4) نشر الدعوة من خلال العمل الجماعي المنظم
خرج الإمام بعد انعتاقه من محنة الاعتقال التعسفي سنة 1978، بهمة ازدادت سموقا وإرادة اشتدت صلابة وبمشروع تجديد للدعوة واضح المعالم… فاستأنف مسيرته الدعوية متوكلاً على الله العزيز الجبار، وخاض غمار الدعوة في صفوف العامة.
5-أ) الدعوة في المسجد ثم في البيت
قام الإمام أول ما عانق الحرية بغشيان المسجد لتوعية الناس بدينهم والنّصح لهم، “بعد الإفراج عنه، ثم لم يلبث أن بادر إلى الاتصال بالناس، في شهر رمضان، بمسجد الحي الذي كان يسكنه بالداوديات، وبدأ يلقي دروسا… وقد استجاب الناس له وأعجبهم كلامه وكثر عددهم في اليوم التالي، لكن… ما هي إلا ثلاث جلسات إيمانية في بيت الله حتى ضاقت السلطة بالرجل، فأرسلت إليه من يبلغه أمر عامل المدينة القاطع بأنه ممنوع من التحدث إلى الناس في المسجد. وقد احتج الرجل لدى القائد على هذا المنع، ثم جلس إلى الناس الذين أغضبهم صنيع السلطة يتلو عليهم قوله تعالى: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها“ 1 (سورة البقرة 114).
يقول رحمه الله: “طلبنا حقنا في ولوج المسجد، ومخاطبة المسلمين بكلمة المعروف فأنكروا حقنا. بل طردونا من بيوت الله.” 2
فنقل الدعوة إلى بيته، وكان حضور الناس في البداية بأعداد معتبرة، ولكن عددهم جعل يتناقص بفعل الخوف ومراقبة السلطات لحركة الإمام، فالأيام “أيام رصاص” كما اصطلح المغاربة على تسمية تلك الحقبة المظلمة من تاريخ البلاد…
5-ب) تأسيس الجماعة وبث هم الدعوة في صفوفها
وبعد تأسيس الجماعة سنة 1981، بث الإمام رحمه الله هذا الهمّ والوعي في أعضائها ومؤسساتـها، ولقنهم “أن إيمانك أخي وأختي له أبواب المزيد مترعةً حين يشغل بالك بعد ذكر الله الدائم الـمقيم، همّ تبليغ رحمة الإيمان لغيرك” 3، فسرى الهمّ والعزم في أوصال الأعضاء حتى غدت هذه المعاني دأبهم وديدنهم.
كما كان يوصيهم، لا يسأم، بالرفق بالمسلمين وتوطئة الأكناف لهم تبشيرا وتيسيرا؛ فالأمة جُهلت بدينها، وأحاطت بها الفتن من كل جانب، وزج بها في حياة الضنك… فالناس أحوج ما يكونون إلى كنف رحيم يحتضنهم، وقلب رفيق يسعهم ولا يضيق بإعراضهم… وكان كثيرا ما يردد على مسامع أبناء الجماعة حديث رسول الله ﷺ: «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَى سِوَاهُ« 4.
