السلوك الإحساني في فكر الإمام المرشد الروحي

Cover Image for السلوك الإحساني في فكر الإمام
المرشد الروحي
نشر بتاريخ

مقدمة

قبل أن أتطرق إلى موضوع المرشد الروحي أودّ أن أشير إلى نقط مهمة بخصوص موضوع الولادة الروحية، نقط أشار إليها الإمام المجدد رحمه الله في غير كتاب الإحسان، وهي:

– أن الولادة الروحية وسط جماعة المؤمنين عبارة عن تجربة روحية شخصية يكتشف بها العضو المؤمن السالك حقيقة وجود نفسه ووجود العالم من حوله، فإذا كانت الجماعة بمجالسها وصحبة ربانييها تنوّر وتدفع وتشجع وتأخذ باليد فإن تحديد المصير في نهاية المطاف يبقى من مسؤولية كل عضو فرد فيها.

– أن هذه التجربة لا يقوم مقامها الإخبار والوعظ ولا تكمن إلا مع الصحبة. وأول صفات الجيل الأول من هذه الأمة أنهم صحابة. وكان إيمانهم قويا بلغ درجة اليقين لأنهم صحبوا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وانكشف لهم ببركة محبته سرّ وجودهم ووجود العالم. فمتى توفرت الصحبة الصادقة مع وجود طالب صادق راغب صارت التجربةُ الشخصية تجربة علمية تتحدى الجاهلية الكافرة بما وراء الحس المفتونة بالظواهر، وترفع صاحبها من إسلامه الظاهر إلى مقام الإيمان وحلاوته إلى مراتب الإحسان.

– أن الانبعاث الإسلامي يتوقف على مثل هذه التجربة الشخصية، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم 1 .

– وأن هذه التجربة الشخصية الروحية تتيح للسالك اللقاء بالغيب، لكن (وهذه نقطة مهمة) كل لقاء بالغيب لا يرد الإنسان إلى العمل الصالح والإخلاص فيه مع الصواب، وإلى السعي الدائب لنصر الله ورسوله فهو مضيعة للوقت وتفويت لفرص النجاح 2 .

في حياتنا اليومية والعادية يمكن لأي واحد منا أن يتغلب على الصعوبات ويطاوع الظروف المعيشية اعتمادا على نفسه، ولكن أن يتخصص في عمل معين أو يحصل على شهادة أو يحترف في مهنة فذلك لا يمكن إلا بالاعتماد على معلم متمكن بارع يُشرف على ذلك. هذا في الأمور الدنيوية المنطق والعادة والعلم يفرض ذلك، فكيف في الأمور الدينية والأخروية وخاصة في مجال الإحسان والسلوك والتربية، فإنه من الأولى والأجدر أن يكون هناك المعلم والمربي والمرشد. فإذا سلمنا بضرورة المرشد الروحي في الأمور الدينية كما في الأمور الدنيوية، فإنه في السلوك الإحساني وما يعترضه من عقبة إحسانية وعرة وخطرة، وما يعقب ذلك من ولادة جديدة تنتظر التعهد والتربية، يقتضي كل هذا وجود مرشد روحي له من المواصفات ما يرفعه إلى مستوى الوراثة النبوية الكاملة.

يختلف المرشدون والعارفون بالله والشيوخ من حيث المراتب والمواصفات، فمنهم أهل السلوك ومنهم أهل التبرك، ومنهم من يجمعك على الله مع القعود ومنهم من يجمعك على الله مع الجهاد، ويختلفون حسب الظرفية التاريخية، فلزمان الصبر وسلوك المجاهدة شيوخ، ولزمان النعم وسلوك الشكر شيوخ، ويختلفون ما بين شيوخ للزوايا وبين مرشدين للجماعات، ويبقى زمان الخلافة على منهاج النبوة الثانية في موعد مع العارف بالله الكامل، ومع إمام مجدد يجدد الله به الإيمان في القلوب ويجدد به الدين للأمة.

