يعد كتاب “محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى” للأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله كتاب تشخيص لواقع الإنسان المعاصر، هذا الإنسان الذي دكه زيف الحضارة الغربية، حضارة العقلانية المتألهة والحداثة المتجبرة، كما يعد أيضا كتاب منهج للتغيير، تغيير الإنسان الفرد من عبودية المادة إلى عبودية خالق المادة، وتغيير الأمة الإسلامية بإعادتها إلى مسارها الحقيقي مسار المنهاج النبوي، لكن هذا التغيير رهين بتحرير العقل المسلم بوصفه أحد أهم أدوات فهم الوحي والواقع.
لقد عاش العقل المسلم صدامات وتحولات عبر تاريخه الطويل (أكثر من 14 قرنا) مع الثقافات المغايرة على فكره، جعلته يتخبط بين السيادة والسبق تارة، وبين الجمود والتبعية تارة أخرى، والأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى ركز على صدمتين اثنتين: الصدمة الأولى “حين برز المسلمون ووطئوا أرض الفرس، ومستعمرات بيزنطة، وفَتحت لهم كلمة الحق مُحَررة العقل. والصدمة في أوجها الثاني بدأت منذ قرنين من الزمان بغزوة تَفَوق فيها العقل الآخر التفوق الذي مازلنا نتحدث عن عواقبه وعقابيله” 1، لكن الإمام المجدد أشار إلى وجود فارق كبير بين الصدمتين، “وهو أن المسلمين في لقائهم مع فلسفة اليونان وأديان المشرق، وعلوم الهند، وكسروية الفرس، وقيصرية الروم، كانوا هم الأقوياء” 2، لذلك كانت النتائج لصالح المسلمين في الصدمة الأولى.
من هنا نتساءل، ما الملامح المميزة للعقل المسلم والتي أهلته للسيادة والريادة حسب تصور الإمام عبد السلام ياسين؟ وهل يمكن عد هذه الملامح شروطا ضرورية لتحرر العقل المسلم المعاصر من قيد التبعية والجمود؟
قبل الحديث عن هذه الملامح لا بد أولا من الوقوف على علاقة العقل بالوحي في منظور الإمام المجدد.
1- علاقة العقل بالوحي
إن الصدمة الثانية التي تحدث عنها الإمام نبهت المسلمين في أواخر القرن التاسع عشر إلى هول ما تعيشه بلدانهم من تخلف وانحطاط، مقابل ما عرفته الدول الغربية من تقدم تقني وعمراني، وتساءلوا عن أسباب تأخرهم وتقدم غيرهم، فجاءت آراؤهم مختلفة حول الدواعي والحلول، فمنهم من دعا إلى التنكر للدين على غرار ما سار عليه الغرب، وأنه لا سبيل لمواكبة الركب الحضاري إلا بالاتباع الكامل لكل ما جادت به فلسفة الأنوار، داعين إلى القطيعة مع النص الديني جملة، وإبداله بالعقل، مثلما فعلت أوروبا الحديثة، فدعوا إلى ضرورة تأسيس كل مناحي الحياة وفقاً للرؤية العلمانية، بينما رأى آخرون أن الحل في الاعتصام بالكتاب والسنة، لكنهم اختلفوا في كيفية التنزيل على واقع مغاير لواقع السلف. وهنا برز الإشكال القديم حول علاقة العقل بالنقل مرة أخرى، هل هي علاقة اتصال أم انفصال؟
لن نغوص في اختلاف الفريقين، وسنحصر قولنا في رؤية الإمام لإشكال العلاقة بين العقل والوحي، هل هي علاقة تلمذة أم سيادة؟ ونبدأ بقوله تعالى: “وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّـهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ” (الشورى 51)، ففي بداية الدعوة الإسلامية يقول الإمام تعليقا على هذه الآية: “تفتحت قلوب فسمعت السمع الصحيح، وعَقلت العقل المسلم، واستجابت وآمنت، وعملت صالحا فازداد إيمانها، واستمعت آياتِ الله تتنزل مُبَشِّرة منذرة فازداد إيمانها، ورسخ يقينها، وتوثقت صلتها بالوحي” 3.
