الرد الإيراني يعيد رسم معادلات الردع: ورطة الكيان الصــهـيوني، وسيناريوهات الأيام القادمة

Cover Image for الرد الإيراني يعيد رسم معادلات الردع: ورطة الكيان الصــهـيوني، وسيناريوهات الأيام القادمة
نشر بتاريخ

في تطور غير مسبوق على صعيد الصراع الإقليمي، وجهت إيران ضربة صاروخية عنيفة للكيان الإسـرائيلي تجاوزت حدود الردود التقليدية، وذلك بعد هجوم مفاجئ ودام نفذه الكيان الصـهـيوني داخل الأراضي الإيرانية، وأسفر عن استشهاد نحو 20 قائدا عسكريا بارزا.

هذا التصعيد المتبادل بين قوتين إقليميتين كبيرتين أعاد رسم المشهد العسكري والسياسي في المنطقة المحيطة بفلسطين المحتلة، وطرح أسئلة جدية عن مستقبل المنطقة، واتجاهات الأيام القادمة:

أولا: الهجوم الإسـرائيلي والرد الإيراني – توازن الرعب الجديد

1- بدأت الجولة الأخيرة من التصعيد بهجوم إسـرائيلي مباغت استهدف قيادات عسكرية إيرانية؛ الضربة كانت دقيقة ومركزة، وأوقعت خسائر بشرية كبيرة، وهو ما اعتبر اختراقا استخباراتيا خطيرا.

2- رد إيراني غير مسبوق: لم تمضِ سوى ساعات حتى جاء الرد الإيراني مدويا، عبر إطلاق أكثر من 200 صاروخ وعشرات المسيّرات، استهدفت مواقع عسكرية حساسة داخل الأراضي المحتلة، مخترقة الدفاعات الإسـرائيلية، ومحدثة دمارا وخللا كبيرا.

3- كسر قواعد الاشتباك التقليدية: لم يأتِ الرد عبر “الوكلاء” كما اعتادت طهران، بل بشكل مباشر من داخل إيران، وهو ما وضع الكيان الغاصب أمام واقع جديد غير مألوف، وأظهر تغيرا نوعيا في معادلات الردع.

4- إرباك المنظومة الإسرائيلية: الهجوم الإيراني فاق قدرات “القبة الحديدية”، وأثبت هشاشة الجبهة الداخلية الإسرائيلية في مواجهة هجمات ضخمة ومنسقة.

5- تحول في ميزان القوة: الرد الإيراني أنتج توازنا في ميزان “الردع والرعب”، وأرسل رسالة واضحة مفادها أن أي اعتداء مباشر على إيران لن يمر دون عقاب مؤلم.

6- الردع المتبادل يفرض نفسه: كلا الطرفين بات يتحرك ضمن معادلة “الرد على الرد”، مما يعني أن الحرب -إن استمرت- ستكون باهظة الكلفة وغير مضمونة النتائج.

ثانيا: التداعيات الاستراتيجية الأولية: الكيان الصـهــيوني في مأزق متعدد الأبعاد

7- انهيار عنصر المفاجأة: ردّ إيران السريع أفقد الكيان الإسرائيلي نشوة النصر الأولى وميزة المبادرة التي كانت تراهن عليها لردع إيران عبر “ضربات نوعية”.

8- إحراج أمريكي: حليفتها الكبرى، الإدارة الأمريكية، وجدت نفسها في وضع حرج، فأي دعم غير محدود لتل أبيب قد يجر المنطقة لحرب لا تريدها إدارة ترامب التي تراهن على تهدئة المنطقة من أجل مزيد من الابتزاز الاقتصادي.

9- أزمة داخلية متفاقمة: حكومة العدو تواجه تحديات سياسية وأمنية واقتصادية، والجبهة الداخلية متوترة تحت وقع الخوف، وانعدام الثقة.

10- تراجع الهيبة العسكرية: الهجوم الإيراني كشف أن الكيان الصـهـيوني لم يعد محصنا، لا استخباراتيا ولا عسكريا، مما يفتح الباب لخصومها لإعادة تقييم سياساتهم.

