاتهن الآلات متعددة الاختصاصات، ومن عملات النظافة إلى بارعات في النسيج والحياكة، تخرج من بين أناملهن رسومات تزين بها زرابي هن بساط واحد ووحيد لغرف الضيوف تتخللها مخدات مختلفة ألوانها تسر الناظرين. وبين هذا العمل وذاك تتفنن النسوة في إعداد أباريق الشاي والقهوة المنسمة بأعشاب الطبيعة الطرية، تزين موائد أكلها بأطباق لا تتجاوز الكسكس أو الطاجين، أو قدر الحساء الأبيض إن توفرت لهن بعض أصناف الخضر الضرورية أو جادت الحقول عليهن بها.
تحكي أمي السعدية كما يناديها الجميع عن حالهن قائلة: (كنا نعتمد على ما تجود به الأرض علينا من خيرات بعد أن نرويها بعرقنا، فنقتات من بقلها وقثائها، ونعيل من كرمها الأهل والأحباب، ونطعم البهائم سندنا وقت الحاجة والشدة. فهذه بقرتي أطعمها من حشائش الأرض لتعطيني حليبا يروي عطشنا ونكرم به ضيفنا. إنها مستقبل عائلتي وذخيرتها). انتهت كلمات امي السعدية بحشرجة اختنق معها صوتها وخفت. وما لبث أن عادت للحديث قائلة: (لكن اليوم لا أنا أستطيع أن أطعمها ولا هي تستطيع أن تعيلنا. فقد أجبرنا على الجلوس في منازلنا، لأن مرضا قاتلا يحوم في القرى والمدن، يتربص بالكبير والصغير، يخطف الأرواح بلا هوادة وقد نموت في أي لحظة). سكتت المرأة واستطردت في الكلام بعد ضحكة ساخرة قائلة: (وهل نحن أحياء لكي نموت مرة أخرى…؟ آه يا زمن).
ما أقساها من كلمات تسللت إلى قلب لترسم فيه صورة منفيات داخل المنفى، وما أقساها من لحظة حينما لا تجد مفرا من حالك ولا تستطيع له تبديلا. إنه حال المنفيات وراء الجبال وقد حق فيهن القول: “أيها الناس إنه فيروس كورونا من أمامكم وشظف العيش من ورائكم، فانظروا ماذا أنتم فاعلون”.