لطالما تابعنا مواقف متباينة للعديد من التنظيمات والهيئات السياسية في قضايا وطنية قد تصل في كثير من الأحيان حد التناقض (على سبيل المثال الموقف من التطبيع). وهو نتيجة طبيعية عندما تتعامل هذه التنظيمات وزعاماتها بمنطق الغنيمة في مجال السياسة كما عبر عن ذلك عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر. على ذلك، نلاحظ في المغرب أنه حيثما كانت الغنيمة والربح السياسي يرتحل الموقف السياسي، حتى غدا سياسيونا وتنظيماتهم مثل الرُّحَلِ nomades في صحراء السياسة، إلا من ابتعد عن نهر ِريعِ المخزن ولم يغترف منه ولو غرفة بيده.
في خضم لعبة الريع والغنائم، تظل جماعة العدل والإحسان وفية لثلاثة مبادئ مؤطرة لمواقفها الثابتة على جميع المستويات التربوية والتنظيمية والسياسية، وهذه المبادئ هي الوضوح والمسؤولية والشمولية، والتي ضمنتها معظم وثائقها المرجعية وعلى رأسها كتاب المنهاج النبوي وأيضا الوثيقة السياسية. في هذا السياق سنستخلص معالم هذه المبادئ الثلاث وتجلياتها في بيان جماعة العدل والإحسان حول موقف مجلس الأمن من الحكم الذاتي في الصحراء المغربية.
1- مبدأ الوضوح
من رسالة “الإسلام أو الطوفان” إلى “مذكرة إلى من يُهِمه الأمر” والموقف من الصحراء واضح، مفاده أن استفراد القصر بهذه القضية واستبداده بالحكم، والمناخ السياسي الفاسد والمفسد، والملوث بكل أشكال الظلم الاجتماعي والاقتصادي الذي أنتجه، وحالة الإذلال والخضوع التي يمارسها ذات النظام الحاكم تجاه شعبه، كلها أمور شكلت عقبة كؤود أمام ضخ جرعات من منسوب الثقة في الطرف المطالب بالانفصال، وجعلته يتوجس خيفة من كل مقترَح يأتي من نظام مرد على الاستبداد والفساد وتطويع المعارضات بكل الوسائل الناعمة والعنيفة.
اليوم وبعد رحيل الإمام المجدد عبد السلام ياسين، تعود جماعة العدل والإحسان لتؤكد نفس الموقف بكل وضوح أنها من جهة مع الوحدة الترابية وضد أي تجزيء وأنها تثمن موقف مجلس الأمن المتبني لقرار الحكم الذاتي، لكنها من جهة أخرى وبكل وضوح تحذر أن يتم ذلك على حساب السيادة المغربية والمقايضة بالتطبيع. فلا يمكن أن نستعيد أرضا ونرهن سيادة الوطن للإدارة الأمريكية وربيبتها في تل أبيب.
2- مبدأ المسؤولية
بالرغم من أن جماعة العدل والإحسان تشكل معارضة من خارج المؤسسات الرسمية، نظرا لانعدام الشروط الموضوعية للمشاركة السياسية، فإنها من باب المسؤولية الدينية والوطنية والأخلاقية تترفع عن كل أشكال المناكفات السياسية مع النظام الحاكم الذي يحاصرها بكل ما أوتي من وسائل (تشميع بيوتها، إعفاء أطرها، اعتقال أفرادها، منع مخيماتها، منع جمعياتها…)، وتتعامل بتسامي وروح المسؤولية مع القضايا الوطنية وعلى رأسها قضية الصحراء. فالجماعة عندما أعلنت موقفها بوضوح فمعناه أنها على استعداد تام لتحمل تبعات هذا الموقف بكل أمانة ومسؤولية لأنها ترى فيه التزاما مع الشعب وتكليفا مع الله وعهدا مع الذات والأجيال القادمة.