11- نقطة تحول لمحور المـقـاومة: ارتفاع معنويات قوى المـقاومة الإقليمية، خصوصا حــزب الله، وتأكيد قدرة إيران على المواجهة المباشرة، الأمر الذي قد يمهد لتوسع الجبهات إذا استمرت الحرب.

ثالثا: سيناريوهات الأيام القادمة: إلى أين تتجه الأمور؟

السيناريو الأول: التهدئة في غضون اليومين القادمين أو خلال أسبوع على أبعد تقدير:

لاشك أن الكيان الإســرائيلي قد أخطأ في تقديرات وحسابات الرد الإيراني واطمأن أكثر لترسانة مضادات الصواريخ، خصوصا المنظومة الأمريكية الأخيرة والأكثر تطورا عالميا على الإطلاق، وهي منظومة “ثاد” وهي بالمناسبة الطبقة الرابعة من هذه المنظومات التي لم تستطع صد كل الصواريخ الإيرانية. صحيح أنها صدت عددا كبيرا قد يتجاوز النصف، لكن سقوط نصف العدد أو حتى ربعه يشكل كابوسا حقيقيا للصــــهــاينة، خصوصا مع حمل الصواريخ لرؤوس قد يصل وزنها إلى 600 كيلو غرام وأكثر.

هذا المعطى وما صاحبه من تدمير، والذي قد يستمر للساعات القادمة إذا استمرت الحرب، يرعب الكيان وقادته كما يرعب المستوطن الصـــهيـوني الذي لا يستطيع التحمل، عكس الإنسان الإيراني وحتى المسؤول السياسي والعسكري الإيراني الذين يتمتعون بصبر طويل مهما استمرت الحرب، وهذه بالمناسبة ميزة الإنسان المسلم في مواجهة الصعاب الكبيرة، عكس الصــهــاينة كما أسلفت.

لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ سورة الحشر 13 و14.

إذن الأمر قد يصير إلى:

توقف الجانبين عن الضربات المباشرة، بتدخل جهات وسيطة، خصوصا تركيا وبعض دول الخليج، منها قطر، وربما أطراف أوروبية أيضا (ألمانيا مثلا وحتى روسيا..)، مع استمرار التصعيد السياسي والإعلامي، والغرض تفادي انفجار شامل للمنطقة.

السيناريو الثاني: تصعيد تدريجي نحو مواجهة أوسع

قد يستمر الوضع بضربات انتقائية إضافية، خاصة من قبل الكيان الإســرائيلي، وردود إيرانية على شاكلة ما وقع أمس.

الأمر الذي ينذر، إن استمر، بمواجهة مفتوحة على جبهات أخرى أيضا (لبنان، العراق، والحوثيون كذلك)، دون الوصول إلى حرب شاملة.

السيناريو الثالث: الانفجار الكبير – حرب إقليمية شاملة

هذا الاحتمال ضعيف حاليا، لكنه وارد مع كل تصعيد مفاجئ وغير محسوب من الطرفين.

قد يعمد الكيان الإسـرائيلي إلى توسيع العدوان بشكل كبير، الأمر الذي يستدعي ردا شاملا من إيران، وانخراط حزب الله وقوى عراقية، وربما تدخل أمريكي بشكل أو بآخر.

والنتيجة حرب إقليمية واسعة تغير خارطة النفوذ في المنطقة، وتؤدي إلى خسائر اقتصادية وعسكرية جسيمة، لا يمكن التكهن بمآلاتها على الجميع، بما في ذلك الكيان الصــهـيوني نفسه.

وخلاصة القول أن هذه المغامرة الصــهــيونية أرست معادلة جديدة، جعلت الكيان في ورطة حقيقية. وأعطت إيران يقظة استراتيجية نوعية، رغم الأثمان الباهظة التي قدمتها، خصوصا من رجالاتها العلمية والعسكرية.

إن الرد الإيراني لم يكن مجرد ثأر لقياداته، بل مثّل إعلانا صريحا بأن إيران أصبحت قوة عسكرية قادرة على فرض توازن ردع مباشر مع الكيان الإسـرائيلي.

