العمل الصالح بين حقيقة الإيمان وفضيلة الزمان “نحو تربية إحسانية جامعة” -1-

Cover Image for العمل الصالح بين حقيقة الإيمان وفضيلة الزمان “نحو تربية إحسانية جامعة” -1-
نشر بتاريخ

مقدمة

لقد اختص الله تعالى الإنسان بحمل الأمانة والاستخلاف في الأرض، وربط صلاح حاله في الدنيا وسعادته في الآخرة بإيمانه وعمله الصالح. فالقرآن الكريم من أوله إلى آخره يدعو الإنسان إلى بناء علاقة متينة بربه، قوامها الإيمان العميق والسلوك الصالح، علاقة تُثمر تزكية للنفس وتعميرا للأرض وإصلاحا للمجتمع.

في هذا السياق، تشكل التربية الإيمانية أساس هذه العلاقة، إذ لا يكتمل الإيمان إلا بالعمل، ولا يُقبل العمل إلا بالإخلاص والموافقة، في وحدة متكاملة بين القول والفعل، بين ما وقر في القلب وصدّقه العمل.

وتتأكد هذه المعاني التربوية السامية في الأزمنة الفاضلة التي اختصها الله بمزيد من الفضل، كأيام عشر ذي الحجة، التي تمثل محطة إيمانية متجددة لتقوية الصلة بالله وتكثيف الأعمال الصالحة التي ترتقي بالعبد في مدارج الإحسان.

فما حقيقة العلاقة بين الإيمان والعمل الصالح في التصور الإسلامي؟ وكيف تُسهم مواسم العبادة، خصوصاً عشر ذي الحجة، في ترسيخ هذه العلاقة وتنمية القيم التربوية في الفرد والمجتمع؟

المحور الأول: العمل الصالح في التصور الإيماني

1. العمل الصالح: المفهوم والدلالة الشرعية

العمل في اللغة هو كل فعل يُفعَل بقصد ويُلحَق به إمَّا صفة الصلاح أو السوء، منها قوله تعالىٰ: خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً [سورة التوبة]، وقوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [سورة آل عمران]. وهو ما يُعبَّر عنه بـ “النيّة”، كما جاء في حديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى…” 1.

والعمل الصالح هو: الترجمة العملية والتطبيق الأكمل للعلاقات التي يُحدّدها الدين بين الإنسان والخالق والكون والحياة والإنسان والآخرة.

وللعمل الصالح مكانة عظيمة وأهمية كبيرة في الدين الإسلامي؛ فقد أمر الله تعالى به في كتابه رسله عليهم الصلاة والتسليم، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [سورة المؤمنون].

كما تكمن هذه الأهمية العظيمة في ارتباطه بالإيمان، إذ إنه ثمرة الإيمان، حيث قرن الله تعالى بينهما في كثير من الآيات فلا يكاد يخلو ذكرٌ للإيمان في القرآن إلا واقترن معه ذكر العمل الصالح بعبارات مختلفة؛ التي جاءت بالترغيب به والحث عليه وبيان ثواب فاعله وربطه بالنجاة في الدنيا والآخرة والفوز بالجنة، وأن تركه خسارة وهلاك، قال الله تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].

ومن الأمور التي تبين أيضاً أهمية العمل الصالح ومكانته في الإسلام بوضوح أنه مما يُتوسَّلُ به إلى الله ويُستشفّع به عنده ويجاب عنده الدعاء، كما في قصة أصحاب الغار؛ فعن عبدِ الله بنِ عمرَ بن الخطابِ رضيَ الله عنهما، قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: “انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمُ الْمبِيتُ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فانْحَدَرَتْ صَخْرةٌ مِنَ الْجبلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمْ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا الله تعالى بصالح أَعْمَالكُمْ …” 2.

2. الإيمان والعمل الصالح: “علاقة تأسيس لا تزيين”

في تصفحنا لكتاب ربنا نجد في آيات كثيرة غالبا ما يتعقب الإيمان العمل الصالح الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

لكون الإيمان الباعث علىٰ العمل وسبب هداية العامل لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ.. [سورة يونس] فهو ثمرة الإيمان، وعند أهل السنة يدخل في مسمى الإيمان؛ كما ذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وجمهور أهل السنة والأوزاعي وسائر أهل الحديث وأهل المدينة وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين، وهو قول الصحابة والتابعين والأئمة والعلماء إلى “الإيمانُ قوْلٌ باللسان، وعمَلٌ بالأرْكان، وعَقْدٌ بالجَنَان، يزيدُ بالطاعة، وينْقُصُ بالعصيان” 3.

موطن الإيمان القلب، وهو منطلق الإيمان. فإن خبت بواعث الإيمان في القلب بطل العمل ونطق اللسان نفاقا. ومتى قوي الإيمان في القلب بتجديده اشتدت بواعث العمل الصالح، وكذلك الإيمان يزيد بزيادة الأعمال، وينقص بنقصها كما قال الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه إحياء علوم الدين: “العمل يؤثر في نماء الإيمان وزيادته كما يؤثر سقي الماء في نماء الأشجار” 4.

حديث شعب الإيمان جامع لكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يضع قدمي المسلم على بداية الطريق الصحيح نحو سلوك سليم إلى الله عز وجل ومرضاته من أجل حياة إيمانية سعيدة دنيا وأخرى. حديث يوضح المعالم، ويبين المحطات الرئيسة، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: “الإيمانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أو بِضْعٌ وسِتُّونَ شُعْبَةً: فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لا إله إلا الله، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ”.متفق عليه.

