الشخصية الإحسانية وأهميتها الجهادية

Cover Image for الشخصية الإحسانية وأهميتها الجهادية
نشر بتاريخ

مقدمـة

تحدثنا في مقال سابق عن الشخصية الإحسانية الدعوية ومدى تأثيرها وجاذبيتها في المجتمع بما تملكه من نورانية. وتحدثنا في مقال ثان عن الشخصية الإحسانية القيادية ومدى مساهمتها في التأطير والتنظيم لمختلف مكونات المجتمع لتحسين أحواله. في هذا المقال نتحدث عن الشخصية الإحسانية الجهادية التي تمثل الكمال والقمة لما يمكن أن تصل إليه الشخصية الإحسانية.    
من الطبيعي جداّ، عندما تتصدى الشخصية الإحسانية للدعوة والقيادة داخل المجتمع كما أشرنا في المقالين السابقين، أن يعترض طريقها عوارض وتحديات إما من دعاة آخرين يختلفون معها في التصور والتوجه والمنطلق والأهداف، وإما من المسؤولين المحليين أو في أعلى سلطة الذين يخافون من الكلمة الحرة وانتشار الوعي بين الناس وتحسين أحوالهم. هي تحديات تتراوح بين التشويش والتهديد والضغط بوسائل مختلفة لإيقاف العمل الدعوي والحركي. ونظرا لكون الشخصية الإحسانية لا يمكن أن تستسلم أمام هذه التحديات والتنازل عن وظيفة هي من أشرف الوظائف في الإسلام، فإنها بما تملكه من قوة إيمانية نورانية، وما اكتسبته من ثقة وتعاطف ومحبة بين الناس تستطيع أن تسجل مواقف رجولية وجهادية تجعلها تنتصر في كل المعارك وتتجاوز كل التحديات.  
فباغي الخير للناس والساعي في قضاء حوائجهم حاله حال من أسس لهذا الطريق في بداية دعوته صلى الله عليه وسلم، فقد روى البيهقي عن جامع بن شداد قال: حدثني رجل يقال له طارق بن عبد الله قال: “إني لقائم بسوق المجاز إذ أقبل رجل عليه جبة له، وهو يقول: يا أيها الناس! قولوا لا إله إلا الله تفلحوا! ورجل يتبعه يرميه بالحجارة ويقول: يا أيها الناس! لا تصدقوه فإنه كذاب! فقلت من هذا؟ فقالوا: هذا رجل من بني هاشم يزعم أنه رسول الله. قال: قلت: من هذا الذي يفعل به هذا؟ قالوا: هذا عمه عبد العزى (أبو لهب)”.
فما هي الشخصية الإحسانية الجهادية؟ وما خصائصها؟

الشخصية الإحسانية الجهادية

الشخصية الإحسانية الجهادية شخصية جامعة لمعاني التربية والدعوة والحركة، تحيي كل يوم من أيامها حاضرة مع الله تعالى وجادة في السعي ابتغاء وجهه والدار الآخرة، وأيضا هي شخصية متوازنة مكتملة الصفات العلمية والعملية والأخلاقية. فكما تتوج خصلةُ الجهاد الخصال العشرِ تُتوج الشخصيةُ الإحسانية الجهادية ما دونها من الشخصيات. فعندما نظّر لها الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله في كتبه، لم يُنظّر لهذه الشخصية الإحسانية دعويا وقياديا وجهاديا فقط، بل جسّدها واقعا عمليا في حياته، فبلغ بتأثيره المجالي والدائري العالم ليؤسس لمدرسة منهاجية التي هي مدرسة العدل والإحسان، واستطاع بجاذبيته النورانية ومغانيطسيته الروحانية أن يجمع حوله جماعة من المؤمنين المجاهدين الذين يشكلون معادلة مهمة على الساحة. إلى جانب هذا التأثير والجاذبية تَميّز بامتلاكه لرؤية منهاجية واضحة وكاملة حول مشروع دعوته ومدرسته، هذه الرؤية المنهاجية جعلته يحتل المكانة القيادية التي رفعته إلى أن يكون مربيا ومنظرا ومجاهدا ومجدد عصره عن جدارة واستحقاق، هذا إلى جانب قدرته الفائقة على الجمع بين الإرادة الإيمانية والإرادة الجهادية، وعلى الحشد والجمع والاستنفار والتوجيه والنصح والتبليغ. فجزاه الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

