بسم اللّٰه الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول اللّٰه وعلى آله وصحبه ومن والاه
الإخوة الأعزاء، الأخوات العزيزات، الضيوف الكرام، ومن يتابع أعمال هذه الذكرى أينما كنتم: السلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته.
شكرا للحضور الكرام على تلبية الدعوة، وعلى الصبر معنا في هذا المكان غير المناسب لمثل هذه الأنشطة، لا لأننا لم نجد غيره، ولكن لأنه لم يسمح لنا بغيره، تأبى علينا وعلى أمثالنا السلطة في هذا البلد أن نلتقي في مكان أرحب، وفضاء أوسع، لأننا في منظورهم نغرد خارج السرب، ونتمسك بحريتنا في التعبير عما نؤمن به، مما قد يعتبر مزعجا ومشوشا على الخطاب الرسمي وسياسة “ما أريكم إلا ما أرى”. فصبر جميل والله المستعان.
نشكر أيضا من اتصلوا للاعتذار عن عدم الحضور لأسباب قاهرة، ونتفهم ظروف من دعوا ولم يتجاوبوا لأسباب تخصهم. ونذخر شكرا خاصا للمشاركين والمشاركات في الندوة التي ستنطلق بعد قليل، ونأمل أن تكون مساهماتهم مفيدة ومثمرة.
أيها السادة والسيدات،
لقد دأبت جماعة العدل والإحسان على تنظيم هذه الذكرى منذ رحيل الإمام عبد السلام ياسين عن دنيا الناس إلى رحمة اللّٰه صبيحة يوم الخميس 28 محرم 1434 ه الموافق 13 دجنبر 2012، وذلك وفاء لرجل مر من هذا البلد العزيز، لا كما يمر كثير من الناس، وإنما بذل الغالي والنفيس، وواصل الجهد بالليل والنهار، مهموما بأمور بلده، بل وبالأمة الإسلامية جمعاء، باحثا عن الأسباب وراء هذه الحال التعسة التي تعيشها، وهل من إمكانية للنهوض بعد هذا الانحطاط المهين الذي طال أمده، في ظل الاستكبار العالمي والجشع الدولي وأدواته وعملائه المستنسرين بأرضنا.
وإذا كان النهوض ممكنا فكيف؟ وبأي شروط؟ وبأي أسلوب؟ وبأي ثمن؟ وقد بسط آراءه حول ذلك كله في أكثر من ستة وأربعين مؤلفا، هذا دون احتساب الدروس والرسائل والكلمات التي قيلت في مناسبات شتى وتعد بالمآت.
لكننا لم نشأ أن نحول هذه المناسبة إلى شكل احتفالي تقليدي، نتحدث فيه عن مناقب الرجل، ونستعرض ما ترك من تراث متعدد الاهتمامات والأبعاد، تربوي وفكري وعلمي وحركي، أو نجعلها لحظة انتشاء بما كان للرجل من مواقف قوية، صريحة وواضحة، عبر عنها بالقلم واللسان، منددا بجور الحكام وفساد النخب المتنفذة، محتسبا لله ما أصابه في تلك السبيل، فلم يهن ولم يضعف ولم يستكن، وبقي ثابتا على مواقفه حتى توفاه الله، رحمه الله؛ ولم نرد أن نحولها إلى مناحة يواسي بعضنا بعضا فيها على فقد رجل أدركته المنية قبل أن يدرك، ونحن معه، كل المراد، وكأن المشاريع الكبرى تبدأ مع المؤسسين وتنتهي بانتهاء حياتهم، ولا يبقى للخلف إلا البكاء والنواح والترحم على الأموات.
لم نرد هذا. فمنذ البداية فكرنا في عدة صيغ ليكون إحياء ذكراه متناغما مع روح المشروع الذي جاء به، والمتمثل في هدفين عدّهما الإمام رحمه اللّٰه من أهداف الإسلام الكبرى: العدل في الأرض والإحسان في القلب، مصداقا لقوله عز وجل: “إن اللّٰه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.
لذلك فالذي يفهم جماعة العدل والإحسان على أنها معارضة سياسية فقط يخطئ ويفوته الانتباه إلى الشق الثاني من المشروع المتعلق بسؤال المعنى، أي قضية الانسان مع اللّٰه ومع المصير بعد الموت.
