الحوار عند الإمام عبد السلام ياسين

Cover Image for الحوار عند الإمام عبد السلام ياسين
نشر بتاريخ

اختار الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمة الله عليه الطريق المستقيم، المؤدي لحب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولتحقيق هذا الهدف صحب عارفا بالله؛ الشيخ العباس رحمه الله تعالى، ولزم الذكر وطرق باب ربه بالدعاء والبذل والجهاد، فطلق الدنيا والآخرة وأقبل على مولاه، لكنه لم يكتف بخلاصه الفردي بل خرج للأمة  وللعالم بأسره؛ ينصح ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومد يده لجميع الفضلاء والصادقين من أبناء هاته الأمة؛ محاورا ومتواصلا ومبلغا لدعوة الله تعالى بالحال والمقال.

فما هو مفهوم الحوار عند الإمام المجدد؟

وما هي شروطه وأدبياته؟

وما هي غايته؟

مفهوم الحوار   

يعرف الحوار، عمومًا، بأنه عملية تبادل الآراء والأفكار من أجل تحقيق التفاهم المشترك، عن طريق الاستماع الفعال والإيجابي لاكتشاف أوجه التشابه وفهم الاختلافات في وجهات النظر المتنوعة، وهو ليس مجرد مناظرة أو مناقشة عادية، ولا يتعلق بتاتًا بإقناع الآخرين بالموافقة على وجهة نظر الآخر أو تغيير قناعاتهم، إنما يرمي الحوار إلى تجاوز سوء الفهم بهدوء ودون عصبية من أجل دعم التفاهم المتبادل.

مفهوم الحوار عند الأستاذ عبد السلام ياسين

تبنى الأستاذ عبد السلام ياسين هذا المبدأ، وسعى جاهدا لمد جسور التواصل مع مختلف مكونات المجتمع؛ لبسط فكره الدعوي الرامي لربط الخلق بخالقهم والمصالحة مع الذات لتحدد غايتها وهدفها من الوجود، مستعملا لغة قرآنية تخاطب القلب والعقل معا، مع احترام الآخر والاستماع له، فهو القائل: “إن موضوع هذا الحديث هو فتح أفق الحوار والاتصال والتفاهم والتعاون المتبادل بين نخبتين مختلفتين من حيث العقلية، لا يمكن أن يقرب ويوحد بينهما إلا إرادة مشتركة وملتزمة تظهر جديتها على أرض المعركة”، ويضيف رحمه الله: “فما الحوار، وما شروطه؟ من شروطه الأولى حرِّيَّة التعبير. فَمَا دَامَ أحدُ طَرَفَيِ الحوار يَدَّعِي أنَّ مسلّماته هُوَ هي القاعدة وَالأساس، وَأنَّ النتائج كُلَّها موجودة بِالقُوَّةِ فِي المقدِّمات التي يفرضها هُوَ، فلا حِوار ممكن؛ المنطق الديني شيء، والمنطق الجدليّ شيء آخَرُ. وَالمعروف أن الـمُحَاوِر فِي نطاق المنطق الديني ميَّال إلَى الاعتقاد أنَّ فَهْمَهُ وَحْدَهُ للدِّين هو الصحيح” [1].

شروط الحوار عند الإمام

1– الحكمة والرفق

أكد الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله أن علاج الاختلاف لا بد له أن يستند على الدليل والرفق واللين، فقال: “يروغ زيد وعمرو من الناس ولا يحب أن يسمع كلمة «الآخر» رغم أن الديمقراطيةَ العقيدَةَ العتيدَة تُعلم الحوار، وضرورةَ الحوار، وتعددية الآراء، وعلاج الاختلاف بالحجة، والكلمة، والوِفاق السلمي، والتعاقب السلمي” [2].

ويضيف قائلا: “ولا أظن أن الفكر المسلم، والفكر الإسلامي بالذات، بحاجة إلى تصحيح المفاهيم العملية السياسية كما هو بحاجة إليه فيما يخص الخلاف ومعالجته بالمرونة والرفق الضرورين للتعايش مع طوائف الناس ومع الفصائل الإسلامية المخالفة في الرأي والمذهب والموقف السياسي” [3].

وهنا تأكيد على ضرورة تبني الخطاب الرفيق اللين مع المخالفين قبل الموافقين للرأي، من أجل ترك فرصة للتعايش والتفاهم والانسجام، كما جاء في الحديث النبوي الشريف الذي روته أمنا عائشة رضي الله عنها: “إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شيءٍ إلَّا شانَه” [4].

2- إشراك جميع الشرفاء في الحوار دون استثناء أو إقصاء

فالحوار عند الإمام لا يستثني أحدا من الشرفاء مهما كان فكره وتوجهه، إيمانا منه بأنه الوسيلة الناجعة لتبليغ الدعوة والتعرف على الله تعالى وتحرير الإرادة في طلب وجهه الكريم للجميع، بل وللتعارف والتعاون مع ذوي الإرادات الصادقة، فقد جاء في بعض أقواله: “ومن كل الطوائف شرفاء معهم نريد الحوار” [5]، وقال أيضا: “إن الدعوة التي تسعى إلى أن تصل إلى جميع الآذان، وتخاطب جميع الأوساط لتفتح الحوار المسؤول على صعيد الأمة وفي جميع المستويات، لابد لها من حكمة في الأسلوب، ودراية في وسيلة التخاطب” [6]، ويضيف مؤكدا: “بل أقول: ينبغي أن نتقبل حكمة التعددية وحكمة التعاقب على الحكم بين الفصائل الإسلامية. بل ينبغي أن نسعى لتوطيد دعائم الشورى على تعددية المدارس والتنظيمات والآراء والمذاهب. وعلى تحمل أعباء الحكم” [7].

