الرباط: الوسيلة الأفضل لبلوغ الغاية الأكمل

Cover Image for الرباط: الوسيلة الأفضل لبلوغ الغاية الأكمل
نشر بتاريخ

تقديم

ما أشد حاجة الإنسان المؤمن في هذا الزمن المتسارع المضطرب، إلى لحظة صدق مع نفسه، يخلد فيها إلى عزلة تربوية مقصودة، ينقطع بها عن ضوضاء الحياة وصخبها، ليصل ما انقطع من الصلة بمولاه، ويجدد العهد مع ربه، في صحبة الذاكرين، المجاهدين، الصادقين في طلب وجه الله القائمين لله ورسوله. إن لحظات الخلوة والتفرغ، في مواسم ربانية مخصوصة، هي بمثابة محطات يتزود فيها السائر إلى الله بما يقويه ويثبته، ويصحح بها مسار قلبه وبوصلة روحه.

إن الرباط، بهذا المعنى التربوي العميق، ليس مجرد اعتكاف جسدي أو انزواء وقتي، بل هو مقام من مقامات التربية الإيمانية، يُربّي فيه المرء نفسه على المراقبة والمحاسبة والمجاهدة، ويجتهد في أن يغور في أعماق قلبه ليكتشف مكامن الغفلة، ويزيل ما تراكم من الران والظلمة، وما أشد صعوبة هذه المجاهدة في زمن غلبت فيه المادة، واستحكم فيه التشتت، وأطبقت فيه الفتن على القلوب من كل حدب وصوب!

قلما يجد الإنسان، في ظل هذه الظروف، فرصة يسأل فيها نفسه بصدق: من أنا؟ إلى أين أسير؟ ما وجهتي؟ ومن ربي؟ وإذا وجد تلك الفرصة، فإنها لا تُثمِر إلا في سياق تربية جماعية تعينه على التوبة والرجوع، وتوفر له مناخا روحيا وإيمانيا يوقظ ما سكن من وجدانه، ويبعث الحياة في ما خمد من همّته.

وحين يخرج المرابط من بيته قاصدا ربه، مهاجرا إليه بنية المجاهدة والتزكية، يردد في قلبه ما قاله الخليل عليه السلام: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: 99].

فهو لا يمشي على غير هدى، بل يحدوه رجاء عظيم في هداية من الله ورحمة، تماما كما رجا موسى عليه السلام حين قال: عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص: 22].

وحين يطرق باب الله، مثقلا بذنوبه، منكسرا بين يديه، متضرعا في خضوعه، فإنه يقر بفقره كما أقر إخوة يوسف: يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف: 88].

فلا يرى لنفسه حولا ولا قوة، بل يرجو من الله تعالى، أرحم الراحمين، أن يقبله ويكرمه بالعفو والمغفرة، وهو يطمع أن يسمع في قرارة قلبه ما قاله يوسف عليه السلام لإخوته: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: 92].

بهذا الفهم العميق، يتحول الرباط من مجرد حضور إلى مقام، ومن مجرد التزام ظاهري إلى رحلة وجودية، يصحب فيها العبد المؤمن نفسه ليعود بها إلى فطرتها، ويسائلها، ويزكيها، ويتوب إلى الله فيها ومع إخوانه، في مسيرة جماعية تحيا فيها القلوب وتتنزل فيها الرحمات.

فالرباط، في نهاية المطاف، ليس غاية في ذاته، بل وسيلة سامية، ووسيلة لا تضاهيها وسيلة، توصل إلى الغاية الأكمل: رضا الله والقرب منه، وبلوغ مقام الإحسان. وهي تربية جهادية، فردية وجماعية، تحتاج إلى صدق وتجرد ومصابرة، لكنها تنتهي بالمرء إلى سكينة داخلية وطمأنينة قلبية لا تُشترى بثمن.

الرباط: حضور القلب بين عناية الاصطفاء وكرم العطاء

سؤال وجودي يتردد صداه في قلب كل من حضر إلى الرباط ووقف على عتبة أبوابه: هل أنا من جئتُ إلى هذه المأدبة الروحية باختياري؟ أم أنني جيء بي؟

سؤال تتقاطع فيه نوازع النفس مع تجليات اللطف الإلهي، ليخلص العارف إلى حقيقة مفادها: أن الله هو الذي جاء بنا، واصطفانا من بين خلقه، واختار لنا هذا المقام الكريم.

لكن، لماذا هذا الاصطفاء؟ ما الحكمة من هذا الجمع المبارك في حضرة الرباط؟

الجواب، في عمقه التربوي والمعرفي، يعود إلى أن الله سبحانه أراد أن يُظهر فضله علينا، وأن يغمرنا بجوده وكرمه وإحسانه، فاختارنا لنتذوق من مأدبة القرب، كلٌّ بحسب استعداده، وطاقته على الإقبال، واستعداده للتلقي.