5-ج) حركته الدعوية بعد انتقاله إلى مدينة سلا
بعد تأسيس “أسرة الجماعة” 5 التحق الإمام رحمه الله بمدينة سلا “للتقرب من مواطن الدعوة” 6، وانخرط بها في حركة دعوية متواصلة لا تفتر، وكان أول ما قام به فتح باب بيته للتواصل ونشر دعوة الله عز وجل وعرض تصوره لها… فتوافد على هذه اللقاءات خلق كثير، شباب على الخصوص؛ كان منهم من جاءت به الغيرة على دين الله فهو يبحث عمن يأخذ بيده، وكان منهم من جاء به حب الاستطلاع ورغبة التعرف على الداخل الجديد على ميدان الدعوة بالمغرب، ومنهم من جاء ليتصدى لهذه الدعوة “المنحرفة” حسب زعمه، ومنهم ومنهم…
وكان الإمام يستقبل الجميع ويستمع لاستفساراتهم وملاحظاتهم وانتقاداتهم بصبر وتؤدة، لا يتأفف ولا يضجر، بل يجيب على كل سؤال ويعرض تصوره للدعوة إلى الله، ويبشر ويبين، كل ذلك في أجواء هادئة وحوارات رزينة. وكان يتعرض أحيانا إلى اتهام وتشكيك من قبل شباب حركات إسلامية سرية وحركات سلفية، يتهمونه في صدقه أو في عقيدته أو فيما يعتبرونه “نزوعا صوفيا تكتنفه خرافات واعتقادات فاسدة”
يحكي الأستاذ محمد عبادي حفظه الله، أمين جماعة العدل والإحسان، أن شابا من أتباع الشيخ المغراوي 7 جاءه بكتاب “الإسلام غدا” وأخذ يقول له قلت كذا وكذا… وهذا شرك… ولما أفرغ ما لديه قال له الإمام رحمه الله: “أكملت؟ أنا يا ولدي أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فهل تشهد لي الآن أنني مسلم أم لا؟”
وكان الإمام يصبر على كل ذلك الأذى ويحتسب ويواصل لقاءاته وجهوده في توضيح دعوته.
وكان من ثمرات هذه الأنشطة واللقاءات التفاف شباب مؤمن حول الإمام، فتشربوا هذه الروح الدعوية ممتزجة بالروح التربوية المشعة نورا وذكرا وصدقا وجهادا من هذا الداعية الرباني، وقاموا يبلغون عن الإمام، وينشرون الدعوة في ربوع البلاد…
5-د) كان أوّل من تشرّب هذا الهمّ أعضاء مجلس الإرشاد
شارك مجلس الإرشاد الإمام المجدد في همه نشر الدعوة بكامل الصدق والتفاني والتبشير بموعود الله ورسوله صلى الله عليه وسلم 8؛ جالوا البلاد طولاً وعرضا للتعريف بالمشروع ونشر الدعوة، وكانت أبواب بيوتـهم مفتوحةً ليل نهار لكل سائل أو باحث، وما من لقاء منظّم أو غير منظّم، جمعهم بفرد أو جماعة، إلا بادروا وتعرّفوا على الحاضرين وذكّروا وعرّفوا بالدعوة…
يقول الأستاذ فتح الله أرسلان حفظه الله: “كنا نستقبل رسائل القراء في مجلة “الجماعة”، وبحكم أننا كنا نبحث عمن نتواصل معه، لم نكن نجيب القراء الذين كانوا يراسلون من البيضاء، بل كنت آخذ الرسائل وأطرق أبوابهم مباشرة…” 9
ويقول: “أما آسفي فقد كان من ضمن علاقاتي في المرحلة التي كنت فيها ناشطا في دار الدعوة صديق اسمه نور الدين أولحاج، كان يعمل في مكتب الصيد بآسفي، فأخبرني أنه هو وبعض الإخوان في آسفي يجلسون إلى القاضي الرافعي، وكان يلقي عليهم بعض الدروس، فلما فكرنا في التأسيس اقترحت عليه زيارتهم للتعارف، فزرتهم رفقة بشيري رحمه الله، هذه المجموعة كان من ضمنها العربي بلخيلية ومصطفى الحاتمي وعبد الواحد متوكل.” 10
[2] “مجلة الجماعة”، العدد 11، ص 3، سنة 1983.
[3] “رسالة الدعوة إلى الله” للإمام رحمه الله.
[4] حديث رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها.
[5] “أسرة الجماعة” هو الاسم الأول للجماعة عند تأسيسها قبل تغييره لـــ”العدل والإحسان” سنة 1987.
[6] “حوار شامل مع الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين”، منير ركراكي وعبد الكريم العلمي.
[7] محمد المغراوي من دعاة السلفية بمدينة مراكش.
[8] حديث الخلافة.
[9] “عبد السلام ياسين، الإمام المجدد”، محمد العربي أبو حزم، ج2، ص 108، سنة 2017.
[10] نفس المرجع، ص109.