البحث عن الدليل

كان مما عهدنا أن نسمعه من الإمام المرشد رحمه الله أو نقرأه في كتاباته الحديث النبوي الشريف “المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل” 3 . وهو من الأحاديث التي حفظناها بسهولة من كثرة سماعها وترديدها، لم يكن هذا الاهتمام منه رحمه الله بهذا الحديث عبثا وإنما ليؤكد على أمر مهم في الدين، وهو أن الارتقاء في مراتب الدين ومعارجه من إسلام لإيمان لإحسان لا بد له من دليل يأخذ باليد ويؤنس في الطريق ويعين على اقتحام العقبات ويربّي ويعلّم ويتعهد ويرعى نبتة الكائن الروحي. فإن كان الدليل والمرشد في مرتبة الإسلام والإيمان لا يصل في أذهان الناس إلى مستوى الضرورة الملحة لاعتمادهم أكثر على عمل الجوارح من عبادات ومعاملات وأخلاق، فإن وجود الدليل في مرتبة الإحسان الذي يعتمد على عمل القلب بالدرجة الأولى من إخلاص ونية وحب، بات من الضروري إن لم نقل من الواجب، ومما وقع عليه الإجماع عند أهل السلوك والتربية. يقول الإمام رحمه الله تعالى: الإسلام ارتقاء لا يرضى بالقرار في مقام معين. يبدأ بمنزلة القيام بالشعائر والواجبات التي يحددها الشرع لكل مسلم، ثم ينتقل إلى مقام الإيمان حيث تلازم الاستقامةُ العبادةَ. ليرتقي إلى مقام الإحسان الذي يفتح الباب ليلج بالغُه فضاء الرحلة الروحية الكبرى. في هذه المرحلة يحتاج المسلم إلى مرشد روحي لأن السبيل طويل مليء بالعقبات. لا بد من مرشد روحي، من ولي يرعى نبتة الكائن الروحي إلى أن يتجذر غرسها ويقوى عودها) 4 .

والدليل والمرشد والأب الروحي والعارف في اصطلاح القوم هو الشيخ، واعلم أن الشيخ الكامل أب لروحك إن عثرت عليه وأحببته وصحبته وكان لك عنده وديعة سبقت إليك بها الحسنى من المنعم المتفضل الوهاب سبحانه) 5 .

يتساءل الناس ممن ليس لهم خبر بالسلوك وبالطريق الصاعدة، أو ممن لهم خبر بذلك ولكنهم لا يرون في وجود المرشد الروحي من ضرورة: هل سلوك الطريق إلى الله لا بد له من صحبة ولي مرشد (شيخ عارف بالله)؟

يجيبه أهل السلوك والإحسان: أن سلوك الطريق إلى الله تعالى لا بد له من صحبة ولي مرشد عارف بالله، وأن من لا شيخ له لا يشم رائحة السلوك. في حالة واحدة فقط يمكن السلوك من غير شيخ وهي حالة الجذب الإلهي، بمعنى أن الله تعالى هو من يجذب إليه عبده إلى حضرته فضلا منه سبحانه ونعمة.

ويتساءل آخرون: من نصحب من الأولياء في السلوك الأحياء أم الأموات؟

يجيب أهل السلوك والتربية: أن الأموات من الأولياء نعترف لهم بالولاية نعم، ونعترف باختصاص الله بفضله من يشاء منهم، ونحبهم وندعو لهم، لكن السلوك والتربية لا تتأتى إلا بصحبة الأحياء من أهل الله تعالى. والموتى بهذا المعنى لا يصحبون لأن الصحبة تلمذة ومخالطة ومخاللة. وأما الأولياء الأحياء فيصحب منهم ولي واحد والاقتصار عليه شرط في طريق السلوك، أما صحبة غيره فيكون بإذنه.

ويتساءل الكل: وأين نجد هذا العارف بالله حتى نصحبه؟ ما صفاته؟

يجيب أهل السلوك والتربية: أن الأمر يتوقف ابتداء على صدق الطالب السالك، صدق النية والرغبة، صدق الطلب والتوجه. ثم على الدعاء في السّحَر أن ييسر الله للسالك من يدله على الله ويسلك به الطريق ويبكي على الله ويتضرع يا رب من أصحب؟ يا رب دلني على من يدلني عليك. ذلك أن رتبة المشيخة الإحسانية الحقيقية عالية نادرة عزيزة الوجود. في هذا المجال يوصي المرشد السالك من المؤمنين بثلاث طرائق للنظر والبحث فيمن نخالل ونصحب وهي:

1. أن نعتمد على موازيننا المسكينة ونزن بها من يُشار بصحبته. وربما لتصورنا المسبق عن الشيخ أنه أشبه ما يكون بالملائكة يكون العائق الأكبر عن الحصول على المراد.

2. أن نجرب ثم نجرب حتى نعرف من أنفسنا أننا عثرنا على من نصحبه. وهذا يتطلب منا وقتا كبيرا قد يستنفذ عمرنا كله ولا نحصل على شيء، لأننا لا نستطيع أن نميز بين واعظ صادق يدفعنا إلى توبة عن المعاصي وعارف وارث يحلق بنا في سماء طلب وجه الله تعالى.

