صارت كلمة الفتنة سلاحاً متعدد الاستعمالات في يد الكثيرين اليوم والأمس، ومن له مصلحة ومن هو غارق في بحور الغفلة والجبن وذهنية القطيع، فتارة هذا المصطلح هو سيف ذو حدَّين، وتارة سهم يرمى به على أهداف معينة، وتارة شِرَاكاً وفخّاً يقع فيه المتحمِّسون المتسرعون، وتارة وهماً ينسج كالسراب لتنخدع به الجموع التي تساق بالإشارة والتلويح، ولا سيما إذا عزَّزنا هذا المصطلح ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ورؤى بعض العلماء والوجهاء والمرابطين في بلاط السلاطين والأمراء.
ترى ما هي الفتنة وما حقيقتها؟. وهل هي فتنة أم فتن؟. وما المقدر منها والمكتوب، وما هو من صنع الإنسان؟.
الفتنة تعريف وبيان
الفتنة: هي الابتلاء والامتحان والاختبار، وأصلها مأخوذ من قولك فَتَنْتُ الفِضَّة والذهبَ إذا أذبتهما بالنار لتميِّزَ الرديء من الجيد. والفتْنُ: الاحراق ومنه قوله تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلى النَّارِ يُفْتَنُون. أي يحرقون.
ويسمَّى الصَّائغ الفتَّانُ وكذالك الشيطان. وعند ابن الأعرابي: الفتنة الاختبار، والفتنة المحنة، والفتنة المال، والفتنة الأولاد، والفتنة الكفر، والفتنة اختلاف الناس بالآراء، والفتنة الاحتراق بالنار، والفتنة الضلال والإثم. وفَتَنَ الرَّجُلَ أي أزاله عما كان عليه، ومنه قوله تعالى: وَإنْ يَكَادُوا لَيَفْتِنٌونَكَ عنِ الذِي أوْحَيْنَا إلَيْكَ. أي يميلونَك ويزيلونك. وعند الأنباري: الفتنة في كلامهم معناه المميلة عن الحق، وعند ابن سيده: الفتنة الكفر، ومنه قوله تعالى: والفِتْنَةُ أشَدُّ مِنَ القَتْلِ. وفي التنزيل: وَقَاتِلُوهُم حتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي الكفر. والفتنة الفضيحة والعذاب وما يقع بين الناس من القتال.
ويلخص الشيخ الأصفهاني الفتنة بقوله: وجعلت الفتنة كالبلاء في أنهما يستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء، وهما في الشدة أظهر معنىً وأكثر استعمالا) 1 .
وكثيراً ما تستعمل الفتنة في الابتلاء والاختبار، أما المعاني الأخرى فعلى حسب إطلاقاتها والسياق والمعنى يحدد ذالك، والمغزى واللب وفحوى الكلام يدور حول الابتلاء والاختبار، ألا ترى أن أصل الكلمة مأخوذ من تعرض الذهب والفضة للفَتْنِ وهو الإذابة والإحراق بالنار والتصهير بالحرارة حتى يظهر الجيد من الرديء.
ولكن كثر استعمال الفتنة اليوم وشاع شيوعاً خاطئاً أن كل فعل أو قول أو حركة أو دعوة خرجت تناقض الفعل الموروث والسائد في المجتمع، أو دعت لتغيير نهج قديم فاسد أنها فتنة حتى ولو كانت دعوة حق، فقد صار في ذهن الناس أن ما عاشوا عليه وألفوه واعتادوا عليه هو الحق الذي لا مرية فيه ولو كان هو الفتنة بعينه.
الفتنة بين القدر الإلهي وصنع الإنسان
يقول الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى: والفتنة من الأفعال التي تكون من الله تعالى، ومن العبد كالبلية والمصيبة والقتل والعذاب وغير ذالك من الأفعال الكريهة، ومتى كان من الله يكون على وجه الحكمة، ومتى كان من الإنسان بغير أمر الله يكون بضد ذالك، ولهذا يذم الله الإنسان بأنواع الفتنة في كل ذلك) 2 .
