الذكرى العاشرة.. إضاءات حول وصية الإمام رحمه الله

Cover Image for الذكرى العاشرة.. إضاءات حول وصية الإمام رحمه الله
نشر بتاريخ

مقدمة

إن أحكام الشريعة لا تخلو من حِكم يريدها الشارع سبحانه وتعالى من تشريعه، وهي عدل كلها ومصلحة كلها، وُضعت لمصالح العباد في الدارين الدنيا والآخرة. والوصية تدخل في هذا الباب، شرَعها الإسلام لحكمة قد تكون فردية تعود بالنفع الخاص على الأقارب فردا كان أو أفرادا، وقد تكون الحكمة جماعية تعود بالنفع العام على الجماعة أو الأمة كما نجد في وصايا الأنبياء عليهم السلام والعلماء عليهم رحمة الله.

في هذا الموضوع سنقف مع وصية الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى لنستكشف مضامينها الملخصة للمشروع، وأهميتها في تثبيت معاني الصحبة والجماعة. قبلها لا بأس أن نذكر بمعلومات حول الوصية في الإسلام بشكل عام وبعض نماذج من وصايا العلماء..

معلومات حول الوصية

الوصية في اللغة: مأخوذة من وصّيت الشيءَ بالشيء أي وصلته. الوصية في الشرع: هِبة الإنسان غيره عينا أو دينا أو منفعة، على أن يملك الموصَى له الهبة بعد موت الموصِي.

الوصية مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، فمن الفقهاء من أوجبها، ومنهم من استحبّها، ومنهم من خيّر بين الوجوب والاستحباب، وبين الفعل والترك. وكل واحد له في ذلك أدلته واجتهاداته. يقول الله تعالى: كُتب علَيكُم إِذَا حضَر أَحدكُم المْوت إِن تَركَ خيرا الوْصيةُ للْوالدينِ والأقْربِين بِالمْعروف حقا علَى المْتَّقين (البقرة: 180)، وعن سيدنا عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما حقّ امرئ مسلم له شيء يوصي به أن يبيت ليلتين إلاّ ووصيته مكتوبة عنده” [1].

للوصية أركان وهي: صيغة الوصية، الموصي، الموصَى له، المُوصَى به. ولها طرق لإثباتها شرعا بشهادة شهود. ولا يستحق الموصَى له الوصية إلا بعد موت الموصي. ويُستحب للمسلم الموصي أن يكتب وصيته ويُشهد عليها لأجل حفظها وضمان تنفيذها ومنع أي احتمال لجحودها وإنكارها.

وقد كان السلف الصالح دائما يفتتحون وصيتهم بما رواه الدارقطني عن أنس بن مالك رضي الله قال: “كانوا يكتبون في صدور وصاياهم هذا ما أوصى فلان بن فلان، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله…”. وذلك ما نجده في مقدمة الوصية التي تركها لنا الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، فقد أشهد كلَّ من قرأ وسمع هذه الوصية بأنه يعتقد العقيدة الصحيحة، عقيدة أهل السنة والجماعة. وهذا من كمال اقتدائه رحمه الله تعالى بالسلف الصالح من هذه الأمة.

نماذج من الوصايا

إن بعضَ ما وقفت عليه من وصايا العلماء وَصِيَّةُ المُعَافَى بن عِمْرَان الأَزْدِي الـمَـوْصِلِي (ت185هـ). هذه الوصية ضبط نصّها وقدّم لها، وعلّق عليها: د. رضوان الحصري ضمن سلسلة: وصايا العلماء، الطبعة الأولى: 1438هـ/2017م، في كتاب صغير يتكون من (174 صفحة).‏

أما مضامين هذه الوصية فتنقسم إلى قسمين رئيسين: قسم يتضمن مجموعة من الآداب والخصال التي ينبغي التحلي بها، وقسم ثانٍ يتضمن التحذير والنهي عن جملة من الأخلاق الذميمة التي ينبغي تجنبها، ولم تقتصر هذه الوصية على الأمور الدينية؛ من فرائض وواجبات، وآداب وسنن، بل اشتملت أيضا على نصائح تتعلق بالأمور الدنيوية؛ كحثه رحمه الله على الكسب بواسطة التجارة، وتحذيره من بيع العقار وإن اشتدت الحاجة إليه. وقد عزّز المعافى وصاياه بـأدلة من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين [2]. 