يقول الإمام ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه في حكَمِه المضيئة: “إذا أراد أن يُظهر فضله عليك خلق ونسب إليك”. أي أن الله، في تجليه الكريم، قد يسوق العبد إلى مواطن القرب، ثم ينسب ذلك إليه، ليُشعره بالفضل ويستثير فيه همة الشكر والاعتراف. 

أي كرم هذا؟ وأي عطاء هذا؟ وأي إكرام هذا؟

ربٌّ دعانا، ثم مهد السبيل، ثم بسط مائدته، ثم أذن لنا بالدخول، وأحاطنا بأنوار الرحمة والسكينة، وجعل من حضورنا له حظوة بين أهل السماء.

هيأ المأدبة بوقتها ومكانها، وزينها برجال صدق، وعلّق في سمائها ملائكة الرحمان، ثم حَفّها برحماته، فغشاها نور الذكر والسكينة والمحبة.

يحدثنا الصحابيان الجليلان، أبو هريرة وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما، عن هذه اللحظات القدسية بقول النبي ﷺ: “ما جلس قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده” [رواه مسلم رحمه الله].

فيا لها من نعمة لا تقابل إلا بالفرح العميق، والبشر المستبشر، والاعتراف الجميل بنعمة الاصطفاء.

إن كرم الله، إذا بدأ لعبده، فإنه يتمّه، ولا يقطعه إلا العبد نفسه إن انصرف عن باب الكريم.

ألم يقل الله عز وجل في كتابه العزيز، يُقرر قاعدة الاصطفاء والعطاء: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [آل عمران: 73-74].

فلتكن فرحتنا بهذا الرباط فرحة من عرف أنه مدعو إلى مأدبة ملك الملوك، لا بجهده، ولا باستحقاقه، وإنما برحمة سبقت، وعناية سبقت، وفضل ابتدأ من عند الكريم لا من عند العبد.

ولنغتنم هذا الحضور التربوي لنُعيد ترتيب دواخلنا، ونُطهر قلوبنا، ونستقبل أنوار المولى في مجالس الذكر والمجاهدة والمحاسبة، عسى أن يُتم الله علينا نعمته، ويجعلنا من أهله وخاصته.

العطاء الإلهي: المَعين والمُعين

من دلائل الرحمة الإلهية وعلامات الفضل الرباني أن يمنّ الله تعالى على عباده بنعم لا تُعدّ ولا تُحصى، غير أن من بين أعظم هذه النعم وأكرمها على السالك إلى الله، نعمتين هما: المَعِين والمُعِين؛ وهما عماد الطريق، وسر التوفيق، وركنان لا غنى عنهما لمن أراد أن يسلك سبيل القرب والأنس بالله تعالى.

أولا: نعمة المَعِين

والمَعين هنا ليست مجرد صحبة بشرية، بل هي صحبة ربانية صادقة، صالحة، مجاهدة، تؤمن بأن الغاية وجه الله، وتسعى في السير إليه عبر التزكية والتطهير والمجاهدة. صحبة تدل على الله قولا وفعلا، وتكون في حياتك صوتا لله يذكّرك حين تغفل، ويرفعك حين تسقط، ويضيء لك دروب الحيرة والتعب.

قال تعالى موجها خطابه للمؤمنين: يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكونوا مَعَ الصّادِقين [التوبة: 119].

وهذا أمر إلهي، لا مجرد توجيه؛ إذ لا تتحقق التقوى إلا بمعية الصادقين، الذين صدقوا في محبتهم، وجاهدوا في سبيل ربهم، وصدقوا الوعد مع الله، فكانوا شموعا تضيء دروب السالكين.

ثانيا: نعمة المُعِين

إن البيئة الإيمانية الصالحة، العامرة بالنية الخالصة والوجهة الربانية، هي المُعين الثاني الذي يسّر الله به على عباده سبل التزكية والعبادة. بيئة تلتقطك حين تضعف، تحتضنك حين تتعب، وتأخذ بيدك وتعينك على اقتحام العقبات.

قال الله عز وجل: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف: 28].

هي بيئة لا تشتتك، بل تجمعك على المقصود الواحد: الله. هي سياج من الذكر، وجو من النور، ونظام من التربية يُلهمك الثبات، ويدعوك لأن تكون ممن “يُرِيدُونَ وَجْهَهُ” فقط.