نعم لم يكن الوحي تصورا نظريا فحسب، بل هو منهاج عمل واضح، يبدأ بالطهارة البدنية والمعنوية، وبالصلاة المفروضة والمسنونة، فيزداد بها المسلم قربا من خالقه، ويشع منه نور الإيمان، ليتجلى كل ذلك في عمله الصالح.
أما العقل المستقل عن الوحي، فهو عقل “قائم بذاته مستقل متأله، عقل المعاش المدبر لشؤون الحياة الدنيا، المحجوب عن حقائق الغيب ما دام لم يسمع من الوحي ولا يبصر نور الوحي” 4، وهو الذي تبناه بعض المغربين من بني جلدتنا، المسميْنَ زورا مثقفين، وقد أحسن الدكتور أحمد بوعود التعليق على بعضهم بقوله: “وكم من مثقف اليوم يتكلم عن الإسلام والتجديد فيه، وهو لا يتوضأ، ويخطط لدولة الديمقراطية والشورى، ويمر عليه يوم بأكمله، إن لم نقل أياما، دون أن يجد الوضوء إليه طريقا. بل لا يصلي والصلاة عماد الدين. وما أكثر هؤلاء الأدعياء في واقعنا، ويسمون أنفسهم مجتهدين” 5.
من هنا يتبين بأن العلاقة بين العقل والوحي في منظور الإمام ياسين هي علاقة تكامل من جهة وتلمذة من جهة ثانية، لأن العقل “إما يكون آلة للقلب يخدم تطلعات القلب إلى خالقه، وإما يكون آلة للهوى المتأله، أو للنفس والشهوات” 6، فما العقل إلا آلة تعمل وفق توجيهات صادرة من جهة عليا، وهي إما قلب مؤمن قوي مستنير بالوحي، فينتج عن ذلك أن هذا العقل سيَسعَد ويُسعِد، أو قلب تحكمه الشهوات ويسيطر عليه الهوى، فيتسبب ذلك في أن هذا العقل سيَضِل ويُضِل.
ويتكامل العقل مع الوحي وينسجمان معا حين “يَقْبَل العقل المومن المفتوح العينين ما جاء به الوحي وما صدر عن النظر العقلي بارتياح، يَكِل أَمْر ما أُبْهم على فكره المنطقي إلى ما تجلى لقلبه من حقيقة أن الله أعلم وأحكم” 7، فالوحي هو الأصل، والعقل أداة لفهمه والعمل به، وإذا تعذر على العقل فهم أو تفسير بعض الأمور، فيكلها إلى خالق العقل، العليم الحكيم سبحانه عز وجل، لعله استأثر بعلمها لحكمة نجهلها، أو حجبها عن خلقه إلى حين.
2-مميزات العقل المسلم في منظور الإمام ياسين
لقد تبين بأن العلاقة بين العقل والوحي هي علاقة تكامل وانسجام ما دام هذا العقل مستنيرا بنور الوحي، متتلمذا بين يديه، لكن ما هي مميزات العقل المسلم عند الإمام والتي بها استطاع أن يتفوق على عقول الثقافات الأخرى في صدمته الأولى؟
هما ميزتان اثنتان: عقل مؤمن وعقل معاشي، لكنني وجدت بأن العقل المؤمن عند الإمام يحتاج إلى أن يتنور بعلم التزكية، وهذا ما سيتم بيانه من خلال العناصر التالية:
1- عقل مؤمن
الإيمان هو مطلق التصديق بكل ما جاء به الوحي، والوحي يشمل القرآن الكريم والسنة النبوية، أما العقل فهو: “جوهر روحاني خلقه الله تعالى متعلقا ببدن الإنسان، كما قيل إن العقل: نور في القلب يعرف الحق والباطل” 8، وبذلك يكون العقل المؤمن هو العقل الذي يتلقى حقائق الوحي بواسطة القلب.
وقد كان الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى قريبا من هذا التعريف، حيث اعتبر أن “العقل في القرآن هو فعل حاسة باطنة في الإنسان تسمى القلب” 9، فأحالنا مباشرة إلى كتاب الله عز وجل حيث ذكرت مادة “عَقَل” خمسين مرة، وليس منها لفظة تدل على الآلة المشتركة، أي العقل الذي يتوفر عليه كل البشر والذي يقابل الغريزة، هكذا يكون الإمام قد اختار التعريف القرآني للعقل.
