تقديم
إن الدراسات السياسية الإسلامية تعتبر قليلة بالمقارنة مع ما كتب في العلوم الشرعية الأخرى المهتمة بالفرد المسلم، وإذا تفحصنا مؤلفات الفقه السياسي الإسلامي، نجدها تركز على ما يعرف ب “القانون الإسلامي العام”، الذي يعالج قضايا سياسية طارئة، ولم تعالج قضية السلطة والحكم في الإسلام، ولا شروط الحاكم إلا لماما، فالكتابات في هذا المجال قلة القليل ضمن التراث الإسلامي الضخم.
يرجع السبب الأساسي لإحجام علماء الأمة عن الحديث عن هذا الفصل المهم، بل الأهم، من كتاب الإسلام، إلى الغصب المتقدم الذي عرفه الحكم منذ بداية الإسلام، وتحديدا عند تولي سيدنا معاوية بن أبي سفيان الحكم، وإعلانها ملكا ووراثة بدل خلافة وشورى، قال ابن أبي خيثمة: حدثنا هارون بن معروف حدثنا حمزة عن ابن شوذب قال: كان معاوية يقول أنا أول الملوك وآخر خليفة، قلت: والسنة أن يقال لمعاوية ملك، ولا يقال له خليفة لحديث سفينة: الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عضوضا 1 ، ومن ثم قمع كل مخالف أو مناد بإصلاح الحاكم والحكم؛ والأمثلة في هذا الشأن أكثر من أن تحصى، ويكفي مراجعة الإمام مالك في فتوى طلاق المستكره زمن “أبي جعفر المنصور” ثاني ملوك العباسيين، وبسبب ذلك ضرب بالسياط وانخلعت كتفه، رضي الله عنه.
أمام هذا الواقع الاستثنائي في حياة الأمة الإسلامية المتسم بقسوة الحاكم وبطشه للعلماء والدعاة والقائمين، انبرى قسم كبير منهم إلى الاهتمام بتربية الإنسان وتعليمه، والتأليف في شتى العلوم الشرعية، وظهرت مدارس التصوف والحديث الفقه وأصوله، لتبقى الكتابات حول “الأحكام السلطانية” في هامش المؤلفات لا يهتم بها إلا آحاد من العلماء، حركتهم الغيرة حول مآل وواقع الحكم في الإسلام.
قام السلف الصالحون باجتهادات سياسية، وإن كانت قليلة، عالجت ظروفا سياسية محددة، وقد بدأ ذلك الاجتهاد منذ انتقال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى رحمة ربه، واختيار الخليفة الأول، سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، إماما للمسلمين، مرورا بانسحاب الصحابة الإيجابي في فتنة مقتل سيدنا عثمان بن عفان، رضي الله عنه، ذلك أن الصحابة تلقوا توجيهات من الإمام بلزوم البيت وعدم التدخل في هذا “الاغتيال السياسي”، وكذا مبايعة سيدنا عبد الله بن عمر للطاغية يزيد بن معاوية مجرم كربلاء وغيرها… هذه الاجتهادات على قلتها، اتخذها المتأخرون أصولا بنوا عليها أحكاما لتبرير مواقفهم تجاه الحاكم، فظهرت فتاوى تؤيد الحاكم ولو كان فاجرا. إن اجتهادات السلف الصالح تأسست على ظروف محددة، واحتاطوا لدينهم، وبيضة الأمة كانت مجموعة، وشوكتها مصونة، وقد ارتكبوا أخف الضررين حقنا لدماء المسلمين، فكان اجتهادهم أصلا وإن نقل فتواهم والبناء عليها تقليد مميت.
هذا التراث القليل من الفقه السياسي فرق الأمة مذاهب، أهمها السنة والشيعة، ولكل رؤيته الخاصة للحاكم وشروطه والإمام وأحكامه، وليس هذا موضوع هذه الدراسة، كما ظهرت طوائف رؤاها مختلفة ومتضادة في أحايين كثيرة، خاصة في تحديد مصطلحي الخلافة والملك، ويمكن تقسيم اتجاهات العلماء والمفكرين المسلمين إلى ما يلي، وتم الاعتماد على هذه الرؤى للتقعيد لوسيلة الدعوة وأسلوب التغيير:
– فئة لا تولي اهتماما كبيرا للمصطلحين، وتسمي الأمور بغير مسمياتها، ففترة حكم الأمويين ومن بعدهم عندهم “خلافة”، إذ لا مشاحة في المصطلحات، مع أن أحاديث كثيرة تسمي حكمهم “ملكا”.
– فئة أحجمت عن الخوض في شؤون الحكم، فانبرت إلى توجيه الناس وتربيتهم وتعليمهم “دينهم الشخصي”، والدعاء على المنابر وفي القنوات بالصلاح للحكام وجمع كلمة الأمة وتوحيد صفوفها، ووجهت الناس إلى الاهتمام بأمور دينهم، والاستعداد ليوم الآخرة، والنذارة بأحداث النهاية وأمارات الساعة التي نراها عيانا، فكثر الوعظ والإنذار بدل التبشير بغد الخلافة الموعودة بإذن الله سبحانه.
– فئة ظهرت حديثا، تنكر إنكارا تاما موعود الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بنصر هذه الأمة، وعودة الخلافة الثانية، وتستهزئ بمن يدعو لها ويبشر بها، مرجعها في ذلك واقع المسلمين الضعيف والمشتت، في مقابل قوة الغرب وسطوته على العالم، وهي بذلك تنكر أصولا من الدين معلومة، وعندهم أن اجتماع أمر الأمة من جديد بعد شتات مستحيل، فذب فيها اليأس وركبها الاستعجال، نعوذ بالله.
– فئة تؤمن بالخلافة، لكنها تعتبرها مستبعدة في الزمن المنظور، فآمنت بفكرة “إصلاح ما يمكن إصلاحه”، فلا ضير من الانخراط في مؤسسات الدولة وتغيير الهامش المسموح به، والمساهمة في تدبير بعض شؤون الحكم، ونقد بعض السياسات العمومية، لكن بشروط وخطوط حمراء كثيرة ومقيدة.
– فئة استعجلت الخلافة، لكن دون رؤية واضحة، فهي تخبط خبط عشواء في مسيرتها التغييرية، فتسعى إلى تحقيق “النصر” بشتى الوسائل، ولو باستعمال العنف.
– فئة تؤمن إيمانا راسخا بعودة الخلافة الثانية التي بشرها الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، صلى الله عليه وسلم، وهي تعمل بصبر وثبات وحكمة، متوكلة على الملك الوهاب، الذي يؤتي ملكه من يشاء، ولا يخلف الميعاد سبحانه وتعالى، ووعد المؤمنين الصادقين بالنصر، بشروط وسنن وقواعد بثها سبحانه في كتابه المنظور والمسطور.
نقصد من خلال هذه الدراسة استفزاز عقول العاملين في حقل الدعوة الإسلامية، من علماء ومفكرين وأكاديميين، لإعادة النظر في تاريخ الإسلام السياسي، واستنباط العبر، فقد حان الوقت لإعادة فتح باب الاجتهاد، خاصة في مجال الحكم والسلطة، وضبط المفاهيم الأساسية وتصحيحها، تأسيسا لحكم إسلامي راشد بضوابط شرعية وبواعث إيمانية.
وتعتبر هذه الدراسة أرضية للنقاش والحوار وتبادل الآراء، خاصة أن مجال الحكم لم ترد فيه أمور قطعية، وإنما جاءت توجيهات عامة، ويبقى الاجتهاد بقواعده وأصوله ومقاصده إطارا للعلم والعمل.