إلى جانب هذه الوصية، هناك وصية أبي الوليد الباجي لولديه. لفتة الكبد في نصيحة الولد لابن الجوزي. وصية لسان الدين ابن الخطيب لأولاده. وصية الإمام الذهبي. رسالة سفيان الثوري إلى عباد بن عباد في الخلال التي ينبغي أن يصحب بها الإنسان أهل زمانه.

وصية الإمام

فيما يخص الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى فقد ترك لنا وصية منثورة ومسموعة ومنظومة، تأسيا واقتداء بالسلف الصالح رحمهم الله تعالى الذين كانوا يتركون وصاياهم تعود بالنفع العام على الأمة دينا ودنيا وآخرة. وقد تمّ كتابتها ونظمها الأربعاء 28 ذي الحجة 1422ه، أي قبل إحدى عشرة سنة تقريبا من وفاته يوم الخميس 28 محرم 1434ه. كتبها رحمه الله تعالى وهو يتعرض كعادته لنفحات الرب الكريم في جوف الليل قبل الثلث الأخير وأثناءه. وهي آخر ما كان كتبه رحمه الله تعالى بعد المشوار الحافل من التأليف والتنظير والنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولعامة المسلمين.

مقاصد الوصية

اختصرتْ الوصية كل المقاصد التي يمكن أن تعبر عنها في مقصدين مُهمين بهما ابتدأ الإمام رحمه الله تعالى أول كلامه:

المقصد الأول: من أجل الدعاء بالرحمة للإمام المجدد بعد موته، فذلك مما يحقق التزاور والتحاب في الله عبر الأزمان. قال رحمه الله تعالى: “مرمى وصيتي هذه وغايتها أن يقف عليها مؤمن وتقف عليها مؤمنة يسمعانها بصوتي مسجلة أو يقرآنها مسطورة فيترحمان عليّ ويترحمان على ثاوٍ في قبره أسيرٍ لذنبه راجٍ عفو ربه. تلك أولى المقاصد”.

المقصد الثاني: من أجل إدراك مشروع العدل والإحسان بكل أبعاده التربوية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهو ما لخّصه في هذه الوصية. قال رحمه الله تعالى: “والقصد الثاني أن يتذكر متذكر خلاصة ما إليه دعونا لما كنّا من سكان أرض الدنيا عابرين إلى دار البقاء”.

مضامين الوصية

إن مضامين الوصية كثيرة، وهي مجموعة من الطاعات والقربات، ومجموعة من خصال الخير وشعب الإيمان، التي تمثل خلاصة مشروع العدل والإحسان، أو لنقل المحاور الكبرى للمشروع التي لا يمكن أن يتحقق إلا بها. ونختصرها كما يلي، فقد أوصى رحمه الله تعالى:

· بالإحسان إلى الوالدين ولا سيما عند الكبر في السن والضعف والحاجة والافتقار..

· بإقامة الدين والاجتماع عليه.

· بالشورى في الأمر الخاص والعام والحكم باعتبارها دِين من الدين.

· بالوصايا العشر الواردة في سورة الأنعام والتي وصى الله تعالى بها عباده المؤمنين.

· باتباع ملّة سيدنا إبراهيم وبالتمسك بالدين وأن لا نموت إلا ونحن مسلمون.

· بأن لا نرجع بعده كفارا يضرب بعضنا رقاب بعض، وأن نحذر المسيح الدجال، وأن نُمسك عن دماء المسلمين وأموالهم، إذ هي علينا حرام، وأن نصون أعراض المسلمين.