 يقول الأستاذ عبد السلام ياسين في المنهاج النبوي: “الحديث النبوي عن شعب الإيمان يعطي وسيلة التربية القلبية لا إله إلا الله، ويصف ثمرة الإيمان في خلق الحياء، ويتنزل إلى تلمس دلائل الإيمان في أسهل الأعمال وأبسطها كإماطة الأذى عن الطريق. هذه الثلاثة نماذج للسلوك الرباني النوراني: لا إله إلا الله ونورانيتها -وللتهذيب الوجداني: الحياء والخير الذي يأتي به- وللمشاركة الفعلية في الحياة العامة الجماعية: إماطة الأذى عن طريق المسلمين” 5

3. شروط قبول العمل: الإخلاص والموافقة والإحسان

كان العمل في حضن النبوة أمرا جامعا يشمل الدنيا والآخرة، الروح والجسد، القلب والجوارح، الفرد والجماعة.

والمقصود بالعمل الصالح كما سبق ذكره؛ كل عمل يحبه الله، وكل عمل يرضاه الله، قال الله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [سورة فاطر]. ولا بد لهذا العمل أن يكون خالصا لوجه الله تعالى، موافقا للسنة النبوية الشريفة حتى يصلح للقبول فيرفعه الله إليه حفاوة به وإكراما له. ومن ثم يكرم صاحبه ويمنحه العزة والاستعلاء فينفع المجتمع والأمة، فيستحق بذلك الاستخلاف في الأرض.

قال الفضيل بن عياض في تفسير العمل الصالح الحسن: “أخلصُه وأصوبُه”، قالوا يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: “إنَّ العملَ إذا كان خالصاً، ولم يكن صواباً، لم يقبل، وإذا كان صواباً، ولم يكن خالصاً، لم يقبل؛ حتّى يكونَ خالصاً صواباً، ثم قال: والخالصُ إذا كان لله عز وجل، والصَّوابُ إذا كان على السُّنَّة” 6.

قال حافظٌ الحكميُّ -رحمَهُ اللهُ- عن شَرْطِ قَبُولِ العمَلِ، والتّمسُّكِ بالكتابِ والسُّنّة:

شَرْطُ قَبُولِ السَّعْي أنْ يَجْتَمِعَا … فِيهِ إِصَابَةٌ وإخْلَاصٌ مَعَا!

للهِ رَبِّ العَرْشِ لَا سِوَاهُ … مُوَافِقَ الشَّرْعِ الَّذِي ارْتَضَاهُ!

وَكُلُّ مَا خَالَفَ لِلْوَحْيَيْنَ … فَإنَّهُ رَدٌّ بِغَيْرِ مَيْنِ! 7

فمن معاني الإحسان الثلاثة التي ورد بها القرآن ووردت بها السنة:

1. الإحسان بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

2. الإحسان إلى الناس، وهو البر، كالوالدين والأقربين واليتامى والمساكين والمسلمين وسائر الخلق أجمعين، وهو قِوام المجتمع الأخوي.

3. إحسان العمل وإتقانه وإصلاحه، سواء العمل العبادي أو العادي أو المعاملاتي.

وإن مما يحبه الله بل أحب الأعمال إليه سبحانه ما أثبتَه العبد وداوم عليه، قال صلى الله عليه وسلم: “أحب الأعمال إلى الله الذي يدوم عليه صاحبه”. 8 وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ” 9.

4. أثر العمل الصالح في تزكية النفس وإصلاح المجتمع والتمكين في الأرض

وهذه هي مواصفات المؤمن الصالح في نفسه وخلقه وتعامله مع المجتمع؛ علاقته بربه تكون إحسانية إن حافظ على ذكره لايفتر، عن مراقبته وخشيته ورجائه ودعائه ومناجاته. بهذا الإحسان في عبادة ربه يطيب قلبه وتجمل أخلاقه وتصلح نواياه وأفعاله فيكون للخلق رحمة، يعم نفعه العالم الأقرب فالأقرب. ونفعه للمجتمع وللناس كافة لا يتوقف على حسن النية وجمال القصد والإسراع إلى الفعل فقط، بل يتوقف أيضا، وبالمكانة المؤكدة، على خبرته ومهارته وقدرته على إتقان ما هو موكول إليه من أعمال.

كما يُعَدُّ العمل الصالح الشرط الثاني من الشروط التي يجب أن تتوافر في الأُمّة الوارثة بعد شرط الإيمان لقوله تعالىٰ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [سورة النور]. وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ [سورة العنكبوت]، والصالحون هم الذين يرثون الأرض لقوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [سورة الأنبياء].
والتي ستُحيىٰ بهم كافّة مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى العسكرية حياة طيّبة، لقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [سورة النحل].


[1] متفق عليه
[2] متفق عليه
[3] شرح لُمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد لابن قدامة المقدسي رحمه الله
[4] إحياء علوم الدين ( 1/120 )
[5] كتاب المنهاج النبوي فقرة شعب الإيمان ص: 55
[6] جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/71)
[7] من منظومةِ سُلَّمِ الوصولِ إلى عِلْمِ الأصُول
[8] رواه البخاري رحمه الله.
[9] رواه الشيخان رحمهما الله