المرأة وبناء الذات

Cover Image for المرأة وبناء الذات
نشر بتاريخ

لابد للمرأة المسلمة في طريق التغيير وبناء الذات أن تبدأ بنفسها أولا، تهذبها وتؤدبها وتربيها، وهذه الأمور لا تتأتى لها في نظر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله إلا بمجموعة من الأسباب، حاولنا أن نجملها في ثلاث مباحث، وهي: المحبة والصحبة لله ولرسوله وللمومنين، إذ هي الزاد الذي تتحمل به عناء الطريق، وتتغلب به على العقبات. والفقه المغيب الذي يحاول الإمام من خلاله أن يحيي في المرأة المسلمة معاني السلوك إلى الله تعالى، وأنها معنية بهذا السلوك كما الرجل، ولتطلب به الكمال الخلقي والعلمي.

1- المحبة والصحبة

المحبة والصحبة هما الركنان الأساسيان في مشروع المنهاج النبوي عند الإمام عبد السلام ياسين، والركيزة الأساسية لكل عمل، إذ لابد قبل الشروع في بناء الذات وتربيتها أن تخلص المرأة وجهها ونيتها لله عز وجل، وأن تحب فيه وتبغض فيه سبحانه، جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان” [1]. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين عن هذا الحديث: “استكملت الإيمان من ذاقت طعم الإيمان يوم أصبح الله ورسوله أحب إليها مما سواهما، ويوم أحبت المؤمنات لا تحبهن إلا لله، ويوم كرهت ماضي غفلتها أو تيهتها كما تكره أن تقذف في النار. قلبها مفعم بالشكر لله المنان الذي أنقذها من خضم الفتنة وأتاح لها سفينة النجاة” [2].

إنها أولى الخطوات لوضع قدم المرأة المسلمة على الطريق الصحيح، حب الله ورسوله، ولا يتأتى ذلك إلا عندما لا تترك في قلبها حبا يساويه أو يفوقه، فلا تكون ممن يختلط حبها للدنيا والمال والأهل بهذا الحب العظيم الذي قال فيه عز جل: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [سورة التوبة، 24]. ولا يكتمل هذا الحب إلا بحب من أحب الله ورسوله من آل البيت والصحب والمومنين والمومنات.

ويذكر الإمام المومنة بالرعيل الأول من الصحابيات عندما جذبتهن قوة الإيمان من أهليهن وذويهن للهجرة إلى الله ورسوله، ولتتقوى أواصر المحبة مشتركة بينهن ويظهر شكل جديد من أشكال الإخاء ألا وهو الأخوة والمحبة في الله.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: “اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك…” [3]. يقول الإمام: “هل هناك أفصح وأوضح في مشروعية الحب في الله من دعائه صلى الله عليه وسلم ربه أن يرزقه الله حب من ينفعه حبه عنده؟” [4]، ويسترسل الأستاذ متسائلا: “هل فهم أحد مقاصد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فهمها الصحابة، وهذا أنس يرجو أن يلحقه الله بأبي بكر وعمر ببركة أبي بكر وعمر (…) هل هي سلسلة من أصحاب، والمصاحبة انقطعت؟ أم الأمر لا يزال مستمرا من قلب لقلوب؟” [5] ليجيب عن هذه التساؤلات بعد استخلاص المعاني الجليلة قائلا: %ذاق الصحابة حلاوة الإيمان، وطعِمُوا طعمه، فحصل لهم اليقين. ذوّقوا طعم الإيمان تابعيهم، وذوّق تابعوهم تابعيهم، والجداول النورانية حية لا تزال، متدفّقة ينور الله بها عباده..” [6].

إذن لابد للمرأة المسلمة أن تبحث لها في هذه السلسلة النورانية عن مكان حتى تنهل من هذا المعين الدافق الصافي، بأن تضع نفسها بين أخواتها محبة ومجالسة لهن، ذليلة وصابرة عليهن.. يقول تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة، 71]، يقول الأستاذ في هذه الآية: “الوِلاية والوَلاية قرب وتناصر وصداقة ومحبة، وشيجتها العظمى حب المؤمنين والمؤمنات مولاهم عز وجل حبا غير مفصول عن حب بعضهم البعض” [7].

من هذه المعاني تبدأ تربية المرأة المسلمة ومن هنا الطريق للمضي قدما نحو البناء والكمال.

2- الفقه المغيب

يصدر الأستاذ حديثه عن هذا الموضوع الجوهري بآيات كريمة من سورة يونس، يقول سبحانه: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس، 62 – 64].

أولياء الله المذكورون في الآية هم الذاكرون السالكون طريق الله، طريق الإحسان، الذي يحتاج لفقه وضوابط حتى لا تزيغ الطريق بطالبه عن سياج الشريعة، ويتكلم الإمام عما لحق هذا الفقه بكثير من الأسف، فكأنه صار غريبا في عصر المادة والتقدم، ويصفه بقوله: ”في هذه ال
عصور النفطية، غيب فقه ترقيق القلوب، فقه المحبة في الله، فقه حب الله، فقه التقرب والسلوك إلى الله، وكأنه بدعة طارئة في الدين لا أصل لها” [8].

السلوك إلى الله كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، المصحوب الأعظم، لازما من أساسيات الدين، جاء سيدنا جبريل ليبينه للمسلمين على عهد رسول الله في صورة رجل حتى يبقى راسخا في القلوب والأذهان، ويعلم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يأتي من بعدهم أن الدين مراتب؛ إسلام وإيمان وإحسان، يتدرج فيها السالك والسالكة الى الله.

أخرج الإمام مسلم وأبو داود والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد. حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تومن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتومن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تلد الأمة ربّتها، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال: ثم انطلق. فلبثت مليا (أي قليلا) ثم قال لي: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم”.

