السلوك الإحساني في فكر الإمام وسائل السلوك

Cover Image for السلوك الإحساني في فكر الإمام
وسائل السلوك
نشر بتاريخ

مقدمة

تختلف وسائل التربية على سلم الارتقاء والصعود الإيمانيين من درجة إلى درجة، فوسائل التربية الإسلامية هي ليست الوسائل الإيمانية، وهما ليستا الوسائل الإحسانية. ولكنها باعتبارها وسائل تربوية في الأساس فهي عبارة عن بناء من طبقات بحيث لا تبدأ الأخرى حتى تُستكمل التي دونها. فلا يمكن البناء فوق الفراغ ولا بالفراغ. أي أن التدرج في سلوك سبيل الإحسان الذي يمثله الإسلام هو البناء. والقيام بالفرائض الشرعية -بدءا بالصلاة- هي اللبنات والإسمنت) 1 . وعلى هذا فعندما تحدث الإمام المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله عن وسائل السلوك لم ينس التذكير والتركيز على ما دونها من الوسائل. يقول رحمه الله: بماذا يكون المسلمون مسلمين، والمؤمنون مؤمنين، والمحسنون محسنين؟ بالصلاة التي هي عماد الدين. والصلاة بدون طهارة حركات رياضية إن شئت، أو عبث واستهزاء بالدين) 2 .

تحدثنا عن السلوك الإحساني في المواضيع السابقة بأنه عمل أحب الأعمال إلى الله تعالى، وتحدثنا عن العقبة الإحسانية التي تقف دون السلوك وهي النفس الأمارة بالسوء، وتحدثنا أيضا على أن الإشراف على قمة العقبة هو ولادة روحية جديدة ووجود ثان للسالك المؤمن، وهذا كله يتم بصحبة المرشد الروحي الذي يأخذ بيد السالك ليقطع به الطريق ويتجاوز به العقبات. كيف يتم هذا عمليا؟ وأين يتم؟ ذلك ما تجيب عنه الوسائل التربوية الإحسانية.

فوسط جماعة المؤمنين لا يكاد المؤمن يميز بين الوسائل التربوية المتنوعة أيها إيمانية وأخرى إحسانية ما دامت مفتوحة أمامه، لكن بالنظر إلى أكثرها وقعا على النفوس استقامة وتزكية، وعلى القلوب إيمانا وإيقانا، وعلى الأرواح روحانية ونورانية، وبالنظر إلى ما لا تستسيغ النفس حضوره من مجالس، وما تكره تطبيقه من أعمال، سيتبين الفرق فيها، وسيتميز السالك من غيره. ولذلك نجد من خصائص التربية الإيمانية والإحسانية التدرج والتؤدة والتعهد. فهي وسائل كثيرة، لكن سأركز على ما أورده الإمام المرشد في كتاب الإحسان أو كانت له فيه رسائل وتذكير دائم وتوصيات. وهي المسجد، مجلس النصيحة، الأوراد، المحبة الإيمانية، ودعاء الرابطة.

المسجد

المسجد الشّاهد لمعتاديه وعمّاره بالإيمان هو المؤسسة الدعوية الأولى، بيت الله منه وفيه وإليه ينطلق الجهاد ويخطط ويأوي (…) حلقات التعليم ومجالس الإيمان في المساجد جزء لا يتجزأ من برامج تربية المؤمنين) 3 . فيه يكون اللقاء والموعد مع الله، وفيه كانت اللقاءات والمجالس الإيمانية وحلق الذكر على عهد رسول الله وصحابته. فلا يمكن الحديث عن أية وسيلة أخرى للسلوك الإحساني إن فرط السالك في هذه الوسيلة. يقول الإمام رحمه الله: ومن قواعد التطبيب والتربية الانخراط في سلك الجماعة بالمسجد) 4 . هذا شرط. إقبال كلي لا فضول فكري. ومن هنا يكتسب الوارد السائل المتفتح الصادق مزيدا من الإيمان بتطبيقه لحمية الطبيب وتناوله لحبات العلاج ومفرداته) 5 . وعندما يتحدث عن الصحابة وإيمانهم وجهادهم وسلوكهم يؤكد أنهم ما بلغوا ذلك المقام إلا لأنهم من المسجد تخرّجوا، وفيه تربوا وتعلموا، وفيه عقدوا العهد مع الله وتحملوا مسؤولية حمل الرسالة الدعوية للعالمين. وعندما يقول المسجد فإنه رحمه الله يقصد الصلاة في وقتها ومع الجماعة.