الفتنة شدة ومصائب وبلايا من فعل الله المقضي المقدر، ومن فعل الناس يصيبهم بأس الله ويظهر بينهم الفساد في البر والبحر بما كسبت أيديهم. والفتنة اختبار له معنىً ومغزىً وهدف، يريد الله عزَّ وجلَّ أن يبلونا أينا أحسن عملا، يبلونا بالخير والشر فتنة، ويبلونا فرادى وجماعة ، تأتي الفتن التاريخية على ميعاد بين قدر الله وانحطاط العباد عن مقتضيات الإسلام لتؤكد سنة الله وتثبتها وتعطيها طابع الاستمرار والصرامة، فالفتنة في تاريخ المسلمين بشاهد الكتاب والسنة والواقع الملاحظ المسجل من متن سنن الله لا من حواشيها، من أبجدياتها) 3 .
قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً للنَّاسِ. أي اختباراً لهم ليميز الله الخبيث من الطيب، وهذا هو الابتلاء المقصود في الآية: ونَبْلُوكُم بالشَّرِّ والخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون 4 .
وهكذا تهاطل هذا النوع من الابتلاء والاختبار على الأمة من داخلها ومن خارجها، وحذرت السنة النبوية الشريفة من الفتن كقطع الليل المظلم، وفتن تموج كموج البحر وتتقاطر عبر البيوت وتغشى الناس منازلهم وأفكارهم وعقائدهم، منها من هذا الصنف ومن الصنف الآخر.
قال صلى الله عليه وسلم للصحابة الكرام: “إنَّكُمْ سَترَوْنَ بَعْدِي أثَرَةً وأمُوراً تُنْكِرُنَهَا، قالُوا: فمَا تَأمُرُنَا يَا رسُولَ اللَّه؟ قال: أدُّوا إلَيْهمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ” 5 .
وعن أسامة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أشْرَفَ علَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ المَدِينَةِ، ثمَّ قال: “هَلْ تَرَوْن مَا أرى؟ إِنِّي لأرَى مَوَاقِعَ الفِتَنِ خِلاَلَ بُيُوتِكُم كَمَوَاقِعِ المَطَرِ” 6 .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سَتكُونُ فِتَنٌ القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِم، والقَائِمُ فيهَا خَيْرٌ من المَاشِي، والمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ منَ السَّاعِي، منْ تَشَرَّف لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، ومن وَجَدَ فِيهَا مَلْجَأً فَلْيَعُذ بِهِ” 7 .
منطلق التحذير النبوي الرباني أن يسعى المؤمن للخروج من تلك الفتن وألا يقع فيها وأن يعمل جاهداً لتفاديها، وأن يساهم ما أمكن وما وسع الجهد مع العاملين للتحذير منها ومحاربتها.
الفتن أقمصة تحتاج إلى ذوات لتحلَّ بها، فلا تكن الذاتَ ولا المعجب بالقميص ولا المرَوِّجَ له ولا السَّاعيَ إليه.
في القرآن الكريم حدد الله تعالى المثيرين للفتن والداعمين لها والمؤججين لنارها في صنفين: اليهود والمنافقون الذين في قلوبهم مرض. فهم أكثر من يسعى ويبادر في اختلاق مثل هذه الفتن واللعب بها وتنويعها وتسريبها في المجتمعات باذلين في ذلك من الطرق شتى. قال تعالى عن اليهود: كُلَّمَا أوْقَدُوا نَاراً للحْرْبِ أطْفَأهَا اللهُ، وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً والله لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ 8 .
وقال سبحانه عن المنافقين: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمُ إلاَّ خَبَالاً وَلأوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالظّاَلِمِينَ. 9 .
يلعب الإنسان دوره في حصول الفتن والخوض فيها، وسواء كانت هذه الفتن ظاهرة أو باطنة، حسية أو معنوية وهي الأشد والأخطر، فكرية أو سلوكية وهي الأكثر شيوعاً، وهي المادة الخام لتعشش الفتن في المجتمع ودوامها فيه. خراب العقل والقلب وضاعت الأمة بخراب هذين.
