السيرة النبوية برؤية منهاجية (3) ميلاد نور النبوة

Cover Image for السيرة النبوية برؤية منهاجية (3)
ميلاد نور النبوة
نشر بتاريخ

مقدمة

أفتتح فقرتي هذه من ميلاد نور النبوة بمقطع من كتاب المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا)، ليكون منارا نقتبس منه ما ننسج به خيوط هذه الفقرة ونبني به كلماتها. يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: يجب أن نصنع فكرا مستقبليا يلقي على آفاق هذا القرن الخامس عشر، قرن الإسلام بإذن الله، ومن بعده، نور القرآن ونور الهدي النبوي. يلقي على حياة البشر نورا به يميّزون ما ينفع في الدنيا والآخرة، وما يضر في الدنيا والآخرة. وإننا لفي سباق مع الثورة الصناعية التي سبقونا بهــا، ومع الثورة الإعلامية -أقصد ثورة الإلكترون وآلات العد والتنظيم والضبط- التي لا يقدر ما ستحدثه في حياة الناس من آثار إلا الله تبارك وتعالى) 1 .

في حديث الإمام رحمه الله عن ميلاده صلى الله عليه وسلم لم يقف في كتاباته عند الولادة النبوية الجسدية كما هو مذكور ومشهور في كتب السير والمغازي، وإن كان رحمه الله في مجالسه الإيمانية دائما ما يحتفي ويحتفل به صلى الله عليه وسلم عند حلول ذكرى مولده السنوية، ويوصي كذلك المؤمنين بالاحتفاء والاحتفال به. لكنه وقف عند أمر مهم له من الأثر البالغ في حياة الفرد والجماعة، والأمة والعالم. إنه أمر النورانية النبوية، نور محمول إلينا، باق بين ظهرانينا. به فقط يستنير لنا المنهاج) 2 . وبموازاة ذلك الأمر أمر آخر ثان وقف عنده هو تعبيره وتشبيهه ميلاده صلى الله عليه وسلم بميلاد الإسلام وأمة الإسلام.

فإذا كانت أغلب الدراسات أو بعضها التي تناولت هذا المقطع من السيرة النبوية لا ترى فيه إلا ماله الصلة بالفرد من الناحية الاجتماعية في نسبه ويُتمه وما صاحب ذلك من معجزات وما شمل ذلك من عناية إلهية، فإن الرؤية المنهاجية لميلاد نور النبوة استلهمت منه ذلك النور النبوي الذي أشرقت شمسه على العالمين. حتى يكون مبتدأ المنهاج النبوي في تحركه التربوي والدعوي والجهادي من هنا بدلا من البعثة النبوية ونزول الوحي.

ميلاد نور النبوة

ما هو موجود في كتب السيرة من حديث عن ولادته صلى الله عليه وسلم الجسدية فيه الغناء والثراء، وملخصه أنه صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين صباحا في وقت السحر وساعة الاستجابة، ولد وقتذاك ساجدا ومختونا ومسرورا صلى الله عليه وسلم، وذلك في شهر ربيع الأول عام الفيل. ولحظة ولادته صلى الله عليه وسلم اضطرب إيوان كسرى حتى سُمع صوته، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، كما خمدت نار فارس ولم تُخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة، وأما الشيطان فهرب إلى الأرض السابعة. في حين أمه أخبرتنا أنها لما وضعته رأت كأن نورا خرج منها أضاء لها العالمين.

لكن الرؤية المنهاجية ترى أن أهم شيء في هذه الولادة النبوية هو ظهور نورانيته صلى الله عليه وسلم التي أضاءت الدنيا بعد أن أظلمت، وأحيت الأرواح والقلوب بعد أن ماتت. يقول الله تعالى: قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين 3 ، قال بعض المفسرين: الكتاب هو القرآن، والنور هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكلاهما نور. فكان التركيز للإمام رحمه الله على هذا الأمر راجعا إلى كون الوجود الروحي والمعنوي لشخصه الشريف هو الأبقى والأدوم والأعمق أثرا في القلوب والواقع عبر الزمان والمكان من الوجود المادي. وأن الفقه المغيب في حياة الأمة هو الحديث عن تلك النورانية الوارثة والسارية بالصحبة من قلب لقلب. وأن ما ينتظره منا العالم هي تلك النورانية التي تمنح له معنى الوجود والحياة الإنسانية.