يقول الله تعالى: في بيوت أذن الله أن ترفع ويُذكر فيه اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار 6 . وكلمة “رجال” من الرجولة وهي من مقامات الإحسان. ويقول الله تعالى في حديث قدسي: “إن بيوتي في الأرض المساجد، وزوّاري فيها عمارها، فطوبى لمن تطهر في بيته ثم زارني في بيتي، فحقّ على المزور أن يكرم زائره”. وأعظم إكرام من الله لزائره أن تغشاه روحانية البيت ونورانيته، وهذا لا يكون إلا بالانخراط في المسجد بالتزاحم على الصفوف الأولى، وتعهّد الطهارة، وانتظار الصلاة، وخشوع القلب عند سماع الآذان، والإقبال على الذكر والتسبيح بالغدو والآصال.

مجلس النصيحة

عندما يرد الوارد على الجماعة أول ما تحتضنه فيه الجماعة المجالس الإيمانية، في بدايتها المجلس التربوي والمجلس التعليمي، حتى إذا عبّر عن صدقه بهجرته ونصرته تفتّحت له الأبواب إلى مجالس أخرى أكثر أثرا في التربية والتعليم كاللقاء الشهري التربوي، ثم الرباطات والاعتكافات التي تبتدئ بثلاثة أيام وتنتهي بالأربعين يوما. وينفرد مجلس النصيحة بأهميته التربوية الإحسانية في التعبير عن الصحبة المباشرة بالنيابة، وتتصدر مجلسه إشرافا قيادة تربوية لها في ذلك الكفاءة والأهلية، وينعقد في دورية أسبوعية فإن تعذر فشهرية على الأكثر. أدع الأستاذ منير الركراكي حفظه الله يعرفنا بهذا المجلس في كتابه “مجلس النصيحة”، فيقول: إنه مجلس ذكر ومذاكرة وفتح رباني، مجلس علم وحلم، مجلس تلاوة ومدارسة تحف أهله الملائكة، وتغشاهم الرحمة، وتنزل عليهم السكينة، ويذكرهم الله فيمن عنده.)جلس تجالس في الله، وتزاور فيه، وتحاب فيه، وتباذل فيه، وتناصح فيه، وتصاف فيه، وتواصل فيه. مجلس تعاون على البر والتقوى وطاعة لله الآمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، والناهي عن الفحشاء والمنكر والبغي. مجلس هو مأدبة الإحسان، فيه توزع الأرزاق المعنوية، وفيه يصبر المؤمن نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه. يتفقه ما به يعمل ويعلّم غيره، وما به يُنذر ويُحذر إذا رجع. مجلس هو بعض حضرات قضاء الحاجات العظمى عند الله. مجلس يعوض عن الصحبة بالمجالسة والمشافهة. مجلس يتطلب القلب الحي السليم المنعم عليه بالرحمة والعقل اليقظ الفطن المكرم بالحكمة، والجسد النظيف الخفيف المساعد على الخدمة، حتى يؤلف الله بمن توافرت فيهم هذه المحامد الصف المؤمن المجاهد، ليكون مرصوصا على الخير حريصا) 7 .

الحديث عن شروط تأسيس مجلس النصيحة، وعن البرنامج وعما ينبثق عنه من توصيات وتوجيهات، فذلك يغني فيه كتاب الأستاذ منير الركراكي، أما الحديث هنا فعن مجلس النصيحة باعتباره وسيلة من وسائل السلوك الإحساني التي تفتل في حبل صحبة ولي مرشد وإمام مجدد. بمعنى أن الذي يرشح نفسه للسلوك ويحدث نفسه بمقامات الإحسان وبطلب وجه الله تعالى ينبغي أن يكون حرصُه على حضور هذا المجلس من الأولويات الضرورية التي لا ينبغي الغياب عنها إلا لعذر قاهر. فإذا كان من شروط التربية الإحسانية الصحبة والجماعة والصدق والذكر، فإنها يجمعها مجلس النصيحة، وهذا مما يزيد من أهمية المجلس ويرفع من قيمته ومكانته التربوية الإيمانية الإحسانية.

وهذا الحرص في الحضور يرتبط بما ذكره الأستاذ منير حفظه الله في كتابه “مجلس النصيحة” من توصيات وتوجيهات قبل المجلس وأثناءه وبعده.

فقبل المجلس: الافتقار والاستمداد، الإعداد والاستعداد.

وأثناء المجلس: تطبيق مواد برنامج النصيحة وفيه: الختمة القرآنية، مدارسة آيات من كتاب الله، ذكر الله، الفقه، الاستغفار والنوم على أفضل العزائم، قيام الليل، الاستغفار بالأسحار، صلاة الصبح ودعاء الرابطة، قص الرؤى، قراءة في كتاب الإحسان، التسبيح، هموم واهتمامات تربوية وتوصيات عملية، ثم تقويم، وأخيرا ختم ودعاء.