فـما الواجب وأنا في ضيافة الله؟

إذا كان الله تعالى قد أكرمنا بهذا المَعين والمُعين، وأذن لنا بدخول بيته ومجالسة أحبائه، فما المطلوب من العبد؟

أول ما ينبغي أن يوقن به السالك: أن الضيافة لها آدابها، فليس من الأدب مع المضيف أن يتصرف الضيف كما يشاء، أو أن يُكثر الحركة في حضرته، أو أن ينشغل عن المُضيف بانشغالاته الدنيوية.

ففي ضيافة الله، يجب أن يتأدب العبد بكل جوارحه، أن يُحسن الجلوس في حضرة سيده، أن يخفض صوته، ويُسكن حركاته، وأن يُعظّم باقي الضيوف، وأن ينظر إليهم بعين التقدير والتوقير، فهم وفد الله، وجلساء الرحمان.

الانفصال والاتصال: أساس السلوك

ولكي تتحقق هذه المعية المباركة، لا بد من أساسين متلازمين، يكمل أحدهما الآخر، هما: الانفصال والاتصال.

الانفصال عن الدنيا وزينتها، عن همومها ومشاغلها، عن كل ما يُشتت القلب ويُقلق الخاطر. لا يتحقق الانجماع على الله مع قلب تتجاذبه الشواغل الدنيوية، وتتقاسمه الشهوات والشبكات، ويشوش عليه الهاتف، ويأسره الترف، ويُرهقه الانشغال بما لا ينفع. فإنَّ شَعَثَ القلب لا يُلمُّه إلا الإقبالَ على ذي الجلال. وهي علاقة روحية عميقة بين العبد وربه لتكون للعبد قبلةٌ واحدة، ويكون له مقصودٌ واحد هو وجه الله عز وجل، وأن تتلخصَ مقاصدُه وتنجمعَ في مقصد واحد هو إرادة وجه الله.

فالانفصال عن حظوظ النفس، والتخفف من شواغل الحياة، شرطٌ أول للتهيؤ للمقابلة مع سيدك ومولاك؛ أن تُفرغ قلبك من غيره، أن تطرد من داخلك كل صوت غير صوته، وكل طلب غير طلبه.

الاتصال بالله لا يكون إلا حين يخلو القلب لذكره، ويأنس بلُقياه، ويئن من الشوق إليه، بحيث يصير ذِكْرُه وحبُّه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته حتى يقبل العبد بكُنْهِ الهمَّة على الله والتوجه الكلي إلى مولاه؛ فتتقوى صلته بربه ويتفرغ للعبادة والذكر والتفكر في آياته سبحانه. حتى لا تبقى للعبد قبلة إلا الله، ولا مقصد إلا وجه الله. لا إله إلا الله.

وهنا يُصبح الذكر ليس عادة، بل حياة، وتصبح الصلاة ليست عبادة فقط، بل لقاء ومناجاة، وتتبدل المشاعر فتصير الهموم ذكرا، والتفكر عبادة، والسكون وصلا.

وقد قال ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى: “مثل المعتكف كرجل له حاجة إلى عظيم، فجلس على بابه، يقول: لا أبرح حتى تقضى حاجتي”.

وكذلك العبد الذي انقطع إلى الله، يجلس في بيت الله، يسأل ويستغفر ويتضرع، لا يريد إلا أن يُغفر له، ويُطهّر قلبه، ويُصلح سيره، ويبلغ مقام القرب.

إنه لمن عظيم النعم، أن يُقيمك الله في ضيافته، ويهيئ لك معية الصادقين، ويضعك في بيئة تعينك على السلوك إليه. لكن الكرم الإلهي يُقابَل بأدب العبودية، وبصدق السلوك، وبحُسن التوجه.

فاجعل وجهتك الله، واغتنم لحظات الصفاء، وتخفف من أثقال الدنيا، وكن عبدًا تامًا في محضر المولى، متأدبًا بجلاله، خاشعًا لعظمته، طالبًا وجهه.

ذلك هو الطريق… وذلك هو الفوز العظيم.

ماذا يريد الله مني؟ تربية القلب وصدق التوجّه في حضرة المولى

ليس سؤال “ماذا يريد الله مني؟” مجرد استفسار عابر أو رغبة لحظية في أداء التكاليف، بل هو سؤال الوجود كله، وسؤال العبد الباحث عن وجهته في عالم التزاحم والتشويش، إنه السؤال الذي يفتح أبواب التربية القلبية، ويهدي إلى مقامات التزكية، ويخلخل ركود العادة والبرود الإيماني، ويستفزّ في النفس معاني العبودية الصافية.

