السّاقطون في “امتحان غزة”

Cover Image for السّاقطون في “امتحان غزة”
نشر بتاريخ

لم يكن أحد يتوقع أن خيطا رفيعا يفصل بين الحال ونقيضه؛ بين الصورة المُلمَّعة الإنسانية والديمقراطية والمدنية التي تُعرّف جهات كثيرة نفسها بها، وبين الوحشية والديكتاتورية والبربرية التي تتخفّى وراء التعريف وتكمُن خلف الصورة. خيط رفيع انقطع، وطبقة شفّافة زالت، وقناع مزركش أزاحته “يد الحقيقة” عن كثير من الوجوه الكالحة.

“يد الحقيقة” هنا هي غزة التي تُباد وتُسْحق بتأشيرة رضى دولية، وهي فلسطين التي يُراد لقضيتها التّصفية والنسيان، ولشعبها التشرد والدونية والذل والهوان. ولكن هيهات هيهات؛ إنه شعب الجبّارين الذي أُشرب
لَبن العزّة والشموخ، شعب ينبعث وراء كل طمس ليكرّر مقولته التاريخية “إنا ها هنا باقون، ما بقي الزعتر والزيتون”، شعب يخرج من تحت ركام القصف والجُرح نازف ليقول بصبر الصلحاء الموقنين “معلش، كلو فدا فلسطين، كلو فدا المقاومة”. إنها يد حقيقة ساطعة بيضاء، لا يزيغ عن الاصطفاف معها ولا نصرتها إلا هالك.

أما تلك الوجوه التي بانت ملامحها البشعة وتكشّفت حقيقتها السوداء وظهرت مكنوناتها الشّوهاء، فكثيرة ومتعددة؛ دول ومنظمات وتيارات وأفراد، جميعهم سقطوا سقوطا مُدوّيا في امتحان الإنسانية والأخلاق على أرض غزة الشماء.

أولا: سقط المنتظم الدولي بمؤسساته وهيئاته وتشريعاته و”لغوه الكثير”، سقط حين سَلّم لدويلة واحدة أن تفعل ما يحلو لها؛ تقتل وتقتحم وتُعَربد وتُبيد، تقصف المدنيين وتدك المستشفيات وتسوي بالأرض المدارس وتهدم دور العبادة. دويلة لقيطة محتلة تخرق كل القوانين وتدوس كل الأعراف، لا تلتزم بقرارات أممية ولا تأبه باتفاقيات دولية، لها القدرة الفائقة على أن تفعل ما يحلو لها وهي مطمئنة إلى مؤسسات مشلولة وأمم متحدة مُتحَكّم فيها ما دام “ڤيتو مجلس الأمن” مضمون و”في الجيب”.

سقط النظام الدولي الذي يملك قوات أممية وترسانة قانونية ولجانا وهيئات وعقوبات، تتيح له إلزام المعتدي وتمنحه “حق التدخل” لِلَجْم المجرم، ولكنه ركن إلى مواقف متخاذلة منبطحة صادمة، ولغة وديعة باردة لا تتعدى كلاما مرسلا في الهواء كأنه سخرية سوداء!

وفعلا، المصالح وصراع النفوذ من جهة والنظرة الاستعلائية إلى شعوب الجنوب من جهة ثانية، تفضح الازدواجية والانتقائية، وتجعل الموقف من قصف شعب أوكرانيا ليس كتدمير شعب فلسطين (رغم البون الشاسع بين الحالتين)، فما أقدمت عليه روسيا “إرهاب” دون شك، وما فعلته “إسرائيل” مجرد دفاع عن النفس!

ثانيا: سقط الغرب المنافق الوحشي، وبارت أسطورته باعتباره “مركز الكون” ورائد الحضارة وحامل لواء التمدّن والإنسانية. فقد تكشّفت حقيقته البربرية، واستعلاؤه العرقي، واستكباره على الأمم والشعوب التي لا تتقاسمه نفس اللون والدين واللغة.

