السيرة النبوية برؤية منهاجية (2) ما قبل عهد النبوة

Cover Image for السيرة النبوية برؤية منهاجية (2)
ما قبل عهد النبوة
نشر بتاريخ

وصف الجاهلية

في ذكر وصف الجاهلية أنقل كلاما للإمام كما أورده في كتابه “سنة الله”، يقول رحمه الله: هذه الجاهلية الحَرُونُ التي طاردها الإسلام الأول -وهي اليوم تحاصر الإسلام من كل جانب منذ كرتها المتواصلة على الإسلام ابتداء من عودة العصبية للقضاء على الخلافة الراشدة وتأسيس الحكم العاض- هي قبل كل شيء وثنية عامة، وثنية عقيدة، وثنية حكم، وثنية زينة، وثنية تفاخر. أوثان العرب كانت على عهد النبوة أحجارا بدائية. قال الكلبي: “كان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنعُ في منـزله أن يتمسّح به. وإذا قدم من السفر كان أول ما يصنع أن يتمسح به أيضا”) 1 . يتمسحون بها ويطوفون حولها ويناجونها ويشكون إليها همهم. يعبدونها لتقربهم في زعمهم إلى الله زلفى. وذلك هو الشرك. كان في جوف الكعبة ثلاثمائة وستون صنما. وكان الصنم عندهم يفقد قدسيته أو يكسب سمعة وشعبية، محلية أو عامة، بحسب ما يحيط به من دعاية وما يحميه من عصبية. وكان لقريش القِدْح المعلى في ذلك).

كان الكهان الماهرون في الزمزمة يكسبون لقبيلتهم شهرة فتصبح قبلة لحج المختصمين. وأية قبيلة حصلت على صنم مستورد من البلاد الهلينية المتقدمة الراقية في وثنيتها التي تجيد نحت المرمر فقد قدمت لمستقبل مفاخرها “استثمارا” معتبرا. أما ضعفاء الناس فيكتفون بالموجود. قال أبو رجاء العطاردي:)“كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر. فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثوة (حفنة) من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به” 2 .

كان للعرب آلهة من الجن والكواكب والملائكة في زعمهم. كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله، جل الله. وكان منهم من يعبد الشمس ومن يعبد القمر، أو نجما معينا يخصونه).

كانت الحروب الدموية والغارات طبيعة طبعت عليها الجاهلية الأولى. كان العنف هو القاعدة لا الاستثناء. كانت الغارة والنهب هما المعيشة. كانت أية نفرة أو خصومة أو نزاع بسيط بين شخصين، لا سيما إذا كانا شريفين في قومهما، تقدح حربا طاحنة تراق فيها الدماء عشرات السنين).

وكان “تبرج الجاهلية” خاصا بالطبقة المستأثرة بالزينة، والزينة البئيسة خاصة بالفتيات المسلوبات الحرية يُحصرن في دور الخنا تخفق عليهن رايات الإشهار الحمر في مكة).

كان القمار رياضة يومية ومفخرة. وكان الربا أضعافا مضاعفة يقبض على أزمة المال).

نقتصر على هذا القدر من وصف تلك الجاهلية ونقتصر على الجاهلية العربية التي كانت على كل حال “أنظف” من الجاهليات المعاصرة لها، في الهند حيث كانت المعابد دوراً للزنا المقدس، وفي بيزنطة حيث كانت فضائح الكنيسة وقصور البازليوس مضرب الأمثال، وفي مصر حيث مارس الاستعمار الرومي البيزنطي أبشع الوحشيات في محاربة نصرانية القبط، وفي فارس حيث شرع مزدك الإباحية في الأموال والنساء دينا، وفي كل مكان حيث كان اليهود لعنهم الله يُفسدون في الأرض ولا يصلحون بمكرهم الرقيق الشيطاني الذي يزري فساده بجفوة العرب السذج وظنهم وتبرجهم وحميتهم) 3 .

الجاهلية والفتنة

ولأهمية معرفة الجاهلية وما لها من خصائص، حتى تُعرف البيئة التي نشأ فيها الإسلام، والدور الذي أداه فيها، لا نكاد نتصفح كتابا في السيرة النبوية إلا ويُذكر في بدايته الجاهلية بذكر أحوالها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها. لكن ما يختلط فيه الفهم أن نجد من الناس ومنهم الباحثون والمفكرون أيضا من يطلق على حاضر الأمة وواقعها وصف الجاهلية، فيسميه بــ”جاهلية القرن العشرين”. فإن كان القصد بهذا الوصف ما هو خارج أسوار الأمة الإسلامية من المجتمعات الغربية، فذلك نعم. لأنها تتوفر على جميع الخصائص التي ذكرت وأكثر، وبشكل متطور ومتقدم، أما إن كان القصد ما هو داخل الأمة من المجتمعات الإسلامية، فنكون بهذا الوصف قد كفرنا الجميع، وادعينا لأنفسنا الهداية من دون الناس، وأغلقنا باب الدعوة دونهم. فلا مفرّ إذا من التدقيق في تحديد الصفة الشرعية المطابقة لواقعنا وحالنا، فذلك من فقه الواقع الذي من خلاله يكون التعامل، وعلى أساسه يكون التغيير وإعادة البناء لما تهدم من صرح الإسلام وانتقض من عراه.

ومن بين من حاورهم الإمام رحمه حول هذا الموضوع في كتاباته الإمام الشهيد سيد قطب رحمه الله، الذي أطلق صفة الجاهلية على الواقع الحالي بدعوى غياب الحكم بما أنزل الله تعالى. يقول الإمام محاورا له: كان سيد قطب رحمه الله أبلغ من تحدث عن عزة الإسلام واستعلائه على الجاهلية وتميزه عنها تميز النور عن الظلمة. كلماته النيرة الخيرة رسمت في عقل هذا الجيل ووجدانه صورة ناصعة لمثالية الإسلام، ومثال ثباته على الحق ورجولته في الإيمان رسخت في قُرائه تعشق تلك المثالية. بعض من قرأوه لا يقدرون على الانتقال من عالم المثالية والنـزول إلى عالم الواقع، فيدفعهم ما يرون من حولهم من فساد فتنوي إلى اليأس، وتكفير المجتمع والهروب منه، والانزواء مع مثالية مكبوتة في أقبية السرية والعنف) 4 .

ولتحديد الوصف المناسب لواقع الأمة الحالي يقول: ونحن نفضل استعمال كلمة فتنة لوصف مجتمعاتنا، فهي كلمة نبوية، وفي كتب الحديث فصول خصصت لذكر ما حدث به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن نشوء فتن واضطرابات في الأمة، ما ذكر أنها تخرج الأمة عن إسلامها. إنما هي أمراض، بعضها أخطر من بعض، والزيال الواجب لها ليس في الانسحاب والاستعداد لنسفها، لكن في معالجة الفتنة لنقضي على الفتنة لا على الناس) 5 .

وفي حديثه عن الجاهلية حاول الإمام أن يطلعنا على أمر مهم فيها، وهو “روح الجاهلية”، وربطه بوعد الآخرة. فروح الجاهلية يقصد به اليهود تلك الجرثومة التي تنخر في جسم الأمة، ووعد الآخرة هي تلك المواجهة الحاسمة والواسعة بين الإسلام والجاهلية، بين أهل الإيمان وأهل الكفر، واليهود بعَدَدِهم وعُدَدِهم أقلُّ وأذَلُّ من أن يشكلوا جبهة تقارن بأمة الإسلام. (…) لكن لما كانت أعدادنا المتكاثرة، باركها الله بمنّه، أعدادا غثائية لما تستيقظ من سبات ولما تعتصم بإيمان، كان التفوق النوعي لليهود وتمكنهم من الأموال ومن زمام أكبر دولة وأعظمها في العالم عوامل حاسمة في ترجيح كفتهم إلى حد الآن).

اليهود روح الجاهلية، والجسم والكتلة والنفير والنصير والقوة النصرانية المهودة. فبقدر فهمنا لمدى تقمص روح جاهلية عصرنا جسم جاهلية عصرنا نكون أقرب إلى فقه الخطاب القرآني بوعد الآخرة، وخطورة وعد الآخرة بالنسبة للبشرية، وأهمية وعد الآخرة في تاريخ هذه الأمة، وعتبة وعد الآخرة، وتحدي وعد الآخرة) 6 .

خاتمة

ذهبت الجاهلية بمجيء الإسلام، ذهب الشرك والكفر وحل محلهما الإيمان والعقيدة الصحيحة، ذهب الجهل وحل محله العلم، ذهب العنف والتعصب وحل محلهما الرحمة والمحبة، لكن لم تذهب الجاهلية بكاملها، فبقي منها أمور ذم الشرع من يتصف بها مجموعة أو فرادى، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة”، وقال: “والنائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب” 7 .

وعن المعرور قال: لقيت أبا ذر بالربَذَة (المكان الذي عاش فيه أواخر حياته رضي الله عنه) وعليه حلة وعلى غلامه حلة. فسألته عن ذلك فقال: “إني ساببت رجلا فعيرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية! إخوانكم خَوَلكم، جعلهم الله تحت أيديكم. فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس. ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم” 8 .

يعلق الإمام على الحديث فيقول: صحابي جليل نتصوره في جلاله مكتملا، ها هو في أحضان التربية النبوية نتعلم معه أن الجاهلية لا تنمحي ضربة واحدة، وأنها تلتصق بقاع الطبع، وتترسب في جنبات النفس، وتنتشب في العقل والكيان كله بمخالب العادة، وتتحالف مع الهوى) 9 .


[1] أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي، كتاب الأصنام، ص: 33.\
[2] رواه البخاري.\
[3] سنة الله، ص: 31-32.\
[4] نفس المرجع، ص: 33.\
[5] المنهاج النبوي، ص: 260.\
[6] نفس المرجع، ص: 118.\
[7] رواه مسلم.\
[8] أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.\
[9] سنة الله، ص: 34-35.\