وتكمن أهمية هذه النورانية النبوية في حياة المؤمنين في كونها الباعث على إحياء إراداتهم وشحذ عزائهم وإيقاظ هممهم، والدافع لينتقل العلم الذي يأخذه عقلنا من النقول، والفهم الذي يطرأ لعلماء كل عصر، إلى عمل صالح) 4 . وما مهمة النبي صلى الله عليه وسلم ومهمة من قبله من الأنبياء والرسل عليهم السلام كما ذكرها الله عز وجل في كتابه العزيز إلا إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ونقلهم من الحياة الظلمانية إلى الحياة النورانية. يقول سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، الر، كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذنه إلى صراط العزيز الحميد 5 ، وبهذا تبعا ومتابعة واتباعا تكون مهمة أصحابه وإخوانه هو إحياء هذه النورانية في قلوب الناس وعقولهم. يقول الإمام رحمه الله تعالى: يجب أن يبث جند الله نور الإيمان في القلوب، ونور العلم في الأذهان، وقوة الإرادة في العزائم، وشدة المراس وطول النفس في النفوس 6 .

وحتى يفهم هذا الارتباط بنور النبوة على حقيقته أو ما يسميه الإمام بــالمتابعة النورانية) بعيدا عن التشويش والفهم الخاطئ، يوضح الإمام المجدد بكل جلاء أنه يعني الاتباع الكامل للسنّة ظاهرا وباطنا، قولا وفعلا وسلوكا، يقول: هذا الاتباع لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم في سلوكه الخاص والعام، باستثناء خصوصياته صلى الله عليه وسلم في حياته اليومية والرسالية، في سلمه وحربه، في حله وترحاله، في تقلله وبساطته، هو الضامن الوحيد لقلع جذور الفتنة من بيننا. وليس الحرص الشديد على هذه المتابعة النورانية هو التنطع، إنما التنطع أن يعمد بعض الناس إلى جزئيات من الشريعة يؤولها بفهمه، ويسخر فهمه لتغليب شهوته في الظهور، ليفتن المسلمين والمؤمنين) 7 .

السراج المنير

ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم نورا فقط، بل كان أيضا مصدرا للنور ومنبعا له، يقول سبحانه وتعالى: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا 8 ، يعلق الإمام على الآية الكريمة في كتابه المنهاج النبوي) بتعليق جميل نقتطف منه هذه الأسطر التي يقول فيها: السراج المنير: بالنسبة لخليل الله وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم كمال لا يقدّره الغافلون عن الله قدْره. وبالنسبة لجند الله هو نصيبك أيها المؤمن من ذلك النور الإيماني الإحساني الذي يُودعه الله قلوب أصفياءه من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين) 9 .

وحتى نلتمس تلك النورانية ونرتبط بها يوصي رحمه الله ويؤكد على محبته صلى الله عليه وسلم المحبة العظيمة التي تخالط شغاف القلوب، وهي العروة الوثقى. وباعتبار تلك المحبة العظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعلقا قلبيا وارتباطا روحيا بالأساس كان لا بد من إيحاله ودلالته على الصحبة الإيمانية التي يتم من خلالها التسلسل القلبي إلى نور رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول رحمه الله: قد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسلسل المدد القلبيِّ الفتحيِّ الحُبِّيِّ من بعده حين قال:)“يأتي على الناس زمان يغزو فيه فِئَامٌ من الناس (جماعات) فيقولون: هل فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم! فيُفتح لهم. ثم يأتي على الناس زمان، فيغزو فِئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون نعم! فيُفتح لهم. ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون نعم! فيُفتح لهم” 10 . بركة متسلسلة، وفلاح ونصر. وإن التابعين فَمَن بعدهم إلى يوم القيامة لتَشُم أرواحُهم نسيمَ الحب والقرب من عِشْرَة أصحاب القلوب النيرة الخيرة، وتحوم حولها، وتقتبس منها نوراً ومحبة ورَوْحاً) 11 .