وهذا هو منهج الإمام في الاجتهاد، فنجده دائما يعود إلى الوحي -كتابا وسنة- في تأصيله للمفاهيم، داحضا كل المناهج الغربية، وقد أفصح عن ذلك بقوله: “إن كان غيرنا من رهائن الفكر المغرب المفلسف المعقلن يستعيرون أدواتهم الفكرية وتركيباتهم المفهومية من مرجعيتهم المادية الكافرة بالله ورسله، فنحن نستمع إلى مبلغ الوحي النبي الرسول صلى الله عليه وسلم” 10. وهذه نقطة قوة تحسب للإمام رحمه الله، إذ يرى في القرآن الكريم ما به نحقق استقلاليتنا ويغنينا عن التبعية للغرب.
لقد عاد الإمام إلى القرآن الكريم ليميز بين عقلين: عقل مؤمن، وهو فعل حاسة باطنة في الإنسان تدعى القلب، أي عقل يتلقى الحقائق بواسطة القلب، وعقل مشترك معاشي وخاصة العقل العلومي والفيلسوف المحجوب عن حقائق الغيب، لأنه لا يسمع من الوحي، هذا العقل المعرِض عن الوحي هو الذي ذمه القرآن الكريم في أكثر من موضع، يقول الله تعالى: “وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَـٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ” (الأعراف 179).
لكن، لماذا هذا التمييز بين العقلين؟
إن الغرض من التعريف الذي اختاره الإمام المجدد هو للتمييز بين عقل مؤمن وعقل مشترك بين جميع البشر، وهو في نظره تمييز جوهري، فالعقل البشري من حيث التركيب واحد، لكن من حيث الخصائص هناك فروق.
إن العقل المؤمن الذي تحدث عنه القرآن هو العقل الذي يتفكر في خلق الله، ويستدل بها عن وجود خالق لهذا الكون، وبعد تدبره في قضيتي الخلق والخالق، يستنتج قضية مصيره الأخروي بعد الموت.
أما العقل الفلسفي الذي استمر في تخميناته فأثبت وجود الخالق أو نفاه، وأثبت له سبحانه من عنده افتراء ما شاء من الصفات فقد عاش يشيد نظريات ويقوض أخرى ولم يستقر على حال.
إن العــقل الأول ولد في المســـجد، وتربى في حضن النــبوة، فحـــافظ على سلامة فطرته، أمـــا الثـــاني فنشأ في ساحة الأغورا اليونانية، حيث كانت تكرس الطبقية بين الناس، فهو عقل مادي معاشي، أنجب عقلا داروينيا اعتبر أصل الإنسان قردا، تطور بفعل الظروف ليصبح إنسانا، وشتان بين العقلين.
كانت غاية الإمام دحض العقل الغربي المادي الذي سيطر واستعمر واخترع قانون حقوق الإنسان ليحمي مصالحه بالغرب، ويخفي إلحاده بين المسلمين، خصوصا بعد أن تم استنباته بالأراضي المسلمة، ووجد له آذانا صاغية وقلوبا متلهفة بين المسلمين أنفسهم الذين تبنوه بكليته، وورثوا مناهجه، وطوروا مباحثه، لتلائم خصوصيات ثقافة بلدانهم، بل ومن هؤلاء المغربين من تجرأ واتهم الدين الإسلامي واعتبره مخالفا للعقل، وسببا في تخلف المسلمين، وهو ما عبر عنه الإمام بقوله: “مقصودنا منذ فتحنا هذه الصفحات أن نتتبع المقالة اللايكية لندحض الزعم الحداثوي ونتقدم بأن الحكم الشوري والعقل المتدين المتعلم بلا حرج من كتاب الله وكتاب العالَم، كفيلان وحدهما بضمان الحياة والقوة والتنمية والوحدة للمسلمين” 11.
فلا خلاص للأمة إلا بعقل مؤمن متدين متعلم، قادر على فهم الوحي وتنزيله، الذي به استطاع المسلمون التفوق في شتى العلوم الكونية بعد الصدمة الأولى، وهو ما أشار إليه الإمام المجدد من خلال تساؤله: “المسلمون الذين صاغوا المنهجية العلومية هل تخلوا عن إسلامهم وأقالوا العقل المومن من وظائفه، أم هم برعوا في العلوم لثباتهم في العلم؟” 12.