ويورد الإمام عبد السلام ياسين تعليقا للإمام النووي: ”قال رحمه الله معلقا على حديث جبريل، وعلى تعريفه للإحسان بأنه: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”: “هذا القدر من الحديث أصل عظيم من أصول الدين، وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين. وهو عمدة الصدّيقين وبُغية السالكين وكنز العارفين ودأب الصالحين. وهو من جوامع الكَلِمِ التي أوتيها صلى الله عليه وسلم” [9].

إذن لابد للسالكة إلى الله من عبور هذه المدارج حتى تكون من أوليائه المقربين، وهذا السلوك منصوص عليه في الكتاب والسنة كما بينه الإمام وفصله وأجمله في كلمات دقيقة: “إن السلوك إلى الله عز وجل، والسير إليه، عمل منصوص في الكتاب والسنة، كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الناس به. كان معنى القصد إلى قرب الله عز وجل بالتعبد، ومعنى طلب الحظوة عنده والزلفى لديه بالأعمال الصالحة علما مستقرا عندهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “كان جميع الصحابة يعلمون السلوك بدلالة الكتاب والسنة والتبليغ عن الرسول، لا يحتاجون في ذلك إلى فقهاء الصحابة” [10].

3- طلب الكمال

إن مطلب الكمال أسمى مطلب ترجوه المرأة المسلمة عند ربها، وتتذلل لأجله جميع الصعاب والعقبات، عالية المطمح متزنة الخطوات، لا تلوي على شيء غير رضا ربها وطلب ما عنده، يقول عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا، وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب، 28 – 29]. إذن لا بد للمرأة المسلمة أن تقتدي بأمهات المومنين وتسعى لتطهير قلبها من حب الدنيا، وتخلص توجهها ونيتها لله عز وجل، إن كانت تطمح لكمال روحي.

ومن كمال المرأة أن تطلب كل علم يقربها إلى الله ويساعدها في الدعوة إليه، يقول الإمام عبد السلام ياسين: “الكمال العلمي تعلم القرآن وتعليمه وتفريع كل علم سواه عنه من علوم الدين والدنيا. (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) حديث نبوي رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن مولانا عثمان بن عفان رضي الله عنه” [11].

فتعلم المرأة المسلمة القرآن وعلومه يبعث نورا في القلب ينير جنباته ويشوق روحها لتلقي نفحات عهد القرآن، عهد الصحابيات ومحبة التشبه بهن، يقول الإمام رحمه الله تعالى: “في المرحلة الثالثة من ترقي المومنة في معارج الدين يتحسس قلبُها، ويَهفو كيانها، وتتوجه إرادتها للتشبه بأمهات المومنين ذوات الصَّوْن والكمال، تتخذهن نموذجا. وتكون عندئذ بما رفعتها همتُها كالمخاطبة المشرَّفَة المُكَلَّفة بما شُرِّفْن به وكلفن في قوله تعالى:  يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّ
جْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا
[الأحزاب، 32 – 34]. فهؤلاء مثل المرأة المسلمة وقدوتها وباتباعهن تطلب القرب والفوز والكمال.

ويبقى أن تحذر المرأة المسلمة في لحظات الضعف من حبال الفتنة التي تحاك بالليل والنهار، ويزين طريقها حاقدون وحاقدات على دين الله، لا يرون الكمال إلا فيما وصلت إليه المدنية وإن حملت معها الدمار والإجحاف والتحقير لقدر المرأة. وعن هؤلاء وأمثالهم يقول الإمام: “قلت: درجة الكمال الاجتماعي التمديني عنده هو ما وصلت إليه أوربا والمرأة الأوربية، “خيره وشره” كما قال طه حسين، وذلك بقطع النظر عن كل هدف غيرِ التقليد التَطوُّريِّ، وبالانقطاع عن كل دين لأن الدين ينافي العلم.

ويفرض قاسم سائلا يسأله: ما نهاية هذا التطور الذي يسوق المرأة في أطوار الكمال التمدني؟ فيجيب: “ذلك سر مجهول ليس في طاقة أحد من الناس أن يعلمه (…) وإنما نحن على يقين من أمر واحد: وهو أن الإنسانيّة سائرة في طريق الكمال. وليس علينا بعد ذلك أن نَجِدَّ السَّيْرَ فيه ونأخذَ نصيبنا منه”.

قلت: إلى المجهول “الكمالي” يا عشاق حرية المرأة!” [12]، لهذا فالكمال الذي أمر الله سبحانه وتعالى المرأة المسلمة أن تطلبه غير الكمال في فكر دعاة التغريب؛ “والأخت الصالحة مدعوة لكسب الفضائل ومقاومة الرذائل وامتلاك القوة الإيمانية الإرادية لتَرقَى صعُدا في معارج الكمال الروحي والكمال العلمي والكمال الخلقي والكمال الجهادي” [13].


[1] أخرجه أبو داود عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.

[2] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ج 2، ص 7 – 8.

[3] رواه الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري رضي الله عنه.  

[4] تنوير المومنات، م. س. ج 2، ص 19.  

[5] المصدر نفسه.

[6] المصدر نفسه، ص 18.

[7] المصدر نفسه، ص 25.

[8] المصدر نفسه، ص 31.

[9] المصدر نفسه، ص 34.

[10] عبد السلام ياسين، الإحسان، ط 2018/2، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ص 325.

[11] تنوير المومنات، م. س. ج 2، ص 65.

[12] عبد السلام ياسين، العدل: الإسلاميون والحكم، ط 2018/3، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ص 311.

[13] تنوير المومنات، م. س.  ج 1، ص 16.