وكما ظهرت تلك النورانية النبوية في عهدها الأول فأضاءت كل مكان، فكذلك يكون إعادة الخلافة على منهاج النبوة بإظهار تلك النورانية في كل مكان، في القلوب والأرواح، في البيوت والأسر، في المدارس والمعاهد، في مؤسسات المجتمع ودواليب الدولة. وإن أية خلافة ثانية لا يمكن تصورها ما دام لا يوجد جيل على قلب “الجيل القرآني” ورجولته ونورانيته. ومن أين يأتي كل هذا إن لم نستلهم كلمة الله الباقية وكلمة رسوله الواعدة لنكون رجالا كما كانوا رجالا؟(…) تكون هذه الأجيال المباركة إن شاء الله من أهل النور، وتكون صنوا للجيل القرآني الأول، وتكون عماداً للخلافة الثانية إن كان كل فرد فرد، ذكرا أو أنثى، تتمثل فيه الرجولة (يقصد رحمه الله الرجولة النورانية الواردة في سورة النور) التي تمثلت في الأولين) 12 .

ميلاد الإسلام أمة الإسلام

اعتبر الإمام المجدد رحمه الله ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ميلاد أيضا للإسلام ولأمة الإسلام. ميلاد بنفس المواصفات ونفس الوظائف. ميلاد نوراني ووظيفة نورانية. هو صلى الله عليه وسلم أرسله الله تعالى للناس كافة بشيرا ونذيرا، فقال تعالى: وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا 13 ، وأمته أخرجها الله كذلك للناس كافة بشيرة ونذيرة. فقال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله 14 . فاعتباره رحمه الله ميلاد رسول الله هو ميلاد للإسلام أيضا وذلك لما يعطينا التشبيه والتوافق والتطابق من صورة نستهدي بملامحها العامة في سيرة التجدد الإسلامي. مع مراعاة النقلة الزمانية، وانقطاع الوحي الموجه للحركة الأولى يحل محله الاجتهاد والتسديد والمقاربة، ومراعاة وجود مجتمع مسلم في الحاضر انحلت عراه لكنه لا يزال مسلما) 15 .

وحين نقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التجديد المئوي، وبعث الله للمجددين الذين يجددون الدين للأمة بتجديد الإيمان في القلوب فإنه بعْث أيضا للإسلام وميلاد جديد له. يقول الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها” 16 . وميلاد الإسلام الثاني وبعثه من جديد يقين ما فتئ الإمام المجدد يرسخه في قلوب المؤمنين ويذكر به الأمة قولا وكتابة. يقول: لنا مع الله عز وجل يقين واحد: هو أن العالم في مخاض لميلاد الإسلام الجديد. ولله ملك السماوات والأرض) 17 .

خاتمـة

هذه النورانية التي يتحدث عنها الإمام رحمه الله لا ينفك ارتباطها عن مصدرها الحقيقي الذي هو الله، نور السموات والأرض. ومن لم يجعل الله نورا فماله من نور 18 ، ولا ينفك ارتباطها عن روح القرآن، وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم 19 . وهذه المتابعة النورانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما تعنيه من تعلق قلبي روحي به صلى الله عليه وسلم محبة وإيمانا وتعظيما من خلال الصحبة المتسلسلة عبر تاريخ الإيمان والإحسان، تلك هي العبرة البليغة التي نستشفها من ميلاد نور النبوة لنستنير بها ونستهدي بها في ميدان العمل والدعوة والتحرك الجهادي للجماعة والأمة وسط واقع فتنوي محاط بجاهلية أشدّ ما تكون الجاهلية.

فـــاللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، واجعل لي في نفسي نوراً، وأعظم لي نوراً) 20 .


[1] المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ص: 26.\
[2] القرآن والنبوة، ص: 12.\
[3] المائدة: 15.\
[4] سنة الله، ص: 269.\
[5] إبراهيم: 1.\
[6] المنهاج النبوي، ص: 406.\
[7] المنهاج النبوي، ص: 263-264.\
[8] الأحزاب: 46.\
[9] المنهاج النبوي، ص: 456.\
[10] رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.\
[11] الإحسان ج1، ص: 196-197.\
[12] سنة الله، ص: 261.\
[13] سبأ: 28.\
[14] آل عمران: 110.\
[15] سنة الله، ص: 26.\
[16] رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في “السلسلة الصحيحة”.\
[17] العدل الإسلاميون والحكم، ص: 233.\
[18] النور: 40.\
[19] الشورى: 52-53.\
[20] رواه الإمام أحمد والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنه، وصححه الألباني في الجامع الصغير.\