الفرح بالطاعة

Cover Image for الفرح بالطاعة
نشر بتاريخ

من كرم الله تعالى على عباده الطائعين الخاضعين لجلاله أن توج كل موسم من مواسم الخير ببشرى تنشرح بها الصدور، وتطمئن بها القلوب، وتفرح بها النفوس فرحا لا يشوبه كدر لأنه فرح مأذون، أذن به مالك القلوب ومقلبها كيف يشاء، وموسم الصيام يتوج بفرحتين، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه” [رواه مسلم].

فالمؤمن يفرح بصيامه فرحتين:

الفرحة الأولى

فرحة عندما يفطر؛ سواء في كل يوم من أيام صيامه، أو في عيد فطره. وذلك من وجهين:

الوجه الأول: يحقق خاصية الواقعية في الشريعة الإلهية، ويعترف بإنسانية الإنسان ويحترم فطرته المجبولة على نيل الشهوات مأكلا ومشربا ومنكحا، ومن ثم وإن كان المؤمن يأسى ويحزن لفراق موسم الكنوز الرمضانية، موسم الطاعات والنفحات والرحمات الربانية إلا أنه يفرح بجواز التمتع بشهواته بعد أن حرم منها لوقت محدد لتحقيق مصالح دينية ودنيوية.

الوجه الثاني: يفرح المؤمن لأن الله يسر له أداء الفرائض، وأنعم بها عليه، وأعانه على حسن الامتثال له، ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجله لأنه يعلم أن كل عمل ابن ادم له إلا أن الصيام فهو لله وهو يجزي به. فالصوم أسمى مظهر من مظاهر الإخلاص، وخير معبر عنه لهذا اختصه الله له من بين سائر الأعمال. قال بعض العلماء: “إذا كان الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، وكان على الإنسان مظالم للعباد، فإنه يؤخذ للعباد من حسناته إلا الصيام، فإنه لا يؤخذ منه شيء لأنه لله وليس للإنسان… إن الصيام يتوفر أجره لصاحبه ولا يؤخذ منه لمظالم الخلق شيئا” [شرح رياض الصالحين، 3/403].

الفرحة الثانية

إن قلوب المؤمنين وإن كانت تفرح الفرحة الأولى إلا أنها تتوق إلى الفرحة الكبرى؛ “فرحة عند لقاء ربه”، إنه الفرح بالله تعالى، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ.

يقول سيدي عبد القادر الجيلاني: “الزاهدون يأكلون في الجنة، والعارفون يأكلون عنده وهم في الدنيا، والمحبون لا يأكلون في الدنيا ولا في الآخرة، طعامهم وشرابهم أنسهم وقربهم من ربهم عز وجل ونظرهم إليه، باعوا الدنيا والآخرة فلما تم البيع والشراء غلب الكرم فرد عليهم الدنيا والآخرة موهبة، وأمرهم بتناولها فأخذوهما لمجرد الأمر مع الشبع بل مع التخمة والغنى عنهما… وهم يقولون: وإنك لتعلم ما نريد تعلم أن قد رضينا بك دون غيرك، ورضينا بالجوع والعطش والعري والذل والمهانة، وأن نكون على بابك مطروحين” [الفتح الرباني، ص 185].

فإن رأى العبد بعين قلبه جزيل فضل الله عليه وإحسانه به من غير معاوضة ومن دون سبب منه، اشتد سروره بربه وبمواقع فضله وإحسانه، قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [سورة يونس، الآية 58]، وأي فضل أكبر من الإسلام والإيمان وأي رحمة أعظم من العلم والقرآن. فالله يحب من عبده أن يفرح بذلك ويسر به، بل يحب من عبده أن يفرح بالحسنة إذا عملها وأن يسر بها وهو في الحقيقة فرح بفضل الله، حيث وفقه الله لها وأعانه عليها ويسرها له، فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا؛ هو أمر بالفرح بفضل الله ورحمته، وذلك تبعا للفرح والسرور بصاحب الفضل والرحمة. جاء في مدارج السالكين: “من أعظم مقامات الإيمان: الفرح بالله والسرور به، فيفرح به إذ هو عبده ومحبه، ويفرح به سبحانه ربا وإلها ومنعما ومربيا، أشد من فرح العبد بسيده المخلوق المشفق عليه”.

فالفرح بالله أعلى نعيم القلب وهو يفوق درجة الرضا، إذ إن الرضا طمأنينة وسكون وانشراح، والفرح لذة وبهجة وسرور وإشراق نور الحق في القلوب المحبة للقاء الله والفوز برؤية وجهه الكريم.

ربنا آتنا في الدنيا فرحة وفي الآخرة فرحة، وافتح لنا أبواب فضلك ورحمتك.