سقط القناع عن حقيقة طالما روّج الإعلام الغربي لضدها وتغنى بها المنبهرون المستلبون، وتكشّفت كل تلك الشعارات البرّاقات عن شيء اسمه الديمقراطية أو حقوق الإنسان أو المدنية أو الحداثة أو المساواة بين بني البشر أو تلاقي الحضارات رغم الاختلافات.. لقد ظهرت حقيقة الوحش الكاسر الذي يتخفّى وراء كل ذلك، وحش يمكنه أن يتلذّذ بالْتهام الأطفال الصغار والنساء المحاصرات وتقطيع أوصالهم وأوصالهن دون أن يشعر أنه يفعل شيئا ما ترفضه فطرته المطموسة.

وإننا إذ نتحدث عن هذا الغرب الساقط المنافق، قاصدين طبعا دوله الوطنية الكبرى والكثير من نخبه ومؤسّساته، نشيد بالانتفاضة الكبيرة التي تشهدها مجتمعاته التي اكتشفت خداع حكّامها وزيف منظومتهم الأخلاقية والقانونية. شباب ونساء ونخب تنتفض اليوم بغضب شديد، ليس فقط رفضا لهذه الوحشية النازية الجديدة التي ترتكبها “إسرائيل”، ولكن ثورةً أيضا في وجه هؤلاء السّاسة غير الآدميين الذين يبصمون على القتل ويهدمون تراثا ضخما ينتصر للإنسان والعمران. 

ثالثا: سقطت نظم الحكم العربية والإسلامية التي سلّمت فلسطين للذّبح والقتل والإبادة، ووقف مُعظمها بعيدا يشاهد ويتفرج، كأن القضية ليست عربية ولا إسلامية ولا تجري في الشرق الأوسط في قلب جغرافيتهم السياسية. سقط النظام العربي والإسلامي مُجسّدا في المنظّمتين الفارغتين الشكليتين جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، فلا مواقف قوية ولا خطوات عملية ولا تهديدا صريحا ولا قطعا للعلاقات، كلمات جوفاء فارغة تشتد لـ”تُندّد” وتبرد لتدعو “الطرفين إلى التهدئة”.

ولعل “قمة الرياض” التي تجمّعت فيها كل تلك الدول، وبعد يوم كامل من خطابات القادة (كأنهم أكاديميون في ملتقى علمي لتحليل الوضع!)، ثمّ، كالعادة، إصدار بيان باهت، وتشكيل لجنة للتتبع، وإعلان العزم على كسر الحصار لإدخال المساعدات عبر معبر رفح (لاحظ أن هذا هو سقف المطالب، وليس إرغام العدو على وقف الإبادة الجماعية -لا سمح الله-!). عزيمة “كسر الحصار لإدخال المساعدات” هذه، وعلى بساطتها، والتي لا تعني شيئا سوى إدخال الدواء والماء والغذاء، ما تزال عالقة في الورقة التي كتبت عليها بعد 10 أيام على إطلاق الوعيد المزمجر!

سقطت كرامة هذه الأنظمة وأبانت ذلّا وانبطاحا سيذكره التاريخ طويلا في صفحات الانكسار والهوان، وهو السقوط المزدوج الذي تعيشه دول التطبيع التي بادرت، على غير إرادة شعوبها ومجتمعاتها، إلى إقامة علاقات رسمية واتفاقات متعددة مع كيان الاحتلال الصهيوني، وحافظت على هذا الوضع رغم كل ما يجري من وحشية قلّ نظيرها، ورغم الصوت العالي لشعوبها في الشوارع والساحات أن أسقطوا التطبيع واطردوا ممثلي الكيان.

رابعا: سقطت نخب عربية عديدة، من كل لون وصنف، من كل تيار وإيديولوجيا، وظهر أن الديباجات البرّاقة والعناوين الخدّاعة لا تصمد أمام الامتحانات الكبيرة التي تعترض مسار الإنسان والأمة. وظهر أن الزّيف مهما تجمّل وتزيّن تنكشف خدمته النكراء للسّيف، وأن اللّسان مهما تفذلك يظهر عَيّ تبريراته لسقطات السلطان. وبان أن الموقف قد يتلون بكل الألوان، حتى إنه ليتدثّر بلون الصّهْينة، في سبيل الحفاظ على المكسب الذي قد يكون حظوة أو مغنما أو دفع مغرم.