أولا: أن لا يكون للعبد من دون وجه الله مطلب

إن أول ما يريده الله من عبده هو أن يكون خالص الوجهة إليه، لا يحجبه عن طلب وجهه الكريم والفوز برضاه مطلب من مطالب النفس أو زخرف من زخارف الدنيا أو هوى من أهوائها، أن يصير همُّ العبد واحدا، ومقصده وجه الله وحده. وهذه الوجهة الخالصة لا تتحقق بالقول المجرد، بل بالعمل الدائب المتجدد، وبالنية التي لا تنقطع عن التمحيص والتجديد، لأن القلب يعتريه الفتور، والنفس تنزع إلى الراحة، والشيطان لا يكلّ.

ثانيا: التبرؤ من الحول والقوة

يريد الله من عبده أن يتبرأ من حوله وقوته، وأن يُقِر في أعماقه بعجزه الذاتي وفقره الوجودي، وأن يتجرد من كل تعلّق يشغله عن مولاه، هذا التجرد ليس عزوفا عن الكون، بل تحررا من عبوديته، ليقف القلب موقف الاستعداد لنور الإيمان، واستقبال فيوضات القرب، في صفاء لا تشوبه الأكدار.

ثالثا: التعلق بصفات الربوبية، والتحقق بصفات العبودية

إن الله يريد من عبده أن يكون عبدا حقا؛ متعلقا بأوصاف الربوبية من عطاء وحكمة ورحمة، ومتحققا بأوصاف العبودية من ذل وخضوع وانكسار وافتقار، فكلما رسخ في القلب العلم بأن الله هو الغني ونحن الفقراء، وأنه القادر ونحن العاجزون، وأنه المالك ونحن المملوكون، حصل التحقق الكامل بمقام العبودية، وتهيّأ العبد للتلقي، وانفتحت له أبواب السير.

رابعا: مقام الانكسار والاعتذار

يريد الله من عبده أن يقوم بين يديه مقام الذليل المعتذر، الذي لا يرى لنفسه حولا ولا قوة، ولا يدعي استحقاقا، بل يلوذ بعفو ربه، ويرجو رحمته، ويفزع إلى لطفه، ويدنو إليه بقلب منكسر خاشع، يطرق الباب دون ملل. وهل للعبد حيلة أو حق بين يدي سيده ومولاه؟ إن الله يحب عبده الذي لا يرى في نفسه كفاءة للقبول، لكنه مع ذلك لا ينقطع، ولا ييأس، بل يُطيل الوقوف على الأعتاب حتى يفتح له الفتاح الباب.

خامسا: تقديم المجاهدة وصدق الطلب

يريد الله من عبده أن يُقدم الجهد قبل الفتح، والمجاهدة قبل الهداية، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69].

فالطريق إلى الله محفوف بالمجاهدات، ولا هداية إلا بعد تعب، ولا تمكين إلا بعد صبر. فالهداية ليست منحة مجانية للعابرين، بل ثمرة سعي صادق ومصابرة طويلة وصدق في النية وسخاء في الوقت والقلب والجهد.

سادسا: الانشغال بأمر المسلمين

من تمام العبودية أن لا يُشغَل العبد بنفسه فقط، بل أن يتسع صدره لهم الأمة، ويشتغل بقضاياها، دعوة ونصرة ودعاء وجهادا بحسب حاله، فالله يريد من عبده أن يكون ذا قلب حي، يتألم لآلام المسلمين، ويحزن لحزنهم، ويفرح لفرحهم، لأن المؤمن في جماعة، والجماعة أصل في الإسلام.

وقد قال رسول الله ﷺ: (من أصبح وهمه الدنيا فليس من الله في شيء، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن أعطى الذلّة من نفسه طائعاً غير مكره فليس منا) [رواه الطبراني رحمه الله].

ختاما

إنه زمن تتكاثر فيه التحديات، وتشتد فيه الحاجة إلى تربية متواصلة تغذي القلوب، وتنظم الصفوف، وتشد الأفراد إلى أصل الوجهة: الله جل جلاله. وقد قال الإمام المجدد عبد السلام ياسين، رحمه الله: “إن حاجة الأمة إلى تجديد الدين حاجة مستمرة، معترف بها شرعاً، مُعلَن ميقاتها، مأذون في السعي لتحقيق أهدافها” 1.

ومن أعظم ما يتطلبه هذا التجديد: إحياء الربانية في الأمة، أي ترسيخ الصلة الروحية العميقة بين العبد وربه، صلة تكون زاداً في الطريق، ونوراً في القلب، ووقوداً للعزيمة. إنها العروة الوثقى التي إن تمسك بها المؤمن، بقيت جذوة الإيمان متقدة في روحه وسلوكه، في خلوته وجلوسه، في دعوته وحركته.


[1] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ج 1، ص 318.