قال تعالى: ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البرِّ والبَحْرِ بِما كسَبَتْ أيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذِي عَمِلُوا لعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. عن حذيفة بن اليمان في حديث طويل نقتطع منه هذه الفقرة المهمة، يقول: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ يقُول: “تُعْرَضُ الفِتَنُ عَلى القُلُوبِ كَالحَصِيرِ عُوداً عُوداً، فَأيُّ قلْبٍ أشْرِبَهَا نُكِتَ فيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاء،وَأيُّ قَلْبٍ أنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاء، حتَّى تصِيرَ على قَلْبَيْنِ: علَى أبْيَضَ مِثْلُ الصَّفَا لا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامتِ السَّمَاوَاتُ والأرْضُ، ولآخرُ أسْوَدُ مُرْبَاداً كالكُوزِ مُجَخِّياً، لا يَعْرِفُ مَعْرُوفاً ولا يُنْكِرُ مُنْكَراً، إلاَّ مَا أشْرِبَ مِنْ هَوَاه” 10 .
عن فقه القلوب كان يبحث الصحابة رضي الله عنهم في مجالسهم، وكانوا يعرفون أن بفسادها أو صلاحها تتم عليهم نعمة الاستقامة أو تحل بساحتهم الفتنة) 11 .
أمُّ الفتن
يتيه كثير من كتابنا اليوم وخطبائنا وفقهائنا والمعممين والمفتين للسلطان وغيره في مفهوم الفتنة ويضفون عليها تعريفاً سطحيّاً وهو إثارة الفوضى وذهاب الأمن وخراب المجتمع، وبعد ذالك يرمى كل مقاوم وداع للإصلاح والتغيير واستنهاض بالمجتمع والتمرد عن فساد السادة وتبرير القادة، وتأصيل العمامة تأصيلا ملتوياً مجحفاً متأوِّلاً يؤمن ببعض الكتاب ويقصي بعضه الآخر مدركاً ما في المجتمع من جهل وأمية تدعوه بأن لا يدرك زيف هذا التأصيل، ويتلقف فلان وعلان ما أفتى به هؤلاء وما نشره أولئك فيقف عنده ويلتزم به ويدعوا إليه ويجعل من أي نهضة أو صحوة واستفاقة دعوة للفتنة وخروج من الملة بكسر عصا الطاعة وخرم الجماعة، والفتنة نائمة لعن الله من أيقضها.
نعم الفتنة نائمة لعن الله من أيقضها، ولكن لعن الله كذالك من سكت عنها ومن أصَّلَ لها ومن احتواها ومن برَّر لها ومن ارتمى في أحضانها عناقاً وتقبيلاً ومن أكل من مائدتها وتدَثرَ بلحافها ومن جبن وجعلها رداءً شجاعاً يخفي وراءه جبناً وخنوعاً، ولعن الله من استدفأ بها. إذن الدائرة متسعة وتزداد في الاتساع، إن لم نحدد أم الفتن والساهرة على تنشئة هاته الفروع من الفتن، وليس لنا إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأتيه الوحي من السماء.
“عن حذيفة بن اليمان قال: كنا عند عمر فقال: أيُّكُم يحْفَظُ حَدِيثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الفِتْنَةِ كَمَا قال: قال: فقُلْتُ: أنَا، قال: إنَّكَ لجريء، وكيف قال: قلتُ سَمِعْتُ رسول اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم يقُول: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أهْلِهِ وَمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، يكَفِّرُهَا الصِّيَامُ والصَّلاةُ والصَّدَقَةُ والأمْرُ بالمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عنِ المُنْكَرِ، فقال عُمَر: لَيْسَ هَذا أرِيدْ، إنَّمَا أرِيدُ التِي تَمُوجُ كَمَوْجَ البَحْرِ، قال: فقلت مَا لَكَ وَلها يَا أمِيرَ المُؤْمِنِين؟. إن بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَاباً مُغْلقاً، قال: أفَيُكْسَرُ البَابُ أمْ يُفْتَحُ؟ قال: قلتُ: لا بل يُكْسَر، قال: ذالِكَ أحْرَى ألا يُغْلَقَ أبداً. قال: فقلنَا لِحُذيْفة هَلْ عُمَر يَعْلَمُ من البَاب؟ قالَ نَعَم، كمَا يَعْلَمُ أنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلةَ، إنِّي حَدَّثتُهُ حَدِيثاً لَيْسَ بالأغَالِيط، قال: فهِبْنَا أنْ نسْأل حُذيْفَة من الباب؟ فقلنَا لِمَسْروق سلهُ، فسَألهُ فقال عمر” 12 .