في الأمة أشراف كثر وتيارات كبيرة ونخب واسعة أظهرت ولاءها للحق ودفاعها عن العدل وتأكيدها لبديهيات الفطرة والإنسانية، وهو ما جعلها رأسا مع فلسطين وضد الاحتلال الصهيوني، ولكن حديثنا هنا عمّن باتوا يلقبّون بـ”المتصهينين العرب”؛ وهم أولئك الذين خرجوا يطعنون في شعب فلسطين وفي مقاومته الشريفة وفي حقوقه الأصيلة وفي الشعوب المسلمة والحرّة التي انتفضت للدفاع عن غزة الإباء وفلسطين الشامخة. سقطوا سقوطا مريعا كاشفا، سواء لبسوا قُبّعات أكاديمية أو عمامات دينية أو وقفوا أمام كاميرات التلفزة أو تحدثوا بلغة السياسات أو غلّبوا مكاسب الاقتصاد وأرباح العلاقات.

إنها، يا هؤلاء، الخيانة التي لا تبرّرها كل “نظريات” الدنيا، وإنّه العار الذي يلحق أصحابه أبد الدهر. وإنه لا احتلال يدوم مهما طغى، وإنه لا حق ينمحي مهما ضَعُف. وإنه إما أن تكون إنسانا أو لا تكون.

خامسا (وقبل كل شيء): سقط كيان الاحتلال الصهيوني، وسقطت كل أساطيره ودعاويه ومزاعمه وأكاذيبه؛ فالجيش الذي لا يُقهر سرعان ما انهارت حصونه ودفاعاته وجنوده في صفوف الصد الأولى، ثم ما لبث عساكره أن تلقوا الضربات تلو الضربات حين نزلوا من طائراتهم إلى الميدان. والاستخبارات التي تعلم أزيز النحل ودَبيب النمل سيّرت حركة المقاومة خطة عسكرية ضخمة من أمام ناظريها دون أن ترى. والكيان الذي اطمأن إلى محيطه وهو يصنع الاتفاقات ويَطْبع المنطقة بمرحلة جديدة عنوانها “صفقة القرن” سرعان ما اكتشف أن صاحب الحق الأصلي لم يقل كلمته النهائية بعد وسدّد له “صفعة القرن”. والديمقراطية الوحيدة في المنطقة لم تلبث أن باتت وحشا كاسرا منفلتا طافت صور تقتيله الأطفال والنساء الدنيا بأسرها، لتهدم يداه كل السّردية الصهيونية ومغالطاتها ولتكتشف شعوب العالم حقيقة هذا الكيان الإرهابي. والقضية التي أراد تصفيتها وطي ملفها نهائيا (مُستوليا على القدس وأقصاها ومُقطّعا أوصال فلسطين ومؤبّدا حال المهجَّرين) سرعان ما باتت الموضوع الأول على طاولة العالم.

سقط الكيان، وما كان له إلا أن يسقط، في بئر عميقة من التّردّد والحيرة والتخبط، وبدا وكأنه قد “قامت قيامته” وآنت نهاية أسطورته الكاذبة وسقوط دولته المصطنعة. وما إقدامه بعد ذلك على القصف العشوائي والقتل المتعمّد للمدنيين وتدمير مدينة بأكملها إلّا رقصة الديك المذبوح في سويعاته الأخيرة؛ فانهزامه المدوي أمام ضربات رجال المقاومة في يوم السابع من أكتوبر وبعد الاجتياح البرّي، وفرار جنوده من المواجهة وتحصّنهم داخل دباباتهم وأبراجهم وناقلاتهم، والتي باتت بدورها صيدا سهلا ثمينا لأولي البأس الشديد، سيشكل منعطفا حاسما في مصير الاحتلال الذي يزداد ضعفا وهوانا مرحلة بعد مرحلة وجولة بعد جولة.

لقد جاءت معركة طوفان الأقصى لتضع القضية، والأمة معها، على أعتاب مرحلة جديدة، وقد كان النصر المدوّي يوم السابع من أكتوبر، والذي لن تمحو آثاره الاستراتيجية هذا الإرهاب الوحشي الجاري ضد غزة وشعبها، فرقانا حقيقيا، فَرَز الأحرار والأشراف وأنصار قضية فلسطين العادلة، عن غيرهم ممن أسقطهم امتحان غزة سقوطا مدوّيا وكشف أعطابهم الدّفينة.