· بالصلاة وإقامتها في المسجد ومع الجماعة مع تحري الجميل في الطهارة.

· بالنساء خيرا لا سيما الأزواج والبنات.

· بالإنصات والتحفز والتّوفّز لطاعة الأمر العليّ كلما صدح داعي الله وصدع “يا أيها الذين آمنوا” طاعةَ فعل واصطبار أو كفّ وازدجار.

· بالهمة في طلب وجه الله تعالى وأن لا يحجب عن الله مطلب دونه.

· بالعدل قرينا للإحسان في كتاب ربنا وفي اسم جماعتنا وشعارها.

· بالصحبة والجماعة والصحبة في الجماعة (ثلاث مرات). على أن تكون الصحبة والجماعة متلازمتين تلازم العدل والإحسان.

· بالدعاء إلى الله تعالى أن يُمسك وحدة الصحبة والجماعة كما يمسك السماوات والأرض أن تزولا (مرتان).

· بالإقبال على ذكر الله تعالى في الملإ والخلاء.

· بالتحلي بالصدق مع الصادقين صبرا ومصابرة، وحملا وتحمّلا.

· باقتحام العقبة، وبالبذل والصدقة والحرص الدقيق على أداء الزكاة وتصريفها وتوظيفها في مستحقاتها.

· بطلب العلم الضامن سعادة الآخرة لكل فرد، وبطلب العلوم الكونية الضامنة قوة الأمة.

· بالعمل الصالح انطلاقا من صلاح المؤمن والمؤمنة في عبادتهما وتقربهما إلى الله عز وجل بالفرض والنفل.

· بسمت الإسلام وبالتؤدة رائدا حكيما، وبالاقتصاد توجيها سليما، وبالجهاد في سبيل الله جهاد القوي الذي لا يعنُف، الرفيق الذي لا يضعُف.

· وأخيرا بدعاء الرابطة وهدية الرابطة، بأن لا يبطّئنا عنه مُبطئ، ولا يُشغِلنا عنه شاغل. فقد أكد على الدعاء وعلى أن يكون من الأولويات.

وكما بدأ كذلك ختم الإمام المجدد رحمه الله تعالى وصيته وهو يجدد التماس الدعاء من إخوانه وأخواته بالصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

أهمية الوصية

إن هذه الوصية بما تمثله من مقاصدَ جليلةٍ يُراد لها التحقيق، وبما تحمله من معانٍ عظيمة في مضامينها يُراد لها التطبيق، لَتُعتبر أمانةً وأية أمانة. واجبنا نحوها من باب الوفاء أن نقوم بما يلي:

أولا: أن ندرك قيمة هذه الوصية في تثبيت معاني الصحبة والجماعة.

ثانيا: أن نعيَ مقاصدها ومضامينها باعتبارها خلاصة دعوتنا المباركة.

ثالثا: أن نتعاون على تطبيق هذه الوصايا في حياتنا الفردية والجماعية.

رابعا: أن نبلغها للناس بالحال والمقال والعمل.

خامسا: أن ندعو بالرحمة والمغفرة والرضوان مع صاحب الوصية ومع كل من سبقنا إلى الدار الآخرة من الإخوان والأخوات. فإن ذلك اعتراف بفضل الرجل رحمه الله تعالى. فمن لم يشكر الناس لم يشكر الله تعالى. وإن خير ما نكافئ به من أسدى إلينا معروفا الدعاء.

خاتمة

وفي الختام ختم الله لنا ولكم بالحسنى وزيادة، نسأل الله تعالى أن يرحم إمامنا المجدد رحمة واسعة وأن يجزيه عنا وعن الأمة خير الجزاء، وأن يجعلنا على أثره، سائرين على المنهاج النبوي على درب الوفاء.

وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (الحشر: 10).

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه.


[1] – أخرجه الأئمة البخاري ومسلم ومالك في الموطأ وأبو داود والترمذي والنسائي.
[2] – وَصِيَّةُ المُعَافَى بن عِمْرَان https://www.arrabita.ma/download بتصرف.