ما بعد المجلس: الخروج بهمة رجال محسنين فكرا وشعورا وسلوكا وأخلاقا 8 .

ويتبع مجلس النصيحة أو يتفرع عنها مجالس تربوية أخرى لا تقل أهمية عنه، كما لا يمكن للسالك السلوك الإحساني الطالب وجه الله تعالى أن يستغني عنها بحال، منها على الخصوص الرباطات والاعتكافات.

ولأهمية مجلس النصيحة أيضا كانت الرسالة التاريخية من المرشد إلى القائمين عليه والحاضرين فيه يدعوهم فيها إلى تقديره وتوقيره لما يحمله من معاني الصحبة وما يتنزل فيه من عند الله تعالى من أرزاق 9 .

الأوراد والأذكار

في فقرة تحت عنوان “الأوراد وخصائص الأذكار” من كتاب الإحسان يعرفنا المرشد بحقيقة الأوراد فيقول رحمه الله: المداومة في أوقات معينة على أذكار معينة هي ما يسمى في اصطلاح القوم بالأوراد. والأوراد أوتادٌ راسية عليها يبني المؤمن خيمة الذكر في أرجاء وقته وعامة نشاطه وسُوَيْدَاءِ قلبه. الأوراد هي الطريق إلى الله عز وجل لا يستغني عنها مبتدئٌ ولا يزهد فيها واصل (…) الأوراد والمداومة عليها سنة. وهي بمثابة نَذْر يقطعه العبد الصادق على نفسه يجب عليه الوفاء به. لذلك حذر العلماء من الدخول في الأوراد بخِفَّة مخافة أن لا يفي العبد بما عاهد الله عليه منها (…) للذكر مَراقٍ، يترقى المريد من ذكر اللسان إلى ذكر القلب واللسان، ومن الوفاء بأوراد محدودة إلى الاستغراق ثم الاستهتار إن وفقه الله) 10 .

وفي بيانه للأذكار التي ينبغي أن يداوم عليها السالك ويتخذها أورادا يومية، يقول رحمه الله: من أعظم الأذكار فضلا، وأجلها قدرا، وأوفاها بمقصود المريدين المحبين المتقربين الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. هي شيخ من لا شيخ له. هي وسيلتنا إلى ربنا إذ هي ميثاق وفاء ومحبة، تلتقي صلاتنا عليه بصلاة الله عليه وصلاة ملائكته. فأي فضل أعظم من أن يكون موضوع صلاتنا مطابقا موافقا؟) 11 .

ويستشهد الإمام رحمه الله في الموضوع ببعض أقوال أهل السلوك نقتطف منها ما يلي: قيل للجنيد رحمه الله: نراك تحافظ على أورادك وأنت شيخ! فقال طريق وصلنا بها إلى الله لا نتركها. قال الإمام الغزالي: اعلم أن الناظرين بنور البصيرة علموا أن لا نجاة إلا في لقاء الله تعالى، وأنه لا سبيل إلى اللقاء إلا بأن يموت العبد محبا لله وعارفا بالله سبحانه، وأن المحبة والأُنس لا تحصل إلا من دوام ذكر المحبوب والمواظبة عليه، وأن المعرفة به لا تحصل إلا بدوام الفكر فيه وفي صفاته وفي أفعاله (…) وكل ذلك لا يتم إلا باستغراق أوقات الليل والنهار في وظائف الأذكار والأفكار).

قال ابن عطاء الله في حكمه: لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه، لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره. فعَسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يَقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور. ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور. وما ذلك على الله بعزيز).

قال الشيخ عبد القادر رحمه الله تعليقا على الآية: اذكروني أذكركم: اذكروني بالشوق والمحبة أذكركم بالوصل والقربة. اذكروني بالمجد والثناء أذكركم بالعطاء والجزاء. اذكروني بالتوبة أذكركم بغفران الحوْبة. اذكروني بالدعاء أذكركم بالعطاء. اذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال. اذكروني بلا غفلة أذكركم بلا مهلة. اذكروني بالندم أذكركم بالكرم. اذكروني بالمعذرة أذكركم بالمغفرة. اذكروني بالإيمان أذكركم بالجِنان. اذكروني بالقلب أذكركم بكشف الحجْب. اذكروني بصفاء السر أذكركم بخالص البِر. اذكروني بالصفو أذكركم بالعفو. اذكروني بالجُهد فِيَّ أذكركم بتمام النعمة).