ولأجل ذلك فالعدل والإحسان تشتغل على الواجهتين: تعمل من أجل العدل في الحكم والعدل في توزيع الأرزاق، وتهتم أيضا بالإنسان باعتباره العامل الحاسم في أي تغيير مرجو. وتأملوا إن شئتم كم من المشاريع انهارت لأنها لم تتهيأ لها الأيادي النظيفة والقلوب المتجردة لتنفيذها على الوجه المطلوب، وكم من المبادرات فشلت لأنها لم تقم على قواعد صلبة من التجرد والإخلاص لله، والرغبة الصادقة في خدمة الصالح العام، وكم من القامات العلمية والسياسية والفكرية، كانت، ثم انتهى بها المطاف في أحضان السلطان، خادمة له طائعة، وبددت كل رصيدها العلمي أو النضالي أو المروئي لقاء مكاسب صغيرة. قاوموا الباطل الخارجي، ولم يهتمموا بالباطل الرابض في النفوس، فانهزموا في المعركتين معا.
نجتهد في الاختيار لهذه المناسبة، ولا نزعم أننا نكون دائما موفقين، وإنما نحاول أن نجد قضايا راهنة تصلح مادة للنقاش مع أطراف متعددة المشارب، وعيننا دائما على ما يجمع، لا ما يفرق، وعلى ما يؤلف، لا على ما يشتت. فكفى ما نحن فيه من التمزق الذي لا تستفيد منه إلا قوى الفساد والاستبداد. لقد تعلم المستبدون قاعدة واحدة، وهي “فرق تسد”، وطبقوها بإتقان في كل العصور، فكانت لها، ولا تزال، نتائج سحرية في التمكين للطغاة والمفسدين. والعجيب أن هذه القاعدة معروفة، الكل يعرفها ويعرف عواقبها الوخيمة، ولكن قل من يتخذ الخطوات العملية والجدية لتجاوزها، لا أدري هل بسبب الانهاك الذي أصاب الحس النضالي، أم لانغلاق إيديولوجي، أم رضى بالهامش الضيق المسموح به من قبل السلطة، وعدم الاستعداد لتجاوز ما تعتبره، تعسفا، من الخطوط الحمر.
اخترنا لهذه الذكرى هذه السنة فقرات متنوعة، تربوية وفنية وأدبية وفكرية، كما هي مفصلة في البرنامج العام. وفي موضوع الندوة، التي ستنطلق بعد قليل، اخترنا قضية، أحسبها غاية في الأهمية، بعنوان: “طوفان الأقصى والخطر الصهيوني: التداعيات الإقليمية والتحولات العالمية”. وذلك لعدة اعتبارات أذكر منها اثنين: الأول هو أن قضية فلسطين والخطر الصهيوني هي قضية الساعة، وتفرض نفسها فرضا، نظرا للأهوال التي صاحبتها، والاهتمام الذي حظيت به محليا ودوليا.
وقد عشنا لأكثر من عامين على وقع فواجع وأحداث عظام، انكشفت معها الشعارات الزائفة، والمواقف المنافقة، والمؤامرات الخسيسة على شعب أعزل، محاصر من كل الجهات، احتل الصهاينة أرضه، ومارسوا عليه وحشية يشيب لهولها الولدان، حتى إذا لم تبق إلا رقعة صغيرة بحجم المنديل، أرادوا ضمها هي كذلك إلى ما اغتصبوه من أرض فلسطين بالحديد والنار، والقتل والتدمير والتهجير والمكر والخداع.
فلما أبى الغزاويون الاستسلام، وتشبثوا بأرضهم وحقوقهم المشروعة، وقاوموا بكل ما لديهم من وسائل، وهي متواضعة على كل حال، لا تقارن مع ما لدى الصهاينة من أدوات القتل والدمار المتطورة، فضلا عما توفره لهم عدة دول من الغرب من غطاء سياسي وإعلامي، ومن دعم سخي بالمال والخبرة والمعلومات، ودفاع مستميت عنهم في المحافل الدولية. وقد أسفر العدوان الصهيوني على غزة عن وضع كارثي غير مسبوق تقف الكلمات عاجزة عن وصفه أو إعطاء ولو فكرة تقريبية عما ارتكبه الصهاينة من وحشية. لا جرم أن تتحرك الضمائر الحرة في العالم، وينبري الشباب وطلاب الجامعات ومفكرون وإعلاميون وسياسيون وفنانون وغيرهم ينددون بالهمجية الصهيونية، ويكشفون زيف سرديتهم التي انطلت عليهم زمانا.