3. أن ندع الاعتماد على غير الله، ونقف على باب الملك الوهاب الهادي، نستخيره ونستعينه أن يلهم قلبنا الرشد، ويفتح لنا الأبواب، ويضيء لنا الطريق، فهو كريم سبحانه لا يخيّب ظنّ عبده. ومن علامات صدق الطلب إدامة الوقوف والتوسل والتضرع والاستغفار والاستخارة بباب الملك الوهاب 6 .

الوراثة القلبية أساس السلوك

منذ زمن بعيد كنا شغوفين بقراءة كتب الإمام سيد قطب رحمه الله، وعلى رأسها كتاب “معالم في الطريق”، في هذا الكتاب أتذكر سؤالا للإمام الشهيد بعد أن استوقفته ظاهرة واضحة واقعة في التاريخ وهي وجود جيل قرآني فريد لم يتكرر، نعم وجد أفراد متفرقون على مدار التاريخ، لكن بذلك التجمع وبذلك التنظيم لم يحدث أن تكرر منذئذ. يتساءل الإمام الشهيد رحمه الله قائلا: لم يغب إلا شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل هذا هو السر؟) 7 .

فلا يشكّ أحد في كون وجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم هو السرّ، بل هو سرّ أعظم. لكن ما يؤكده الإمام المرشد ويؤكده أهل السلوك والتربية أن هذا السرّ لم ينقطع، بل استودعه رسول الله صلى الله عليه وسلم قلوب من اتبعه من أصحابه، وأصحابُه استودعوه قلوب التابعين رضي الله عن الجميع، وهكذا بقيت الوراثة القلبية والتحاب في الله بين المؤمنين جوهر الدين ولبّه، وبقيت سنة الله في التابع والمتبوع قائمة وستظل إلى يوم القيامة (…) تابع ومتبوع بإسناد قلبي متصل إلى يوم القيامة) 8 .

عندما نتتبع حديث المرشد عن السلوك وأهل السلوك نجده قد تحدث عن أنواع من السلوك حسب ما تفرضه المرحلة التاريخية من ظروف، ولكل نوع من السلوك شيوخه ومربيه. ففي زمن النبوة والخلافة الراشدة كان السلوك الإحساني سلوكا كاملا لا ينفك عن الجهاد والهجرة والنصرة وتدبير أمر الجماعة والأمة، كان حضور المصحوب صلى الله عليه وسلم حضورا أضاء كل شيء، وبعده جاء الخلفاء الراشدون هم أيضا رضي الله عنهم أدوا نفس وظيفة الحضور والشهادة بين الناس والهداية والدلالة. ثم بعد الصحابة رضوان الله عليهم هبّت عواصف من الفتن انطفأت بها كوانين القلوب ومجامرها. فكان أول سلوك ظهر هو سلوك المجاهدة ورياضة النفوس، يتزعمها شيوخ ومرشدون لهم خبرة بالعلل ولهم بركة وقدوة. بعد ذلك أظهر الله كبار المشايخ مثل الجيلاني والرفاعي والشاذلي الذين أسسوا لسلوك جديد عن طريق الشكر. والفرق بينهما أن المجاهدة مُكَابَدَةٌ وصبر وصمت وعزلة وصوم وذكر وهم في الخلوات، حتى كان من المشايخ من يمنع مريده من مخالطة أحدٍ عدا شيخه. وطريق الشكر أيسر وأقرب، للشيخ و”مغناطيسيته” وبركته فيها الغناء الأول. ونرجو من كرم من له الفضل والمنة والرحمة سبحانه أن يتصل مدد السالكين فيما يستقبلنا من زمان بحضرة النبوة فيكون السلوك جهاديا عفويا جامعا مانعا رائعا كما كان في عهد الصحابة وهم في حضن خير البرية صلى الله عليه وسلم) 9 .

العارف بالله الكامل

الآن وعلى مستوى فقه التجديد والخلافة على منهاج النبوة حيث توجد الصحبة والجماعة (الصحبة في الجماعة)، وتوجد التربية والتنظيم، وتوجد الدعوة والدولة، ويوجد أفراد مؤمنون ومؤمنات يصدقون بخبر السلوك، ويتوقون إلى السلوك، ويرجون الكمال والقرب من الله، كيف يتم لهم هذا السلوك الإحساني وتتمّ لهم صحبة العارف بالله؟.