فالجاهل هو من يلغي تواجد الاختلاف والمذاهب والآراء، فكل فئة ترى من زاوية مختلفة عن الأخرى، والموفق  المسدد هو الذي يرى بنور الله عز وجل، ويسعى لتوحيد وجمع شتات الأمة بالحكمة والرحمة     والتؤدة والسمت الحسن، قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل: 125).

3- المسارعة للحوار وعدم استعجال الثمار

يرى الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله أن الحوار من الخطوات المستعجلة التي لا تحتمل التماطل، لأن الأمة تنتظر وتأمل بناء ما تم هدمه عبر التاريخ من عدل وشورى وحياة كريمة، نتيجة  الاستبداد والظلم وتغييب  شرع الله، وفي هذا السياق يقول: “إن الأمة لا يمكن أن تواجه تحديات الحاضر والمستقبل إن لم تجمع ما فرقته عصور الخلاف. وإنما يمكن ذلك بنصب الجسور، والتعاون الفعلي في جهود البناء، لتكون نتائج البناء المشترك حافزا على توحيد النظرة بعد حين. لا ينبغي أن نؤجل الحوار، ولا أن نستعجل الوفاق، ولا أن نيأس لما نراه خلفنا من أهوال تاريخية ” [8].

4- علنية الحوار والاستعانة بالصحافة الحرة

الحوار الفكري والسياسي بحاجة لإعلام حر وصادق ينقل الحقائق كما هي، ويؤدي رسالته بكل شفافية؛ همه إحقاق الحق وإبطال الباطل، يقول الإمام المجدد: “تنبني لعبة التوازن في النظام الديموقراطي على وجود المنظمات السياسية والنقابية النشيطة التي يضبط نشاطها الانتقادي وتناوبها على الحكم إيقاع الحياة السياسية. ويمثل الحوار العلني والصحافة التعددية الحرة الواعية بمسؤوليتها واحدة من أهم الوسائل التي علينا استعارتها من الديموقراطية” [9].

غاية الحوار عند الإمام

غاية الحوار المنهاجي أسلمة الحداثة والرجوع للأصل والسعي لتحقيق الغاية من الوجود؛ عبادة الله تعالى وحسن الاستخلاف في الأرض، غاية تطير بنا في سماء القرب من الله تعالى بجناحي العدل والإحسان، وهذا لا يتأتى إلا بالتربية، تربية لا تخلو من إرادة يحذوها العلم ويخدمها العمل والجهاد. وقد وصف الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله التربية بالحرفة حيث يقول: “حرفتنا التربية، هي وسيلتنا لتغيير الإنسان حتى يتبنى موقفا ونظرة وإرادة تتعالى على الظرفيات التاريخية، وتتجاوز الحدود الجغرافية الضيقة التي تحيطنا بها سياسة المنزل الإقليمي الصغير، وذهنية الهوية التجزيئية” [10]، ومنه فالحوار يفتح لنا مجالا خصبا لتبليغ الدعوة وطرح التصور المنهاجي والتواصل مع جميع النخب والفضلاء.

ختاما أؤكد على حرص الإمام المجدد على إيصال الرسالة في أبهى حلة؛ الدعوة إلى الإسلام والدعوة إلى الله لأكبر عدد ممكن من الناس، لأنه حق من حقوقهم كعباد لله، ليفوزوا يوم  لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فهذا الجهد بتوفيق من الله والهداية من عنده عز وجل. يقول الإمام رحمه الله: “أول حق للإنسان أن يعرف مغزى حياته ووجود خالقه، أما الحقوق الأخرى فتدور كلها حول هذا المحور. لذلك يجب أولا على كل مسلم يعيش في مجتمع مسلم أن يدعم هذا الحق” [11].

رحم الله الإمام المربي، وأسكنه فسيح جناته، وجعله في أعلى عليين، جوار النبيين والصديقين والشهداء.


[1] عبد السلام ياسين، الشورى والديموقراطية، ط: 1، ص: 127 – 128.

[2] نفس المصدر، ص: 6 – 7.

[3] عبد السلام ياسين، العدل؛ الإسلاميون والحكم، ط: 1، ص: 147.

[4] صحيح مسلم، ص: 2594، خلاصة حكم المحدث: صحيح.

[5] عبد السلام ياسين، رسالة القرن في ميزان الإسلام، ط: 1، ص: 40.

[6] مجلة الجماعة، العدد الثاني، ص: 78.

[7] عبد السلام ياسين، العدل: الإسلاميون والحكم، ط: 1. ص: 279.

[8] عبد السلام ياسين، الخلافة والملك، ط: 1، ص: 52.

[9] عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، ط: 1، ص: 345.

[10] عبد السلام ياسين، المصدر نفسه، ص: 325.

[11] المصدر نفسه. ص: 238.