وعلى إيران، التي لا ينكر أحد دعمها المهم للمقاومـة، أن تستخلص الدرس العميق من التاريخ القريب وتعلم أن وضعها الطبيعي وسط الأمة جميعا، بشكل منصف ومقدر لخيارات شعوبها، وأنه لا ينفع للأمة إلا الحرص على الوحدة والتعاون بعيدا عن كل أشكال الهيمنة من أي طرف كان وسطها …

وفي المقابل، يجد الكيان نفسه في موقع دفاعي لم يعهده من قبل، وسط أزمة داخلية، وعزلة دولية متزايدة، وتآكل في قدرته على المبادرة دون أن يحقق النصر الاستراتيجي الذي كان يحلم به.

وهذه أيضا عبرة مهمة للحكام المطبعين الذي سارعوا إلى التحالف مع العدو الصــهيـوني بشكل سري أو مكشوف ودعمه بطرق مختلفة في حرب الإبادة على غــزة، ليعلموا أن هذا الكيان ذو طبيعة توسعية، وأنه كيان يقاتل بعصا غيره، ويستمد قوته من ضعف الأمة وتشرذمها وفقدانها البوصلة الحقيقية نحو العزة والكرامة.

أمام هذه المعادلة الجديدة، فإن المنطقة تقف على حافة مفترق خطير: إما تهدئة توقف دوامة النار على جميع الجبهات، أو انزلاق متدرّج نحو صراع كبير قد يعيد رسم خرائط المنطقة من جديد.

هذه المواجهة المباشرة بين إيران والكيان الصــهــيوني تعد دعما معنويا قويا للمـقـاومة الفلسطينية، إذ تُظهر أن معركتها ليست معزولة وأن هناك دعمًا استراتيجياً من حلفاء إقليميين بشكل مباشر أو غير مباشر.

كما أن مثل هذه المواجهات قد تعزز من حالة الصمود والمـقـاومة داخل غــزة، وتزيد من زخم التأييد الشعبي في العالم العربي والإسلامي.

كما أن نتائج الحرب قد تدفع بعض الدول إلى إعادة حساباتها، خصوصا تلك التي كانت تدعم الكيان بشكل غير مباشر أو بالصمت غير المقبول عن جرائمه، مما قد يخفف الضغط الدولي عن غـزة.

كما أن تزايد التوتر وتعادل موازين القوى بين الكيان وإيران، وتبدد وهم تسجيل الكيان تفوقا واضحا، كل ذلك قد يفرض ضغوطا على الإدارة الأمريكية، قصد احتواء التصعيد. على اعتبار أن قوة الردع التي كانت عند الأمريكيين في المنطقة (بين 2003 و2011 بعد غزو العراق..) قد تراجعت، وهي على سنوات قليلة من تجربة مريرة في أفغانستان عندما خرجت مهزومة أمام حركة طالبان بعد 20 سنة من المواجهة.

وإذا اتسع نطاق المواجهة وبدأ يهدد مصالح دولية (مثل أمن الملاحة أو أسعار الطاقة)، فقد تضغط قوى كبرى على الكيان لإنهاء الحرب في غـزة من أجل تفادي انفجار إقليمي شامل.

هذا الضغط يمكن أن يؤدي إلى تهدئة في غزة أو إلى فرض حلول سياسية ولو مؤقتة قد تصب في مصلحة استقرار الوضع في القطاع.

لكن لا بد من الإشارة إلى أن هذه “الإيجابيات” المحتملة تأتي في إطار معقد وخطير، وقد تكون لها أيضًا تداعيات سلبية على غزة في حال تصاعدت الحرب إلى مواجهة إقليمية شاملة، مثل تشديد الحصار، وزيادة الغارات، أو استخدام غـزة كورقة ضغط من قبل الأطراف المتحاربة. كما أن هذا الكيان المأزوم عندما يخرج خاسرا من هذه الجولة قد يرجع ليصب حقده من جديد على غــزة.

ولله الأمر من قبل ومن بعد.

فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ المائدة 52. صدق الله العظيم. والحمد لله رب العالمين.