خصائص الشخصية الجهادية

فبعدما اكتسبت الشخصية الإحسانية خصائص أهلتها للدعوة، وأخرى أهلتها للقيادة، اكتسبت بناء على هذه الخصائص كلها ما أهّلها لتكون شخصية إحسانية جهادية، وهي خصائص أخرى تناسب موقعها، منها:
1- الحكمة والرفق: تتصرف الشخصية الإحسانية الجهادية في معالجة الأمور بالحكمة والرفق، فهي تنبذ العنف مبدءا ولا تستعلي على أحد ولا تعادي أحدا، لأن محبة الخير للجميع شعارُها، وفي نفس الوقت هي شخصية قوية، تتشبث بحقوقها في حرية الحركة والعمل والتعبير عن آرائها في غير ضعف، تحاور وتناقش وتجادل بالحسنى وتقدّر المصلحة العامة ولكنها لا ترضى بالاستغفال والاستغباء. فإذا كان من يريد الظهور والشهرة يتفانى في ذلك ويصبر للاضطهاد، ونفس الحال يتفانى من يريد نشر فكر ليس من تربة الإسلام، فإن من يريد تغيير المنكر، وفطم الناس عن مألوفهم، وتربيتهم على تحمل المسؤولية والتعاون على البر والتقوى هو الأولى والأجدر بالصبر والتؤدة والثبات والبذل.
2- الرجولة والفتوة: فقد كان كل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام رجالا كما وصفهم بذلك الله تعالى في القرآن الكريم، ومن تلك الرجولة استقت الشخصية الإحسانية الجهادية رجولتها، وذلك عن طريق التأسي والاقتداء، وبصحبة من سار على منهاجهم من الأصحاب والأكابر. يقول الله تعالى: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون 1. ويحدد القرآن الكريم هذه الرجولة في مواصفات تحرص الشخصية الإحسانية كل الحرص لتحقيقها كاملة في حياتها. وهذه المواصفات الرجولية هي الطهارة، كما في قوله تعالى: فيها رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب المطّهرين 2. والصدق كما في قوله تعالى: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. 3. والذكر كما في قوله تعالى: رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار 4. ومع الرجولة نجد الفتوة التي تعبر عن التفاني ليس في خدمة الدعوة فقط بل في خدمة أيضا الصالح العام. فهي خدمة مرتبطة بالكفاءة العلمية والعملية التي لا تترك للآخر فرصة للمؤاخذة والإشارة بالبنان.
3- مواقف مسؤولة: تتخذ الشخصية الإحسانية الجهادية مما يعترض طريقها من عقبات مواقفَ مسئولة تعبر حقيقة عن الرجولة والنضج، سالكة في ذلك مبدأ المرونة الذي نستلهمه من انسياب الماء على الأرض، فهو ينساب في طريقه دون ضغوط، حتى إذا اعترضه عارض انساب يمينا أو شمالا دون مقاومة، فإن كان العارض حاجزا يمنعه من المرور للوصول إلى هدفه، استجمع قوته الهادئة حتى يعلو فوق العارض ثم يتابع الطريق نحو تحقيق أهدافه، مانحا ما يمرّ عليه من كائنات حية ما تستحق من الحياة. هكذا الشخصية الإحسانية الجهادية في سلميتها وليس استسلامها، وفي مرونتها وليس تصلبها في المواقف. فهي لا تُستدرج إلى ساحة لم تهيّئها بنفسها، ولكنها تقدر المواقف وتحدد المناسبَ منها. فهي شخصية لها كامل العناية بالزمان وأهميته، والمكان وقاعدته، والواقع وضغوطاته.
4- واجهة الدعاء: الشخصية الإحسانية الجهادية سلمية في توجهها وحركتها، لكنها ليست بالضعيفة فتُغلب، ولا بالسهلة فتُكسر، ولا بالهينة فتُهان، فهي الشخصية المؤمنة التي وعدها الله بالدفاع عنها، يقول الله تعالى: إن الله يدافع عن الذين آمنوا 5. وهي الولية لله التي وعدها بمحاربة من عاداها وآذاها، يقول الله تعالى في الحديث القدسي على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: “من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب” 6. فهي بهذه الوعود الإلهية تأوي إلى ركن شديد. كيف لا تكون شخصية قوية وهي المتعلقة بأسماء الجلال، والمتحققة لأسماء الجمال، والمتخلقة بأسماء الكمال. لها مع الله تعالى الاتصال المباشر حين تلهج بالدعاء، وقد وضع الله تعالى رهن إشارتها تسعة وتسعين اسما للاتصال كلها مفتوحة في أي وقت ومن أي مكان، يقول الله تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها 7. ولها مع الله أيضا اللقاء المباشر حين تفزع إلى الصلاة فتعرض حاجتها على الله وتبث شكواها له وهي ساجدة قريبة. فعن حذيفة رضي الله عنه: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة” 8.
في تاريخ الإسلام على العهد النبوي والراشدي نماذج كثيرة من هذه الشخصيات، على سبيل المثال نستعرض هذه الشخصية الإحسانية الجهادية التي صنعت موقفا بطوليا ورجوليا عزّ له نظير في التاريخ، والذي لم يجد له سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه من تقييم إلا أن يقبل رأس صاحبه. فعن أبي رافع قال: “وجه عمر بن الخطاب جيشا إلى الروم وفيهم رجل يقال له عبد الله بن حذافة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأسره الروم فذهبوا به إلى ملكهم، فقالوا: إن هذا من أصحاب محمد. فقال له الطاغية: هل لك أن تنصّر وأُشركك في ملكي وسلطاني؟ قال له عبد الله: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت. قال: إذا أقتلك. قال: أنت وذاك. قال: فأمر به فصلب، وقال للرماة: ارموه قريبا من يديه قريبا من رجليه، وهو يعرض عليه وهو يأبى. ثم أمر به فأنزل ثم دعا بقدر فصب فيها ماء حتى احترقت ثم دعا بأسيرين من المسلمين، فأمر بأحدهما فألقي فيها وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأبى، ثم أمر به أن يُلقى فيها، فلما ذهب به بكى، فقيل له إنه قد بكى، فظن أنه جزع، فقال: ردوه يعرض عليه النصرانية فأبى، قال: فما أبكاك إذا؟ قال: أبكاني إن قُتلت هي نفس واحدة تلقى الساعة في هذه القدر فتذهب، فكنت أشتهي أن يكون بعدد كل شعرة في جسدي نفس تلقى هذا في الله، قال له الطاغية: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك؟ قال له عبد الله: وعن جميع أسارى المسلمين؟ قال: وعن جميع أسارى المسلمين. قال عبد الله: فقلت في نفسي عدو من أعداء الله أقبل رأسه يخلي عني وعن أسارى المسلمين لا أبالي. قال: فدنا منه فقبل رأسه. قال: فدفع إليه الأسارى فقدِم بهم على عمر فأُخبر عمر بخبره. فقال: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ فقام عمر فقبل رأسه” 9.

