المحور الثاني: العمل الصالح في الأزمنة الفاضلة وأعمال السلف
تتجدد مواسم الطاعات وتتكرر النفحات الربانية مرة تلوَ الأخرى؛ فمن رمضان وعشره الأواخر.. إلى شوال وصوم سته…. إلى عشر ذي الحجة.
1. عشر ذي الحجة: موسم رباني تتجدد فيه فرص القرب
وهكذا يمنحنا الله فرصا جديدة للتوبة والرجوع إليه والتعرض لرحماته بالإكثار من الطاعات والأعمال الصالحات من خلال تلك المواسم العظيمة التي هي أشبه بمحطات تنقية وتطهير وتزويد.
وها هي عشر ذي الحجة قد أظلتنا بنفحاتها وبركاتها وخيراتها، تلك العشر التي أقسم الله بها في محكم تنزيله، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم فقال سبحانه: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [سورة الفجر]. وليال عشر هي عشر ذي الحجة. هذا هو الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين من السلف وغيرهم، وهو الصحيح عن ابن عباس.
أيام المسابقة والمسارعة في موسم التجارة الرابحة، أيام تبعث في نفوس المسلمين المحبة والشوق، فتهز مشاعرهم وتستجيش عواطفهم؛ فتسوقهم إلى رحاب الطاعة ومحراب العبادة.
ومن أسباب بركة هذه الأيام وامتيازها أنها اجتمعت فيها أصول العبادات والأعمال الصالحات. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السَّبَبَ فِي امْتِيَازِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِمَكَانِ اجْتِمَاعِ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ فِيهِ وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجُّ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ”. 1.
2. ترجيح العمل الصالح على الجهاد: “منزلة الزمان في ميزان الأعمال”
رغّب النبي صلى الله عليه وسلم في العمل الصالح في أيام العشر ذي الحجة، فقال: “مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى الله مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ”، يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله؟ قَالَ: “وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ”. 2.
حديث عظيم جليل، وهو نصّ في أنَّ العمل في عشر ذي الحجة أفضل من جميع الأعمال الفاضلة في غيره، ولا يُستثنى من ذلك سوى أفضل أنواع الجهاد -ومن المعلوم أن الجهاد ذروة سنام الإسلام-، وهو أن يخرج الرجل بنفسه وماله، ثم لا يرجع منهما بشيء، وهو نصّ في أن العمل المفضول يرتقي إلى العمل الفاضل لشرف الزمان، حتى يصير أفضل من غيره من الأعمال الفاضلة؛ لفضل زمانه.
قال القسطلاني رحمه الله: “وفي هذا الحديث أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره، ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره”. 3.
يرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى فَضْل العمل الصَّالح في العشر الأوائل من ذي الحِجَّة، ويُبيِّنُ أن أجر العمل الصالح فيها يُرَقِّي إلى الدرجات العُلا ويقرب إلى المولى، ويَتضاعَفُ ما لا يَتضاعَفُ في سائرِ الأيام. فمن صدق الله صدقه الله.
3. نماذج من اجتهاد السلف في تعظيم العشر الأوائل من ذي الحجة
كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يعظمون هذه الأيام أيما تعظيم، ويعمرونها بالأعمال الصالحة والأقوال الحسنة، ويقدرونها لتقدير النبي صلى الله عليه وسلم لها، ويغتنمون أنفاسها. قال أبو عثمان النَّهْدِيُّ -رحمه الله-: “كَانُوا يُعَظِّمُونَ ثَلاثَ عَشَرَاتٍ: الْعَشْرَ الأُوَلَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْعَشْرَ الأَخِيرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْعَشْرَ الأُوَلَ مِنَ الْمُحَرَّمِ”. 4.
وهذا التابعي سعيد بن جبير رضي الله عنه، كان إذا دخلت أيام العشر اجتهد اجتهادا شديدا حتى ما يكاد يقدر عليه. 5.
وعنه أيضا أنه قال: “لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر – تعجبه العبادة- ويقول: أيقظوا خدمكم يتسحرون لصوم يوم عرفة”. 6.
وكان أئمة التابعين من أمثال محمد بن سيرين ومجاهد وعيسى بن علي بن عبد الله بن عباس يصومون العشر كله، بل كان عطاء يتكلف صيامها 7، لشدة رغبة في اغتنام خير الأيام.
4. من التوفيق إلى القبول: خوف السلف من رد الأعمال
التوفيق للعمل الصالح نعمة عظمية، ولكن هذه النعمة تستوجب نعمة أخرى أعظم، ألا وهي نعمة القبول. لأن الاهتمام بقبول العمل يفضي إلى الاهتمام بإتقانه وإحسانه.
فمن نظر في القرآن وجد أن القبول قد حصر في التقوى، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [سورة المائدة]، فقد كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده، وهؤلاء الذين يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [سورة المؤمنون]. لأن العمل من كسبهم وسعيهم، ويقدرون عليه، ولكنهم لا يضمنون قبوله؛ فذلك موكول إلى الله تعالى لا إليهم، وهو متعلق بإحسان العمل ومن الإخلاص فيه، وصلاح القلب في أدائه، واجتناب أسباب الرد وعدم القبول.
جاء عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: “كُونُوا لِقَبُولِ الْعَمَلِ أَشَدَّ اهَتمامًا مِنْكُمْ بِالْعَمَلِ، أَلَمْ تَسْمَعُوا اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ 8.
ذكر الذهبي رحمه الله عن فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ رضي الله عنه، يَقُولُ: “لَأَنْ أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ تَقَبَّلَ مِنِّي مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعالَى يَقُولُ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [سورة المائدة]. 9
ودخل سائل على ابن عمر رضي الله عنه فقال لابنه: «أعطه دينارًا»، فأعطاه، فلما انصرف قال ابنه: «تقبل الله منك يا أبتاه»، فقال: «لو علمت أن الله تقبل مني سجدةً واحدةً أو صدقة درهم لم يكن غائب أحب إلي من الموت، تدري ممن يتقبل الله إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِين. 10. آية هزت المشاعر وأيقظت الأكابر. لا إله إلا الله.
وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى رجل: “أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين”. 11.
هذا الحال من السلف رحمهم الله ورضي عنهم إنما هو من باب الإشفاق والوجل خوفا من وجود خلل في العمل يمنع القبول، أو رؤية للعمل أو عجب في القلب به… وإلا فالرجاء والطمع في عفو الله وحسن ظنهم بالله تعالى كان من هديهم أيضا بل من أولى أولوياتهم، فلا بد من الطمع في القبول والخوف من الرد حتى لا ييأس العبد أو يغتر.
خاتمة
إن الله عز وجل لم يجعل تفاضل الأزمان عبثًا، بل لحكمة تربوية وتكليفية عظيمة، تدعو المؤمن إلى المسارعة في الخيرات، ومجاهدة النفس، وتجديد العهد مع الله تعالى.
وقد بيّن سبحانه في كتابه العزيز أن القرب الحقيقي من الله لا يكون بالمال أو الجاه، وإنما بالإيمان الصادق والعمل الصالح، كما قال: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [سورة سبأ]، وقال أيضًا: ومَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ العُلا [سورة طه].
وليكن شعار المؤمن الصادق في هذه الأيام كما قال الإمام الشافعي رحمه الله:
إِذا هَبَّت رِياحُكَ فَاغتَنِمها °°° فَعُقبى كُلُّ خافِقَةٍ سُكونُ
وَلا تَغفَل عَنِ الإِحسانِ فيها °°° فَما تَدري السُكون مَتى يَكونُ
فمن عرف قيمة الزمان، وفهم سنن التزكية، واغتنم الفرص الربانية، صار على مدارج السالكين ونال الحُظْوة من رب العالمين.
[2] أخرجه البخاري وأبو داود، واللفظ، عن ابن عباس رضي الله عنهما
[3] إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 2 /217
[4] التبصرة لابن الجوزي 2/ 124
[5] سنن الدارمي 2/ 41، وشعب الإيمان 3 / 354
[6] سير أعلام النبلاء 4 / 326
[7] مصنف ابن أبى شيبة 2/300
[8] أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء ج1/ص75 وج10/ص388، وابن عساكر في تاريخ دمشق ج42/ص511
[9] سير أعلام النبلاء (3/116)
[10] الدر المنثور في التفسير بالمأثور للإمام الحافظ جلال الدين السيوطي (3/ 57)
[11] جامع العلوم والحكم لابن رجب، ص: 151