العقل النقدي وحضوره المبكر في فكر الإمام عبد السلام ياسين

Cover Image for العقل النقدي وحضوره المبكر في فكر الإمام عبد السلام ياسين
نشر بتاريخ

تمهيد

كثيرة هي الأبحاث والكتابات التي تناولت موضوع العقل النقدي خلال العقدين الأخيرين بالخصوص. وإذا كان المقال لا يتسع لذكرها، فإننا نكتفي بمقتطفات من تقرير 1 رسمي حديث جدا (2020)، قدمه فريق فرنسي حول التربية على العقل النقدي، وثق فيه معظم ما كُتِب قبله.

أكد التقرير على أن العقل النقدي أصبح في قلب السياسات التعليمية الحديثة. بل إن العقل النقدي  يعتبر سيد الأطباق اليوم على مائدة التعليم وموائد النقاشات العامة، فتعليم العقل النقدي يدعو له كل من المدرسين، والآباء وأولياء الأمور، ووزارات التعليم والمنظمات الدولية. والدافع التربوي وراء تغيير أنماط التفكير ينبع من افتراض ضمني فحواه أن أنماط التفكير النقدي تجعل الفرد، كما يقول ستيرنبرغ، شخصًا أكثر حكمة وأقل غباء. لذا يعتبر العقل النقدي اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى من أجل مواجهة التحديات الشخصية والمجتمعية، ومن أجل حل المشكلات في شتى مجالات الحياة، وكذا من أجل أن يصبح هناك صناع قرار أكثر كفاءة.

وبرجوعنا إلى كتابات الأستاذ عبد السلام ياسين، نجده قد انتبه مبكرًا إلى أهمية العقل النقدي، سواء في “مذكرات في التربية” (1963)، أو في كتاب “الإسلام غدا” (1972)، وأيضا في كتاباته الحديثة كما سنعرض لبعض ما ورد فيها، وذلك في مجالي التربية والتعليم، ثم التنظيم الدعوي.

في التربية والتعليم

يقر علماء التربية بأن التقليد هو أحد العوامل الأساسية في اكتساب وتطوير المهارات الحياتية الأساسية لدى الطفل الصغير، ويعتبرونه تبعا لذلك صيغة من صيغ التعلم. يتم هذا منذ المراحل الأولى للطفولة من خلال المحاكاة والنمذجة، يقلد فيها الأطفال بشكل غريزي ما يحسونه ويلاحظونه عند الكبار والمحيط، ما يجعل التقليد بهذا المعنى وسيلة قوية للتأثير الاجتماعي في تنميتهم. لذا يحث المربون على تقديم المثال الحسن للأطفال، وخصوصا في المدرسة حيث يقلدون معلميهم في الحركات، وفي صفة الكلام وفي الأفعال، وأيضا في التربية العقلية والخلقية وتربية الذوق.

  وفي هذا الإطار نجد الأستاذ عبد السلام ياسين في مذكراته التربوية، ونظرا لما للتقليد من أهمية في بناء معارف التلاميذ وأخلاقهم، نجده يُذكّر “على ألا يكون في المدرسة إلا كل مثال حسن، وعلى اختيار الكتب وضبط محتوياتها” 2.  لكنه يوصي، وهذا هو الأهم في موضوعنا، بـأن يكون “الاعتماد على التقليد اعتمادا حذرا، لأن التقليد ينفي التفكير، وينفي العقل الناقد” 3. ويضيف معللا: “إن كانت الصفات الأخلاقية ثابتة لا تقبل الجدل، فإن العقل البشري لا يستفيد شيئا من التقليد الأعمى ولا يمكنه أن يتقدم” 4.

ومن هنا يأتي تركيزه، بصفته خبيرا تربويا دوليا، على التدرج خطوة خطوة من أجل تعليم العقل النقدي. وأول مَهمَّة تعليمية هي أن يَشعر الطفل بأن “العالم يسير على نظام لا يخضع لسلطان رغباته، نُعلمه بكيفية عملية أن هذا النظام بناه العقل حسب قواعد منطقية تحتم حدوث النتائج كلما كملت الأسباب” 5.

وتحريرا للطفل من سلطان رغباته في إصدار الأحكام على الأشياء المحيطة به، ورفعا لدرجة حذره من كل ما يمكن أن يُلبِّس عليه الأمر، فإن “عمل المدرسة (هو) أن تربي في عقل الطفل قدرة على الحكم السليم، الحكمِ الذي يُصدره الطفلُ دون أن يتأثر بالعاطفة، ودون أن يخدعه عن الحقيقة خادع” 6. وبهذا تعمل المدرسة على إعداد شخصية الطفل المستقلة في حكمها على الواقع، والمتحررة من عاهة التبعية، حينما “يتعلم ألا يُصدّق كل ما يُخبَر به دون أن يتأكد من صحته ويعرضه على معيار عقله” 7. ويقرر صاحب مذكرات في التربية، أن تعليم الطفل دقةَ الملاحظة بصفة عامة وتعويده إياها، يعتبر مدخلا رئيسا لإصدار الحكم الصادق، ومعيارا لتقييم نجاح العملية التعليمية التعلّمية، “فلا نعتبر درسا ناجحا إلا الدرس الذي أوجدنا فيه مادة لملاحظة الطفل وتعليله وحكمه”. من أجل هذا يضيف، “ينبغي أن تكون الأفكار التي نقدمها إليه مادة لعقله الناقد، يتناولها ويُقلبها باحثا حتى يقتنع هو بصحتها” 8