لاحظ معي قول سيدنا عمر رضي الله عنه: إنما أريد التي تموج كموج البحر)، التي يختلط فيها الحابل بالنابل ويقصى فيها الدين بعُرُوِّهِ الوثقى، وتستدعى العصبية والحمية الجاهلية ويسود السيف والقهر، ويغلق فيها القرآن ويقال له هذا فراق بيني وبينك، وتفرض الفروض على البلاد والعباد، ويطوى الكتاب، وتقصى الدعوة لتنزوي بين الزوايا، لتتحدث ما أمكن لها في الهامش عن الهامش، ويجأر السلطان من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لا يأمرني أحد بتقوى الله إلا ضربت عنقه).
كان الفاروق عمر رضي الله عنه سداًّ منيعاً في الخلافة وإمارة المؤمنين وعصاً مسلطة على نزوات الولاة والمسؤولين، استشهد الخليفة وهو يحمل همَّ الأمة والخوف عليها أن تنزلق في هوى القيصرية والكسروية. ألا إن الأمة هي الخلافة، والخليفة المعيَّن للحكم العروة الوثقى، إن صلح صلحت الأمة وإن فسد فسدت الأمة.
كسر الباب وبعد سنين من الكسر إذا بالفتنة تطل وتطل، وإذا بالسيف يسحب من غمده شيئاً فشيئا حتى سطع بريقه وتسلط وتسلطن، وحولت الخلافة إلى الملك وترسخ بفعل القهر الأمر كأنه مبدأ راسخ من الدين وتقليد ضروري وعقيدة راسخة في قلوب المسلمين ومبدأ يدرس للعامة في مناهجهم العقائدية فينحني العالم المعمم والوزير والأمير ساجداً ليبايع غلاماً في خرقِه بالخلافة والإمارة وحكم المسلمين، ومن عارض وقام وقال شورى بين المسلمين ألصقت به تهمة إثارة الفتنة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَتُنْقضَنَّ عُرَى الإسْلامِ عُرْوَة عُرْوَة، فكُلَّمَا انْتَقَضَت عُرْوة تشَبَّتَ النَاسُ بالتِي تَالِيهَا، وأوَّلُهُنَّ نَقضاً الحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ الصَّلاة” 13 . الحكم إن انبنى على أساس شرعي بما يقتضيه الشرع من صالح العباد في المعاد والمعاش فنعما هو، أساسه الشورى والبيعة على ما ارتضاه المؤمنون.
وإن خرج عن الخط المرسوم صار عصبية وقبلية وحمية جاهلية وعصبة تتقوى على عصبة ليكون مصدراً للفتن ومولِّداً جباراً لها .كانت الخلافة جامعة للأمة بكل قومياتها وراياتها وأمصارها، ولاءهم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، و”دعوها فإنها منتنة” كلمة مدوية تصفع كل ناعق لدعوى الجاهلية، ولكن لما تسلط السيف وانتقضت عروة الحكم استدعى هذا قبيلته وصار الصراع قيسية ويمنية ومضرية ….إلخ
طرد الإسلام أول ما جاء بها الرسول الله صلى الله عليه وسلم “حمية الجاهلية” وحاربها وقلع منها الجذع، وبقيت جذور لم تلبث بعد وفاة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم بثلاثين سنة أن اهتزت تحت الأرض، ثم أخرجت نبتاً جديداً اشتدَّ وترعرع وكانت منه الفتنة الكبرى التي زلزلت الخلافة الرشيدة وأطلعت الحكم العاضَّ الأمويَّ) 14 .