بمثل هذا السؤال وغيره افتتح المرشد فقرة “شعب الإيمان” من فصل “الصحبة والجماعة”، فأجاب عنه بقوله: الوصلة الصحيحة بين الصحبة والجماعة قيادة ربّانية واحدة. فإن ارتفع مستوى الفقه الديني للجماعة حتى تعرف أن الدين إسلام وإيمان وإحسان، وحتى تعرف، ولو بالتسليم والتصديق، معنى المعرفة والكمال والسلوك والولادة القلبية والوجود الثاني والنشأة الأخرى التي يعجلها المولى الكريم لمن شاء من أحبابه، فعندئذ يكون العارف بالله الكاملُ هو الشخص الأمثل لقيادة الركب. قد يكون هذا العارف قاصرا في مظهر ما من مظاهر الكفاءة، كأن يكون غيره أفصح منه لسانا، أو أصح منه بنية، أو أقدر على المعاناة الطويلة لمسائل الجماعة وجزئيات تنظيمها. لكن العارف الكامل معه رأس الأمر كله كما يعبر الشيخ الرفاعي، معه نور الكشف وروح العلم وتوفيق الله عز وجل. فكيف يستغني حزب الله، يوم يرتفع مستوى فهمهم لدينهم، عن قيادة البصير ليقلدوا أمرهم عُشْواناً أو عُميانا!) 10 .

ولما كانت تطلعات الإمام المرشد رحمه الله لا تقف عند حدود الجماعة والدولة، بل تطال الأمة والعالم أيضا ما فتئ يدعو وينادي أولياء الله العارفين بالله للسعي نحو توحيد الجماعات، فتوحيد الجهود، فتوحيد الأمة. يقول رحمه الله تعالى: في انتظار أن يكون لِقِرانِ الصحبة والجماعة معنى موصولٌ موحَّدٌ من حياة العاملين ننادي أولياء الله العارفين بالله أن يتوجهوا بجند الله من صادقي المريدين وعامة المسترشدين نحو توحيد الجماعات، فتوحيد الجهد، فتوحيد الأمة في أقطارها ومذاهبها ومدارسها ومشاربها، حتى يكون المشربُ محمديا قرآنيا سُنيا محرَّرا من كل عالقات عصور الانزواء والخمول والانكماش) 11 .

ولما كان الفتح والنصر والتوفيق والـتأييد من الله عز وجل، لا يفوته رحمه الله أن يربطنا بالخالق سبحانه دعاء وتوكلا واعتمادا وتضرعا: نسأله عزت قدرته أن يُلهم من بَعْدَنَا من أحبابه العارفين به وسيلة الجمع، وأن يعطيهم القدرة على سلوك الطريق إليه بهذه الأجيال على منهاج النبوة دعوةً ودولةً) 12 .

خاتمة

أما بعد فقد أكرمنا الله سبحانه وتعالى بصحبة مرشد روحي مجدد رحمه الله وجماعة مؤمنة مجاهدة فللّه المنة والفضل، وبهذا يكون الشرط الأول من شروط السلوك قد تحقق، ويبقى في ذمة السالك تحقيق شرط صدق الطلب والوفاء، وشرط الإقبال على الذكر بمعناه الواسع والشامل الذي يغطي كل حركة وسكنة من حياته. بهذه البساطة، بساطة اللقاء والصحبة والجماعة والذكر تجدد لقوم إيمانهم فتجدد للأمة دينها، وانفتحت أمامهم سبل الخير والصلاح، والنصر والفلاح.

أجزم أنه من الصعب بمكان أن نحيط بما سطّره الإمام المرشد في موضوع مهم مثل موضوع السلوك، وحتى في غيره من المواضيع، ولذلك ما نكتبه هو فقط إشارات قد تختصر المعنى وقد تحيل على المصدر. المهم في كل هذا أن نلفت انتباه بعضنا البعض إلى وجود غاية عالية وهي طلب وجه الله تعالى، علينا أن نطلبها ونسلك الطريق إليها فرادى نعم ولكن بتعاون جماعي، إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص 13 . يقاتلون العدو، وأعدى الأعداء النفس والشيطان.

هنا يكون الجانب النظري من موضوع السلوك قد انتهى، في موضوع قادم سيكون الجانب العملي بالحديث عن وسائل السلوك الإحساني إن شاء الله تعالى.


[1] الرعد: 12.\
[2] يُنظر الإسلام بين الدعوة والدولة، فقرة “التجربة الشخصية”.\
[3] أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه.\
[4] الإسلام والحداثة، ص: 243-244.\
[5] الإحسان ج1، ص: 225.\
[6] نفس المرجع، ص:219-220.\
[7] سيد قطب، معالم في الطريق، ص: 14.\
[8] الإحسان ج1، ص:196-197.\
[9] نفس المرجع، ص: 214.\
[10] نفس المرجع، ص: 250.\
[11] نفس المرجع، ص: 251.\
[12] نفس المرجع، ص: 244.\
[13] الصف: 4.\