خاتمة

أما بعد فإن كان لفقه التجديد من غاية، وللتربية الإحسانية من غاية فهي تحقيق هذه الشخصية الإحسانية الجهادية التي ترتقي إلى معانقة النموذج النبوي الحاضر عبر التاريخ في رجال تركوا بصماتهم على صفحاته.
لم تكن الشخصية الإحسانية التي كان يتمتع بها الصحابة رضي الله عنهم في أبعادها التربوية والدعوية والجهادية والتي خرجت وتربت في نفس المدرسة النبوية وقفاً على ذواتهم، بل تعدّت إلى ذات الأمة لتشكل لها بمجموعها هوية إحسانية يتنسم عبيرها المؤمنون في كل مجال من مجالات الحياة، في بيوتهم وفي مساجدهم وفي مؤسساتهم، في حياتهم الفردية والجماعية، الشخصية والاجتماعية، في حربهم وسلمهم، في كل شأن من شؤون حياتهم.
ولم ترق الخلافة عندهم لأن تكون راشدة ورشيدة بالتصريح والإخبار النبوي إلا لحضور تلك الهوية الإحسانية التي كانت مترجمة على مستوى الواقع وأرضه: كرامة وحرية، رحمة وشورى، وعدلا وإحسانا. وعندما نتحدث عن مجتمع كهذا بهوية إحسانية قاعدته البشرية شخصيات إحسانية فإننا نتحدث على أرقى مجتمع يمكن أن تصل إليه البشرية على الإطلاق. وهو الذي نقرأ عليه في عهد النبوة والخلافة الراشدة ونحنّ إليه، وننشده ونتطلع إليه في الخلافة الثانية على منهاج النبوة إن شاء الله تعالى.


[1] الأنبياء: 7.
[2] التوبة: 108.
[3] الأحزاب: 15.
[4] النور: 37.
[5] الحج: 38.
[6] رواه الإمام البخاري رحمه الله.
[7] الأعراف: 180.
[8] أخرجه أبو داود رحمه الله، وحسنه الألباني رحمه الله.
[9] رواه البيهقي في الشعب. ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق.