مقدمة
لما كان كتاب الإحسان كتاب سلوك إلى الله من منظور منهاجي وليس صوفي، وكان علم السلوك الإحساني أحد أكبر الجوانب العملية المهمة في الفكر المنهاجي الجامع للعلم النبوي، كان لا بد أن يحمل هذا العلم مصطلحات خاصة به توضع كمفاتيح لفهمه، فهي إما مصطلحات جديدة من وضع المؤلف رحمه الله، وإما مصطلحات وضعها من قبله من المؤلّفين وأعطى لها الإمام رحمه الله دلالة جديدة وصياغة تجديدية. ولكنه لطالما استغنى عن المصطلحات المُحْدثة بلغة القرآن وببيان إمام أهل الإحسان.
وفي عرضنا للسلوك الإحساني نقف على مصطلحات كثيرة تشكل في ما بينها لبنات مترابطة، وحتى يكتسب المصطلح معنىاه الواضح والكامل في سياقه التربوي الإحساني غالبا ما يكون مركبا من كلمتين، على سبيل المثال نجد: السلوك الإحساني، التربية الإحسانية، العقبة الإحسانية، الشخصية الإحسانية، الهوية الإحسانية، العطفة الإحسانية، الإحسان العالمي، اليقظة القلبية، التوبة الانقلابية… في هذا الموضوع نقف عند ثلاثة مصطلحات لنرى معناها ونكتشف مغزاها، وهي: “الشخصية الإحسانية” و”الهوية الإحسانية” و”التربية الإحسانية”.
إنّ ممّا يسعى إليه السالك على طريق الإحسان في حياته على مستواه الفردي هو أن تكون له شخصية إيمانية إحسانية، وعلى مستوى انتمائه الجماعي هو أن تكون لأمته هوية إحسانية. هذه الشخصية الإيمانية الإحسانية الصابرة المُصْطَبِرةُ المثالية أَلْيَقُ شيء بمجتمع ملائكي أخويٍّ سماويٍّ منزه عن التدافع والتقاتل والتحاسد والتباغض الأرضية) 1 . بوجودها في الواقع وبحضورها الوازن في كل مكان تتحقق الهوية الإحسانية للأمة وعليها تتأسس، لا على الدم ولا العرق ولا اللون ولا اللغة. فإذا كانت الشخصية الإحسانية تُميّز صاحبها عن غيره بما تمتلك من صفات مثالية، فإن الهوية الإحسانية بها تتميز الأمة عن غيرها من الأمم، وهو تميز في العقيدة والخُلق والسلوك والاعتصام بأوامر الله عز وجل ونواهيه. وإن اكتساب الهوية الإحسانية الإيمانية الربانية هو الضمانة الوحيدة ليكون الله عز وجل معنا، ولتكون الدنيا وبروزُنا فيها وقوتنا وانتصارنا مَدْرَجةً لسعادة كل فرد منا في الآخرة، وليكون التقرب إلى الله عز وجل بالجهاد في سبيله ثمنا لمقعد الصدق الذي ينتظر المحسنين عند الله) 2 . فإذا كانت الهوية تتأسس على وجود الشخصية الإحسانية وتعددها، فإن تحققهما معا لا يتم إلا بناء على وجود التربية الإحسانية ونجاحها.
الشخصية الإحسانية
عندما يتحدث الإمام المجدد رحمه الله عن الشخصية الإحسانية فإنما يتحدث عن شخصية لها من الصفات ما يجعلها شخصية مثالية وفي نفس الوقت واقعية. شخصية تائبة إلى الله ويقظة، ذاكرة لله ومجاهدة، متوكلة على الله وصابرة، معتبرة بآيات الله الأنفسية والآفاقية، متفكرة وشاكرة. لكنها في نفس الوقت مع الآخر لينة ومبتسمة، متخلقة بالخلق الحسن وبشوشة. فهي شخصية متوازنة، شخصية مُتعلّقة بربها ومُتخلّقة مع غيرها، قلب متعلق بالسماء ويد تعمل في الأرض.
من خصائص هذه الشخصية الإحسانية أنها:
– شخصية تنبني أساسا بذكر الله وعلى ذكر الله. كل العبادات شرعت لذكر الله. كل الأعضاء الظاهرة والباطنة منتدبة لذكر الله. ذكر القلب، أعظمها، ثم ذكر اللسان، ثم ذكر الأعضاء عندما تتكيف بكيفيات الصلاة، أو تُمْسك نهارَ الصوم، أو تطوف وتسعى وتقف وترمي في نسك الحج 3 .
– شخصية متوازنة وعادلة ومعتدلة بين ضبط النفس وإنصاف الغير. إن كان ضبط النفس بلجامِ الشرع شرطا لرقِيِّ الإنسان في مراتب الإحسان فهو في نفس الوقت عطاء جانبي، يضْمنُ كفَّ الأذى عن الناس، ويضمن نهوض المؤمن لصدّ العدوان والظلم عن الغير، ويضمن إيصالَ النفع إليهم بدافع إحساني تَبَرَّأَ صاحبُه من الأنانية والشهوانية والغضبية 4 .
– شخصية حزينة لله على نفسها، باكية تائبةٌ راجعةٌ على الدوام إلى التفكر، لكنها بمقتضى الاعتدال الوارد في قوله تعالى من صفات الذين يحبهم سبحانه ويحبونه: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ 5 تلين للناس، وتبتسم، وتبشر، وتيسر، وتخالق الناس بالخلق الحسن، وتلقاهم بالبشاشة الدائمة 6 .
– شخصية يتألف بتعددها وتحزبها لله وتربيتها جسم مجاهد يجمع بين مقتضيات الدعوة والدولة وبين باعث القرآن ووازع السلطان 7 .
الهوية الإحسانية
عندما غابت الشخصية الإحسانية غابت معها الهوية الإحسانية. والتأكيد على السلوك الإحساني لبناء هذه الشخصية إنما جاء لإعادة هذه الهوية الضائعة، لأن الهوية لا يمكن أن تولد من فراغ أو في قارورة مختبر، بل تولد على أساس تربية إحسانية متينة وعميقة، هذه الهوية التي لا يزال الطريق إليها على بعض العقول غامضا كما يؤكد الإمام رحمه الله، يقول: وفي بحثنا عن الهوية الإحسانية الإيمانية الضائعة، بل الكامنة لا تزال، وإن أصبح منهاجها ووصفها والطريق إليها غامضا على العقول المغزُوَّة) 8 .
وفي طريق البحث عن الهوية الإحسانية، وفي إطار التخطيط لتربيتها من جهة، هناك من جهة أخرى همُّ ضرورة التعامل مع أصناف ديدان القراء. لأن الموقف يقتضي عدم الاستغناء عن أي مساهمة جادة وصادقة، وربما يتحول موقف “ديدان القراء” من مداهَنةٍ ومزايدة على الشعار الإسلامي إلى توبة وولاء حقيقيين إذا جدَّ الجد وظهرت النتائج العملية فحصْحَصَ الحق وزهق الباطل. إن الباطل كان زهوقا) 9 .
وقد جاء ذكر ديدان القراء في الحديث النبوي الشريف، عن سيدنا أنس أن مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يكون في آخر الزمان ديدان القراء. فمن أدرك ذلك الزمان فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وهم الأنتنون” 10 . عندما أورد الإمام رحمه الله هذا الحديث وقبل أن يستشهد به أو يعلّق عليه تعوّذ بالله من الشيطان الرجيم كما جاء في الحديث. ثم علّق عليه بقوله: من أحق الناس أن يُشبَّه بالديدان أحطِّ الكائنات: أهم علماء السوء، أم المتمشيخون المبتدعون، أم طبقة المغربين الذين لم يعُدْ أحد منهم يجسر على الطعن في الإسلام، بل يجزع المسيَّسون منهم ويحتجون على من يطعن في إسلاميتهم) 11 .
من خصائص الهوية الإحسانية:
– الإحسان العالمي: فإذا كان من علامة الإسلام سلامة الناس من أذى الناس، فإن من علامة الإيمان والإحسان الإحسان إلى جميع الناس والبرّ بهم.
– الإحسان العملي: الإتقان والدِّراية هو بمثابة الآلة الضرورية ضرورة حيوية للتصرف في تنظيم جهاز الدولة وتسيير الاقتصاد وتصنيع البلاد.
– إحسانية الإنتاج: على المستوى الفكري والعقلي تخريج “قراء” لهم حظ من الإحسان وإلمام وعلم بطب القلوب 12 .
التربية الإحسانية
قد نجد حديثا مستفاضا فيه عن التربية الإسلامية على المنابر وفي الكتب، وحديثا بشكل أقل عن التربية الإيمانية أيضا، ولكن لا نجد حديثا عن التربية الإحسانية إلا عند الإمام رحمه الله 13 ، لأن الحديث عن الإحسان أصبح غريبا. فإن كان البعض لا يكاد يفرق بين المفاهيم الثلاثة المكونة للدين بشكل دقيق كما رتبها حديث جبريل عليه السلام، كتاب الإحسان جعل كل مفهوم في درجته من السلم، وعلى ضوء ذلك الترتيب رتّب أنواع التربية وما تتوجه إليه من الإنسان وما تستهدفه منه. فإذا كانت التربية الإسلامية تستهدف من الإنسان الظاهر، فإن التربية الإيمانية والإحسانية تستهدف منه القلب لتغيره من القلب المريض والقاسي إلى القلب السليم، وتستهدف الروح لتحررها من سجن الأنا إلى رحاب المولى عز وجل، وتنقلها من سفاسف الأمور إلى معاليها.
التربية الإحسانية مهمتها أن تبرمج حياة الفرد المؤمن اليومية على السلوك الإحساني كما برمجتها الطبيعة والعادة على السلوك الاعتيادي. السلوك الاعتيادي اليومي من أكل وشرب وعمل ولعب ونوم يطبقه الفرد دونما تفكير وبشكل تلقائي، بينما السلوك الإحساني من قيام ودعاء وصلاة وذكر وتلاوة قرآن غائب لغياب التربية الإحسانية.
التربية الإحسانية تجعلك تابعا لإمام المحسنين صلى الله عليه وسلم ومتأسيا به تابعا لا متبوعا، يتقدمك لا تتقدمه. يقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله، واتقوا الله إن الله سميع عليم 14 .
التربية الإحسانية توقظ في داخل المؤمن وفي وعيه القدرة على تحديد مواطن الارتباط الغير السليم والعلاقة الغير الصحية بينه وبين الأشخاص والأفكار والأشياء، ثم تصحيح ذلك بما يتوافق والعلاقة مع الله تعالى. وكل هذا الإلحاح والتأكيد من الإمام المجدد رحمه الله على التربية الإيمانية الإحسانية إنما لترتقي بالعبد المؤمن من إسلام لا يتميز عن عامة الناس، إلى إيمان يتكامل بما يؤهل للجهاد، إلى إحسان يصدق فيه طلب وجه الله ورضاه. وكما للتربية الإيمانية أصول وشروط وقواعد، فكذلك للتربية الإحسانية أصول وشروط وقواعد.
فنجد من أصول هذه التربية تهذيب النفس وترويضها، فـإذا كان تهذيب النفس وترويضها على الزهد في الدنيا أصلا من أصول التربية الإيمانية الإحسانية وشرطا من شروطها في خاصة الفرد المؤمن الذي نفض يده من كل شيء ليتفرغ لطلب الله في رفقة محدودة بعيدا عن المجتمع، فإن مشروطيَّتها آكدُ، وتحقيقها أبعد منالا، في حق المؤمنين العاملين جماعة، القائمين جماعة، لإحقاق الحق وإظهار دين الله) 15 .
في حين نجد على رأس شروط هذه التربية الصدق، وهو “الركن الذاتي” والشرط الأول للسلوك 16 . فإذا كانت التربية الإيمانية تبتدئ معادلتها التربوية من شرط الصحبة والجماعة، فإن المعادلة التربوية في السلوك الإحساني تبتدئ من شرط الصدق. أسبقية شرط الصحبة الجماعة في التربية الإيمانية إنما لاحتضان الوارد، بينما أسبقية شرط الصدق في التربية الإحسانية فللانطلاق على طريق الإحسان في مرحلة جديدة من حياة المؤمن. في التربية الإيمانية الصدق ينافي النفاق بشعبه، وفي التربية الإحسانية هو طلب لوجه الله ونية وإرادة وسير. في الأولى يعتبر شرطا للجهاد، وفي الثانية شرطا للسلوك. في الأولى يفيد في السلم التنظيمي، بينما في الثانية يفيد في مقامات الإحسان. في الأولى يهتم الصدق بمصير الجماعة وتألقها وتمكينها، أما في الثانية فيهتم بمصير العبد نفسه عند الله، إذ لا يغنيه تألق الجماعة وتمكين الأمة إن لم يفز بالله تعالى.
خاتمــة
إن ما سطّره الإمام المجدد رحمه الله عن السلوك في كتاب الإحسان من كلمات، سطّره بعقله وقلبه وروحه ولحمه ودمه، قراءتها يسلّي القلب ويطرب الروح نعم، لكن إذا لم تصاحب تلك القراءة الإرادةُ والعزيمةُ والشوق والتطلع إلى مقامات الإحسان ستبقى الكلماتُ حبرا على ورق. فكلمة “ماء” لا تروي من العطش إذا لم تجرب الماء بين يديك مباشرة لتشربه، وكلمة “مطر” لا تبلل ثيابك إذا لم تجرب الوقوف مباشرة تحت المطر، وكذلك كلمة “سلوك” التي يكتب عنها الإمام رحمه الله، فهي لا تبلغك المقصود ولا تحقق لك الهدف المنشود إن لم تجرب السلوك عملا مباشرا في الواقع. نعم قد يكون التفكير العميق في الكلمة سببا لإحداث تحول على مستوى الفكر يربطك بمقام الإحسان، لكن التجربة الشخصية هي من توصلك إليه إن كانت ناجحة.
أن تتغير من إنسان عادي تقليدي إلى إنسان مؤمن محسن حرّ أبي، هذا ما يدعو إليه الإمام المجدد رحمه الله تعالى. فهل البشرية مستعدة لمثل هذا التغيير في مستواه الأعلى؟ إذاك سنتحدث عن الإحسان العالمي.
[2] نفس المرجع، ص: 449.\
[3] الإحسان، ج1، ص: 260.\
[4] الإحسان، ج2، ص: 367.\
[5] المائدة: 54.\
[6] الإحسان، ج1، ص: 316-317.\
[7] نفس المرجع، ص: 317.\
[8] الإحسان، ج2، ص: 482.\
[9] نفس المرجع، ص: 483.\
[10] رواه الحكيم الترمذي في “نوادر الأصول”.\
[11] الإحسان، ج2، ص: 484.\
[12] نفس المرجع والصفحة.\
[13] يكفي للتأكد من هذا كتابة “التربية الإحسانية” على google لترى النتيجة.\
[14] الحجرات: 1.\
[15] الإحسان، ج1، ص: 435.\
[16] نفس المرجع، ص: 348.\