واستمرارا منه لهذا النهج من التفكير نجده في كتابه “الإسلام غدا”، وفي سياق حديثه عن التجربة التعليمية الصينية آنذاك، نجده يضع اللبنات الأساسية للفلسفة التعليمية لمستقبل الإسلام، حيث أكد أنه “إذا كان التعليم يرمي لتغيير العقلية وإيقاظ العقل العلمي الناقد ليعوض العقل الخرافي، فإن المذهب التعليمي المغيِّر لا تُبْدِعه إلا العاطفة الصادقة الراغبة في التغيير” 9. ومن المعلوم أن عاطفة المسلمين تنهل من عمقها الإيماني. من أجل هذا أكد على المطلب الرئيس قائلا: “وطِلْبتنا، أمةَ الإسلام، أن نؤسس تعليما يعطينا العقلانية الإيمانية، أي طاقة العقل ودرايته الخادمتين للغاية الإيمانية الإحسانية، ويساهم في تغيير أنفسنا تغييرا كيفيا” 10.

وفيما يتعلق برسم الوسيلة لتحقيق الهدف التعليمي المطلوب لأمة الإسلام، فإنه شخّص في البداية موطن النقص الذي طرأ على العقل المسلم بعد أن سجل له التاريخ قيادة مسيرة العلوم جنبا إلى جنب مع هداية الوحي من دون تعارض لمدة أربعة قرون. يقول الخبير التربوي: “وليس شيء ينقصنا مثلما ينقصنا العقل النقدي العلمي. فلذلك نحتاج لصياغة بيداغوجيتنا في نطاق حضارة إيمانية غيبية بحيث لا يتعارض عندنا داعي الإيمان بالغيب وداعي العقلانية والنقد العلمي والسيطرة على الطبيعة وموارد الرزق” 11. وهو بهذا يقف موقف المعارض لمن أغمضوا أعينهم وتنكروا لزمن العطاء والإبداع والاكتشافات لعلماء الإسلام في العلوم والرياضيات في عصور الازدهار، رغم نقص الحياة الإسلامية نتيجة البتر المتعلق بالاستيلاء على الحكم عضًّا. أولائك، زعموا أن العقل المؤمن بالغيب الخاضع لأحكامه لا يقدر على ابتكار لأنه عاجز عن الموقف أمام الأشياء والأحداث موقف الناقد المستخبر! وللمزيد من توضيح تمسُّك المسلمين بالقدرات والمعايير العقلية واستعمالها في البحث والتحصيل العلمي يقول الخبير: “ما أحجم المسلمون الأُول عن الاستدلال والاجتهاد. ولا عطلوا وظيفة من وظائف العقل الواصف المختبر المجرب، بل استعملوه لترسيخ إيمانهم بما ثبت لديهم بشاهد الوحي، يأتي شاهد العقل العلومي ليزكي الشهادة “ 12.

مدار التغيير المنشود إذن، هو “تعليم يغير عقلنا لنستطيع صنع حضارة على قدر الإنسان المؤمن بربه وبمصيره إليه” 13. وهذا يتطلب “بيداغوجية مغيِّرة”، كما سماها الخبير في علوم التربية، تُمْسِك بالإنسان المسلم من عاطفته الإيمانية لتستدعي استجابة العقل لِحافز التغيير، كما أمسكت بالإنسان الصيني من عاطفته السياسية والفلسفية واستدعت استجابة العقل لحافز التغيير، فغيَّر.

في التنظيم الدعوي

من المعلوم أن الدعوة الإسلامية توفر للناس ما يحفزهم على الانتساب إليها، وأنها تنظم شروط العضوية ووظائف الأعضاء ومسؤولياتهم وجهادهم. والجهاد هنا هو جمع لكل الجهود الفردية في نشاط جماعي، وجمع لكل الطاقات في اتجاه واحد (…) ويبقى الجهاد الأكبر هو جهاد التربية والدعوة إلى الله 14. يقول الإمام عبد السلام ياسين “إن التنظيم أمر يحكمه العقل الناقد أساسا (…) وعلى الإسلام المنبعث أن يؤسس الجهاد على العقل الراسخ بالعلم النبوي المنهاجي، ويتعلم كيف وأين يخصص للعاطفة مجالها” 15. وسيرا على مبدأ الوضوح المفاهيمي في كل كتاباته فإن “المنهاج النبوي يجمع لنا بين نور القلب الذي يُصدّق بالحق ويخضع له، وبين فهم العقل المنضبط بالعِلمية، والتجربة، والدقة في الحكم. بهذا العقل فقط يمكن أن نبني، وبذلك القلب فقط يكون البناء إسلاميا على هدى من الله” 16.