لكن، كيف يثبت العقل المؤن على إيمانه؟ أوليس الإيمان يزيد وينقص؟
2-عقل مُتَنور بعلم التزكية
تعد التزكية من أهم معالم نظرية المنهاج النبوي للإمام عبد السلام ياسين، نظرا لارتباطها الوثيق بالتغييرين الفردي والمجتمعي، وحاجة المسلمين اليوم إليها أكثر مما مضى، وذلك بالنظر إلى أحوالهم وإلى كثرة الفتن والمغريات وأصناف الشهوات التي تهدد دينهم ودنياهم، فلا فلاح إلا بها وقد صدق الحق سبحانه وتعالى بقوله: “قَدْ أَفلَحَ مَن زكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا” (الشمس 9).
لذلك أكد الإمام المجدد رحمه الله في بعض مؤلفاته على ضرورة “أن يتنور عقل المؤمنات والمؤمنين بعلم تزكية النفوس، … تزكية نفسي وتطهير قلبي الذي به ألقى الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم” 13، نعم، أن يتنور عقل المؤمن بالتربية الإيمانية الإحسانية التي ترفع من مقامه وتسمو بحاله، لتلقي الأوامر والنواهي الإلهية بنية التنفيذ. يقول الإمام: “هذا العقل الذي وفد على عتبة الفطرة يسأل عن الحق لا يتركه الرب الخالق الرؤوف الرحيم في قاحلة جفاف، بل يذيقه حلاوة الإسلام… ويرتقي إلى معارج الإيمان، فمقامات الإحسان” 14. هكذا يزداد العقل المسلم نورا وقوة ومهابة.
فالعقل المتنور بعلم التزكية التي ترقى بصاحبها إلى أعلى مقامات الإحسان لا بد وأن يكون أشد قوة من عقل مسلم اكتفى بأدنى مرتبة من الدين.
لكنه في الآن ذاته حذر الإمام من التزكية المكروهة المنهي عنها التي هي “اغترار العامل بعمله والمصلي بصلاته، والملتحي بلحيته، يتغذى المزكون لأنفسهم بغرورهم زمانا سوداويا حتى يغشى أعينهم منظار يريهم الناس جميعا هلكى وهم الناجون، ضالين كلهم وهم المهتدون، كافرين كلهم وهم المؤمنون” 15، إنها تزكية الفرقة الناجية من دون عامة الناس.
كما انتقد الإمام من يعتبرون التزكية منفصلة عن العقل بقوله: “ويسأل قوم مردوا على النفاق: ما شأن كل هذا الكلام الطويل عن الوحي والعبادة وقيام الليل بالعقل وتحريره؟” 16، ومعنى مَرَدَ على الشيء تعوده واستمر عليه، لقوله تعالى: “وَمِنْ أَهْلِ المدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاق” (التوبة 101)، هذا الوصف القرآني الذي استعاره الإمام يليق بقوم ينكرون على العقل امتثاله لخالقه وتنوره بالتزكية والسمو به في مدارج السالكين.
إن التزكية عند الإمام هي تطهير النفس من الهوى، وتقويم السلوك، وسموّ الروح بالإيمان والعبادة والجهاد، في إطار جماعة مؤمنة متبعة لمنهاج النبوة، لذلك فإن العقل المتنور بالتزكية يعد عقلا قادرا على المساهمة في التغييرين الفردي والمجتمعي، لأن الله تعالى يقول: “إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ” (الرعد 11)، وهذه الآية تشير حسب الإمام المجدد “في عموم إطلاقها إلى أن المسلم التائب عندما يتغير موقفه من نفسه، ومن خالقه، ومن الكون، وعندما تتغير علاقاته تبعا لذلك الموقف، وأخلاقه وتصوره، يتغير ما به من رذيلة، وظلم اجتماعي، واستبداد سياسي، وعجز اقتصادي، وخمول فكري، وتبعية للجاهلية” 17.