لا يتسع المجال لذكر جميع ما قاله الإمام المرشد في موضوع الأوراد والذكر، لكن ما ينبغي فهمه من كل ذلك أن في محاضن التربية والعلم والإيمان، يتدرج العضو في الجماعة على تثبيت برنامج يوم المؤمن وليلته، من ذكر لله وتلاوة للقرآن وقيام لليل والصيام والنوافل وغيرها. حتى إذا واظب على ذلك وصار ديدنه وشغله الشاغل، وأدرك أن الدين إسلام وإيمان وإحسان وسلّم بطريق السلوك وصدق بوجود الولادة القلبية الثانية، انفتح أمامه باب السلوك وأقبل على الأوراد، والأوراد ليست شيئا آخر من غير يوم المؤمن وليلته، فقط الفارق هو شدة الإقبال والقيام بذلك عن حب وشغف. فالمحسنون الذاكرون لله عز وجل يحنون إلى ذكر مولاهم عز وجل كما تحن الطيور إلى أوكارها.

ومما يتمّ للسالك التركيز عليه في هذا الصدد بعد تثبيت يوم المؤمن وليلته:

ورد الذكر وفيه الاستغفار بالأسحار فهو من علامات المحسنين الذين يستغفرون بالأسحار (تجاوز 300 مرة)، ثم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الإكثار (تجاوز 300 مرة)، ثم قول لا إله إلا الله مع الاستهتار (تجاوز 3000 مرة).

ورد القرآن وهو تلاوة حزبين على الأقل يوميا مع قراءة السور والآيات الفاضلات، وتخصيص وقت لحفظ نصيب منه لمن فاته أن يحفظ القرآن على ظهر قلبه.

المحبة الإيمانية

من وسائل نجاح السالك في هذا الطريق المحبة الإيمانية، وهي محبة تجمع السالك بمرشده الروحي، وتجمعه بإخوانه المؤمنين في الطريق، وهذه المحبة روح الصحبة وأساسها. ف”ليست الصحبة تطبيقا مجردا للنصوص وامتثالا جافا عسكريا للأوامر، إنما هي محبة تثبت وترسخ وتنمو وتتجذر في القلوب بالملازمة والمخالطة والمعايشة والتلمذة حتى يملك حب المصحوب على الصاحب كيانه كله 12 . وما بلغ الصحابة رضي الله عنهم ما بلغوه من ذرى الإحسان إلا بتعلقهم الشديد بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة وتعظيما وتقديرا وتوقيرا وإجلالا. ذلك التعلق بالمصحوب هو من أيقظ إرادتهم وحركها لطلب المعالي وليس الخضوع لشخص آمر وناه. وحبه الشريف صلى الله عليه وسلم علامة على صدق المريد وجه الله في طلبه، وعَلَمٌ من أعلام النصر على طريق السلوك إلى الله) 13 . ومن هذا الحب لرسول الله المتسلسل عبر القلوب والأجيال بالصحبة والتلمذة يتعلق السالك بمصحوبه ومرشده الروحي بنفس المعاني الحبّية التي كانت عند الصحابة رضي الله عنهم ويجددها في طريق السلوك حتى يتشرّب ما يوقظ إرادته ويرفعه به إلى مصافّ الرجال المحسنين.

وباعتبار سلوكنا في الجماعة سلوكا جماعيا فإن التواصل القلبي الحبّي لا يقف عند المرشد الروحي وإنما يشمل جميع المؤمنين حتى يفيض رحمة على العالمين. ومن رُزق في الدنيا من المؤمنين تحابا خاصا عميقا كان له في الآخرة مكانة خاصة. يقول الله تعالى يوم القيامة:)“أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظِلُّهم تحت ظلِّي يوم لا ظل إلا ظلِّي” 14 . ومن أحب قوما حشر معهم) 15 .

دعاء الرابطة

أما من ولدت روحانيته وأنشأه الله عز وجل النشأة الثانية التي يكون بها الولي وليا فحديثه عن الميلاد الجديد، وعن أبوة شيخه، وعن سلسلة آبائه الروحيين حقيقة أقوى في عالم المعنى من النسب الطبيعي والانتسال الجسمي. وحتى إن شب الولي عن الطوق واتصل حبله بقرب الله عز ووجل وبروح رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا ينسى آباءه في الروح أبدا. وكيف ينسى الأحرار فضلَ من جعلهم الله رحمة ورحِما!) 16 . السالك كما تجمعه بآبائه الروحيين وإخوانه المؤمنين رابطة المحبة يجمعه بهم كذلك الدعاء بظهر الغيب. يقول الله تعالى: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم 17 . وما طلب الإمام المرشد رحمه الله يوما من إخوانه أكثر من أن يحبوه ويدعوا معه بظهر الغيب.