3- مبدأ الشمولية
هنا سأبدأ بنص لأستاذ القانون الدستوري محمد منار باسك في حوار له مع إحدى القنوات معبرا عن مبدأ شمولية موقف جماعة العدل والإحسان تجاه قضية الصحراء المغربية حيث قال: “نحن لا نريد أن نتحدث حديث المتاجرة بقضية الصحراء والمزايدة بها لتحقيق المكاسب والريع كما يفعل البعض، فالدفاع عندنا عن الصحراء يكون بتكريس ديمقراطية حقيقية وتأسيس جهوية موسعة فعلية وإفساح المجال للكفاءات والقوى المحلية”. كلام واضح لا لَبْسَ فيه يبين أن قضية الصحراء المغربية ليست جزيرة في بحر، بل هي امتداد لواقع الحكم في المغرب. فبذرة الحكم الذاتي التي تحمل في نسيج خلاياها قيم الحرية والعدالة واستقلالية التدبير لا يمكن أن تنبت في أرض الاستبداد والفساد وحكم الفرد الواحد والمركزية المقنعة بالجهوية، والديكتاتورية المرتدية كسوة الديمقراطية!
ثم إن الحكم الذاتي لا يمكن أن يطبق في منطقة الصحراء وباقي الشعب في مناطق المغرب الأخرى ستظل طاوية يديها تتفرج وهي تحت قهر الحكم المركزي الذي جمع الثروة والسلطة وجعلها قابعة تحت آفات الفقر والبطالة وتدهور الخدمات الصحية والتعليمية، وتسليط مؤسسة القضاء لتكميم الأفواه.
إن الحكم الذاتي في الصحراء المغربية يستوجب حلا شموليا حتى يشعر المواطنون بالعدالة العامة، وهذا لن يتحقق كما أشار بيان الجماعة إلا بانتقال ديمقراطي حقيقي وانفراج سياسي يبدأ بإطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي، وبجهوية متقدمة حقيقية تشمل كل ربوع الوطن. لابد إذن من حكم عادل وتوزيع عادل للثروات، ولابد من مؤسسات تحكم فعلا وتتحمل مسؤولية تدبيرها وسياستها، بكلمات أخر لابد من تجاوز حكم الفرد الذي هو فوق المحاسبة، إلى حكم المؤسسات التي تخضع للمراقبة والمحاسبة. وهذا يتطلب تعديلات دستورية عميقة تشمل الحد من صلاحيات الرئيس، وتعطي صلاحيات حقيقية للبرلمان والحكومة والمجالس الجهوية.
خارج هذه النظرة الشمولية، حتى وإن تحقق الحكم الذاتي بعد المفاوضات المتوقعة سيصطدم بمناخ سياسي مناقض لطموحاته وتوجهاته، وقد ندخل نفس الدوامة التي شهدها المغرب بعد «الاستقلال» من حالة الصراع والاستقطاب والاحتواء والإخضاع والاغتيالات والانتفاضات… التي أهدر فيها النظام الحاكم وقتئذ زمنا سياسيا معتبرا تقدمت فيه دول انطلقت في نفس الوقت الذي انطلقنا فيه بل كانت أكثر دمارا منا وها هي اليوم في مصاف الدول المتقدمة، لأنها قطعت مع الفاشية والديكتاتورية وحكم الفرد.
إن بيان جماعة العدل والإحسان ومن زاوية مبدأ الشمولية المتمثلة في حكم عادل وانتقال ديمقراطي وجهوية موسعة حقيقية، يقول من هنا الطريق، وإلا سيعيد النظام الحاكم إنتاج نفس ما أنتجه بعد فترة «الاستقلال»، وسندخل مرحلة جديدة من مراحل هدر الزمن السياسي لشعب يتطلع بكل شوق وتوق إلى مستقبل يليق بموقع المغرب، وتاريخ المغرب، وثروات المغرب، وكفاءات نساء ورجال المغرب. هذا النداء فمتى ستكون الاستجابة؟