3- عقل معاشي
يرى الإمام المجدد أن الوحي “احتضن الإنسان المسلم، وكيف آلة العقل المعاشي، وصبغه بصبغة الله، “ومن أحسن من الله صبغة، ونحن له عابدون” 18، لذلك لا يمكن للعقل أن يستقل عن الوحي، وإلا تاه وضل السبيل، بل عليه أن يجعله ميزانه الأعلى، كما أن الوحي لا يقصي “العقل المعاشي المدبر للشؤون الحياتية بل نصبه أميرا في مجالاته المشتركة بين البشر” 19، فالوحي لا يُقصي العقل الآلة المشتركة ولا يلغي دوره في تدبير الأمور الدنيوية ولا في تحقيق التنمية الشاملة، وإلا لما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام “أنتم أعلم بأمور دنياكم” في قضية تأبير النخل المعروفة.
نعم، لم يعتقل الوحي ُالعقلَ المدبر المبتكر اليقظ المتفاعل مع الأحداث، الذي يميز بين الخير والشر، ويعرف النافع من الضار، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان “يستشير أصحابه ويستطلع رأيهم، ويتوسط في خلافاتهم فيما يرجع للرأي والحرب والرحلة والمنزل والقسمة، مستهديا هو وهم بالوحي، واقفين عند نصه وروحه، مجتهدين في التطبيق حسب الاستطاعة والمقدار الموفي بالغرض، وحسب الزمان والمكان” 20.
أما إذا أغفل العقل المؤمن عن مهمته التدبيرية المعاشية فلن يكون إلا أعور حسب توصيف الإمام، وهو ما عبر عنه بقوله: “يحدث للعقل المومن بالله المصدق للوحي عور إذا أغمض عن المدارك المشتركة، وعجز عن التعلم من الكون، وترك آلته للإهمال والصدإِ. فيفوته ركب الحياة الدنيا، ويقعد مع القاعدين العاجزين. وذلك نقص في حقه، وقصور عن فهم رسالة الوحي الذي أنبأ بأن الله سخر لنا الكون وأمرنا أن نسير في الأرض ونستعمرها وندافع ونجاهد، وكل ذلك ممتنع إن لم نسخر بإرادتنا واجتهادنا وتعلمنا هذه الآلة العجيبة المسماة عقلا” 21، فالإمام المجدد يريد من العقل المسلم أن يكون عقلا يجمع بين الفهم والورع، وبين العلم والعمل، وبين الاجتهاد والاتباع.
خاتمة
يرفض الإمام عبد السلام ياسين أن يكون العقل سيدا على الوحي خاصة في بعض القضايا التي يعجز العقل عن تفسيرها، كما يرفض أن يُقصى العقل من الأمور التدبيرية المعاشية، وبالمقابل يرى بأن العقل القوي هو العقل الذي يوفق بين: العقل التدبيري المعاشي والعقل الذي هو نور في القلب أي عقل مؤمن متنور بعلم التزكية، فإقصاء العقل الأول يؤدي إلى التخلف والاستبداد كما جرى عند المسلمين، وإقصاء العقل الثاني يؤدي إلى اللائكية والإلحاد كما حدث عند النصارى.
[2] نفسه، ص85.
[3] ياسين، عبد السلام، محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى، ص14.
[4] نفسه، ص4
[5] بوعود، أحمد، قراءة في كتاب محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى، نشرت بموقع الجماعة https://aljamaa.com/ بتاريخ 7 غشت 2020،
[6] ياسين، عبد السلام، محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى، ص7.
[7] ياسين، عبد السلام، محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى، ص50
[8] الجرجاني، علي بن محمد السيد، معجم التعريفات، ص151.
[9] ياسين، عبد السلام، محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى، ص 7
[10] ياسين، عبد السلام، العدل: الإسلاميون والحكم، دار الآفاق، ط2، 1422هـ ـ 2001، ص44.
[11] ياسين، عبد السلام، محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى، ص85.
[12] نفسه، ص96.
[13] ياسين، عبد السلام، تنوير المومنات، 1/8.
[14] ياسين، عبد السلام، محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى، ص 45.
[15] نفسه، ص63.
[16] نفسه.
[17] ياسين، عبد السلام، إمامة الأمة، ص180.
[18] ياسين، عبد السلام، محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى، ص17.
[19] نفسه، ص25.
[20] نفسه، ص26.
[21] نفسه، ص8.