وانقل هنا كلاما للإمام المرشد أورده في المنهاج النبوي يبين فيه طريقة الدعاء وكيفيته فيقول رحمه الله: ينبغي لكل مؤمن والأفضل وقت السحر عندما ينزل ربنا عز وجل إلى السماء الدنيا يدعونا هل من تائب وسائل-أن يفتح دعاءه الرابط بالفاتحة، ثم يستغفر الله لذنبه، ويسأله لنفسه ووالديه وأهله وولده وذوي رحمه خير الدنيا والآخرة، ويصلي ويسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أنبياء الله ورسله. ثم على الخلفاء الراشدين والصحابة والأزواج والذرية. ثم على التابعين وصالحي الأمة وأئمتها. ثم يتلو معمما الدعاء: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا. ربنا إنك رؤوف رحيم. ثم على المؤمنين المجاهدين في عصرنا ويعرض على الله حوبتنا ويستفتح للمجاهدين. ثم يخصص بالدعاء من يربطه بهم رباط الجهاد ويذكر الأسماء. ثم يسأل الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم الرحمة والمغفرة والنصر وخير الدنيا والآخرة. ويتوجه في دعائه هذا لمستقبل الإسلام والخلافة والظهور على الأعداء. بهذا يستشعر المؤمن انتماء إلى الموكب النوراني موكب الإيمان والجهاد- من لدن آدم إلى يوم القيامة فيدخل في بركة أمة الخير التي تولاها الله. ويزداد صلة إيمانية ومحبة بمن يدعو لهم عن ظهر غيب من إخوته) 18 .

خاتمة

قد نجد بجانب هذه الوسائل وسائل أخرى وجودها يُكتسب اقتداء من الأحوال اليومية للمصحوب كالرياضة والحمية الغذائية التي تضعف النفس وتخفف من ثقل الجسم حتى يكون الوعاء المناسب للروح القوية. وهذا ما نقرأه عن بعض أهل السلوك المعاصرين كسعيد حوى وحسن البنا، ورأيناه وسمعناه عن المرشد عبد السلام ياسين رحمهم الله جميعا. وكذلك من الوسائل المهمة كثرة البذل والعطاء بلا حدود فإن ذلك يزكي النفس ويذهب عنها كثيرا من الشرور والطباع بدءا من بذل أبسط الأشياء التي قد لا يحتاجها السالك وهي تملأ عليه المكان.

إن من يسلك السلوك الإحساني سيجد ذاته أمام نفسه وجها لوجه، تنازعه في كل لحظة وحين، تصارعه راغبة في التحكم والسيطرة، مستعملة في ذلك جميع الوسائل والأساليب، ومستعينة بكل الخصوم والأعداء، حتى إذا استطاع السالك قهرها بالمرّة فضلا من الله ونعمة وتوفيقا، خضعت واستكانت فاستقرت حالته على الطريق. فيكون بذلك دخل جنة الدنيا في انتظار جنة الآخرة. تطيب له الحياة بذكر الله وبالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمجالسة أهل الله. الكون كله مسخر في خدمته، يوافقه القدر بعد أن وافق القدر، “فرب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّه”. وتأتيه الأرزاق المعنوية والمادية مددا من غير سؤال، ويفتح الله عليه بالحكم والأسرار والأنوار وحسن الأحوال. والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين 19 .

اللهم اجعلنا منهم ومعهم.


[1] ياسين عبد السلام، الإسلام والحداثة، ص: 244.\
[2] ياسين عبد السلام، محنة العقل المسلم، ص: 41.\
[3] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ص: 73.\
[4] محنة العقل المسلم، ص: 59.\
[5] نفس المرجع، ص: 53.\
[6] النور: 37.\
[7] الركراكي منير، مجلس النصيحة، ص: 21-22.\
[8] انظر الركراكي منير، مجلس النصيحة، ص: 32 فما بعدها.\
[9] للاطلاع على الرسالة في كتاب مجلس النصيحة، ص: 23-28.\
[10] ياسين عبد السلام، الإحسان، ج1، ص: 297-298.\
[11] نفس المرجع، ص: 300.\
[12] نفس المرجع، ص: 101.\
[13] نفس المرجع، ص: 187.\
[14] أخرجه مسلم ومالك في الموطإ عن أبي هريرة مرفوعا.\
[15] الإحسان، ج1، ص: 189.\
[16] ياسين عبد السلام، الإحسان، ج2، ص: 437.\
[17] الحشر: 10.\
[18] المنهاج النبوي، ص: 127.\
[19] العنكبوت: 69.\