 ويبقى تغييب العقل النقدي بأي شكل من الأشكال، في تصور الإمام عبد السلام ياسين، على رأس معيقات التنظيم الإسلامي حتى وإن توفر حافز الانتساب القوي، والقيادة المؤثرة، “فقد يكون الحافز قويا جدا مع وجود قيادة توحي بالثقة وتدعو للرجولة، لكن المنتسب يستحيل آلة جامدة أو آلة مسخرة إن كان في الدعوة غموض يشل العقل الناقد، أو يشترط الاتباع الأعمى” 17. وفي حديثه عن العقليات الجامدة الموروثة عن عصر الانحطاط، والتي لا تقوى على فهم الظواهر فهما دقيقا يرقى بها إلى تحديد ما يربط بعضها ببعض، فإنه يصف إدراكها (العقليات) بكونه يبقى “إدراكا ذريا لا تستطيع ربط الأسباب بمسبباتها، ولا تستطيع أن تحيل كل ظاهرة إلى تطور الأحداث العام فتُدخلها في نسبيتها. لا يفعل ذلك إلا العقل الناقد” 18.  

بينما الإسلام المنبعث، بتعبير الإمام عبد السلام ياسين، فهو “إسلام متعلم، لكنه يتعلم من ظواهر الكون نظرا لمصدرها الإلهي ويدخلها في نسبيتها ومخلوقيتها” 19، وإذا أخذ العلمَ عن الآخر فإنه يتعامل بانتقائية، يأخذ الحكمة ويتعلم المهارة دون أن ينقل معها الفلسفة العبثية وتصور العالم والإنسان.

وعلى ذكرنا للإنسان، فإن التصور الذي يحذر منه الإمام هو ذلك التصور الذي أفسد على الإنسان فطرته، فاتخذ عقله إلهه، ثم انقلب الهوى على العقل لعَجزه عن كبْح جماح جنود الهوى، فاتخذ الإنسانُ المخدوع إلهه هواه ليصبح العقل خادما للهوى. يسوق الإمام نموذجا للهرم التنظيمي للفطرة الإنسانية فيقول: “الترتيبُ الفطري للإنسان يرفع القلبَ إلى مقام الإمارة، ويجعل العقل وزيرا له، والحواسَّ خَدَمَةً. فإذا فسدت الفطرة تأمَّرَ العقل، وتمرد على القلب ومعانيه، وهذا فساد العقل الفلسفي العبثي. فإن فسدت الفطرةُ الفسادَ التاليَ للفساد الأول، المُلازمَ له، الناتِجَ عنه، تأمَّر الهوى بشهواته، وسخَّر العقل لأغراضه، وطرَد معانيَ القلب” 20. لن أكون وحيدا إذا قلت صَدَق الإمام في تعبيره الدقيق عن الوضعيات المحتملة لعقل الإنسان، ولكن تقولها أيضا خطابات “ما بعد الحداثة” الغربية في تكذيبها فيما يسمى بالحكايات الثقافية العليا وعلى رأسها حكاية “انعتاق العقل”، ولعل خير مثال يُضرب عن هذه الحكاية عدم تمكن عقل الفيلسوف الحداثي هابرماس من الانعتاق مِن هَوَاهُ الصهيوني بعد قرن من التفلسف العقلاني. وتقول صدق الإمامُ إنذاراتُ “ما بعد الحقيقة” حيث صارت الحقيقة محجوبة وعديمة الأهمية نظرا لما تتعرض له من خداع وتلاعب وتشكيك في وجود الواقع نفسه وليس فقط في معرفة الواقع، كما يقول صاحب كتاب Post-Truth. تقولها أيضا “ما بعد الأخلاق”، و”ما بعد الأسرة”، كما اصطلح عليها الفيلسوف طه عبد الرحمن، حين انسلخت الأسرة في المجتمع الغربي من القواعد الأخلاقية الحداثية، وتبنت “أخلاقا محدثة”، شذَّت فيها عن كل القواعد وخالفت القوانين الطبيعية، فما بالك بقوانين الفطرة التي فطر اللهُ الناسَ عليها.


[1] Définir et éduquer l’esprit critique, Pasquinelli, E.et al, 2020.
[2] عبد السلام ياسين، مذكرات في التربية، ص. 93.
[3] نفسه، ص. 93.
[4] نفسه، ص. 93.
[5] نفسه، ص.137.
[6] نفسه، ص.137.
[7] نفسه، ص. 138.
[8] نفسه، ص. 138.
[9] عبد السلام ياسين، الإسلام غدا، ص. 495.
[10] نفسه، ص. 292.
[11] نفسه، ص. 493.
[12] عبد السلام ياسين، محنة العقل المسلم، ص. 99.
[13] الإسلام غدا، ص. 492.
[14] عبد السلام ياسين، شعب الإيمان، ج. 1، ص. 19.
[15] الإسلام غدا، ص. 525.
[16] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص. 238.
[17] الإسلام غدا، ص. 523.
[18] نفسه، ص. 494.
[19] نفسه، ص. 494.
[20] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ص. 111.