وأما الاعتبار الثاني لاختيار هذا الموضوع، فلأن له علاقة وطيدة بوضعنا المأزوم أصلا في هذا البلد السعيد. فمشكلتنا الكبرى لم تعد مع التغول السلطوي واستشراء الفساد، وما ترتب على ذلك من مآس اجتماعية واقتصادية ومهازل سياسية، وإنما انضافت إليها ثالثة الأثافي وهي الاختراق الصهيوني، لاسيما وأن الأسلوب الذي اعتمده الصهاينة، بتنسيق محلي بالطبع، لاختراق المجتمع المغربي مغاير للأسلوب أو الأساليب التي اعتمدت لاختراق بلاد عربية وإسلامية أخرى. أعني أن السياسة التي اعتمدت في المغرب أشد مكرا وأكثر ضررا وأبلغ تأثيرا. وقد حققوا نجاحا لا يستهان به، بخلاف الوضع في بعض الدول العربية والإسلامية الأخرى.
ربما يعود السبب في ذلك إلى أن الصهاينة وجدوا في تلك البلاد هيئات ومنظمات من المجتمع المدني أكثر يقظة، وأصلب عودا، واصطدموا بوعي شعبي واسع يدرك خطر الصهاينة، فبقي الاختراق أو التطبيع طافيا على المستوى الرسمي، ولم ينفذ إلى عمق تلك المجتمعات. أما في المغرب فإن الصهاينة وجدوا لهم أعوانا ومتصهينين مهدوا لهم السبيل، وأزاحوا كثيرا من الحصون والحواجز التي تمنع سرطان التطبيع من التغلغل في شتى المجالات، ولاسيما الاستراتيجية منها. لذلك فالخراب ليس بالباب كما حذر كاتبنا العزيز الدكتور أحمد، بل في عقر وقعر الدار، استقبل بالأحضان، واطمأن واستقر، بعد أن تأكد أن له بالبلد حماة وسدنة أوفياء.
لذلك فموضوع الخطر الصهيوني لا نطرحه اليوم لتسليط الضوء على إفساد الصهاينة في فلسلطين وما يرتكبونه من إبادة جماعية، وتدمير وتهجير. هذه أشياء أصبحت معروفة، وتأثر لها كثير من الناس في العالم، ويوشك أن يكون لذلك أثر كبير في تعرية الصهيونية وكشف حقيقتها العنصرية وطبيعتها الدموية العدوانية. فالصهيونية لادين لها، وإن تمسحت باليهودية، أو اختبأت وراء بعض الفرق اليهودية المتطرفة، ورموزها لا ملة لهم، وإن زعموا خلاف ذلك.
الصهيونية شر محض، وحقد أسود على كل البشر. ولذلك ما دخلوا أرضا إلا خربوها، ولا تمكنوا من نظام سياسي إلا أفسدوه، ولا أبرموا اتفاقا إلا غدروا ونقضوه، ولا قطعوا وعودا إلا أخلفوها. ثم يأتي بعد ذلك من يزعم، سذاجة أو غباء أو تغابيا أو استبلادا لذكاء الناس، أن العلاقة مع الصهاينة مفيدة لقضيتنا الوطنية، وأنهم يحملون معهم لبلدنا مشاريع اقتصادية نافعة.
وهذا وأيم اللّٰه لضلال مبين.
نحن إذن أمام وباء حقيقي ينبغي التصدي له، وترك كل المعارك الهامشية، والخلافات الثانوية جانبا. اللحظة التاريخية الراهنة تقتضي من عقلاء هذا البلد أن يعتبروا أن هذه قضية جامعة، وينبغي مواجهتها بنفس القوة، ونفس العزيمة، التي تواجه بها أعطاب البلد الأخرى وعلى رأسها الفساد والاستبداد.
ضاع وقت كثير في الجدال العقيم. والسؤال المهم اليوم هو: هل من سبيل لاستدراك ما فات، أو على الأقل بعض ما فات، وتجاوز الحواجز النفسية الموروثة، والحسابات السياسية الصغيرة، والدخول في ائتلاف واسع من أجل بداية صحيحة لنظام سياسي عادل، ومغرب جديد آمن يتسع لجميع أبنائه وبناته، مغرب مستقل في قراره، سيد في أرضه، من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، دون منة من صهيوني حاقد لا يرجى منه خير أبدا، ولا طامع جشع، له تاريخ طويل، وعريض أيضا، في استغلال الأمم، ونهب ثروات الشعوب؟ نرجو أن يكون ذلك قبل فوات الأوان …
والله عليم حكيم.
والسلام عليكم ورحمة اللّٰه.
سلا 23 جمادى الآخرة 1447 الموافق ل 14 دجنبر 2025