من هذه المعضلة وهذه الفتنة الكبرى نشأ الفساد والاستبداد والعصبية والفرق الطائفية، وخرج الخوارج من يحمل سلاحاً ومن يحمل فكرا يدعوا إليه، وكثر المتربصون وتشعبت الفتن وتولَّدت عبر الزمان ومع مجريات الأحداث والأيام، وضاعت الأمة بين سطوة السلطان وفتوى ديدان القراء ليوهمنا البعض اليوم في ضل الثورات والتغيرات وأقوام تحتج ضد الفساد والاستبداد بعد أن بلغ ذروته أن هذا فتنة، وكأننا ننعم في بلادنا بشريعة وأحكام قرآنية وحرية عمرية وعدالة اجتماعية وكرامة إنسانية، حتى إذا دعا البعض للخروج قلنا أتريدها فتنة ونحن نعيش امناً وسلاماً ورخاء وسلطاننا يتفقد رعيته كل ليلة.
فكيف بنا ونحن نعيش ليل نهار في فتن تشيب لها الولدان، غزت البيوت والأفكار واكتسحت المجتمعات حتى صارت عادات، تحدثني عن الفتنة ونحن غارقون فيها وأولي أمرنا هم صناعها وموقظوها ومأججوها، والشعوب المفتقرة لعبة يضحك عليها ويخوفونها بالفتنة عبر المنابر والكراسي، ولكل فتان بوق يقف به على قارعة الطريق يدعوا إلى فتنته ما دام لم يمس أم الفتن بسوء ولم يقترب ليقرع بابها باستنكار أو يمسَّ طابوهاً من طابوهاتها، وبين الفينة والأخرى يقدم رسوم الطاعة والولاء وطقوس الركوع والسجود.
لا والله الفتنة أن تتعايش مع الفتنة وتتعودها، وأحاديث الفتن وإن كانت إخباراً فمغزاه أن نقوم لنغير ونتحاشى الوقوع في الفتن وكتاب ربنا واضح في هذا الشأن قال تعالى: ولْتَكُن مِنْكُم أمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخيرِ ويَامُرُونَ بالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ.
ولنختم الكلام مع الصحابي المتخصص في أحاديث الفتن مع هذا الحديث: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشَّر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله! “إنَّا كنَّا أهْلَ جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فجَاءَنا الله بِهَذا الخَيْر، فهَل بَعدَ هذا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قال نعم، قلت: فهل بَعْد ذالِكَ الشَّرِّ منْ خَيْر؟ قال: نَعَم وَفِيهِ دَخَنٌ، قلت وَمَا دَخنُهُ؟ قال: قومٌ يَسْتَنُّونَ بغيْر سُنَّتِي وَيَهْدُون بِغيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ منهِمْ وَتُنْكِرْ، قلتُ فهل بَعْدَ ذلِكَ الخَيْرِ منْ شَرٍّ؟ قال نعم، دُعَاةٌ على أبْوَابِ جَهَنَّمَ، منْ أجَابهُمْ إليْهَا قذفُوهُ فِيهَا، فقلتُ: يا رسول الله! صِفْهُمْ لنا! قال: هم مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُون بِألْسِنَتِنَا، قلتُ فمَا تَامُرُنِي أن أدْرَكَنِي ذلك؟ قال: تَلْزَمُ جَمَاعَة المُسْلِمينَ وَإمَامَهُم. قلتُ فإن لم يكُن لهُم جماعة ولا إمَام؟ قال: فاعتَزِل تِلْكَ الفرق كلَّها ولو أنْ تَعَضَّ بِأصْلِ شَجَرة حتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وأنت على ذلِكَ” 15 .
[2] نفس المصدر.\
[3] عبد السلام ياسين رحمه الله / سنة الله / ص33.\
[4] [الأنبياء / الآية 34.\
[5] أخرجه البخاري / كتاب الفتن / ح 2.\
[6] أخرجه مسلم / كتاب الفتن وأشراط الساعة / ح 3.\
[7] نفس المصدر.\
[8] المائدة / الآية 63.\
[9] التوبة / الآية 46.\
[10] أخرجه مسلم / كتاب الإيمان / باب 65.\
[11] سنة الله / عبد السلام ياسين رحمه الله / ص 48.\
[12] أخرجه مسلم / كتاب الفتن / باب 7 / ح 26.\
[13] رواه أحمد وصححه الحاكم والألباني في صحيح الترغيب والترهيب.\
[14] كتاب العدل / ص 541 / عبد السلام ياسين رحمه الله.\
[15] أخرجه البخاري / كتاب الفتن / ح 11.\