الحماية الاجتماعية بالمغرب

Cover Image for الحماية الاجتماعية بالمغرب
نشر بتاريخ

سعى الإنسان منذ القدم إلى الاحتماء من المخاطر المحدقة به وغير المتوقعة بعدة وسائل بدائية، كالادخار الفردي والتضامن الأسري أو العشائري أو القبلي، وقد كانت هذه الأشكال من الحماية الاجتماعية تجد أساسها في العادات والتقاليد وفي تعاليم الدين الذي يحث على قيم التعاون و التآزر والبر، إلى أن عمدت الدولة الحديثة لوضع نصوص قانونية مؤطرة للمجال، حيث بدء التأسيس للحماية الاجتماعية بالمغرب مع المستعمر الفرنسي منذ ظهير 1917 المتعلق بإحداث صندوق الاحتياط المغربي، والظهرين الصادرين 1930 المتعلقين بنظام المعاشات المدنية، وبإحداث الصندوق المغربي للتقاعد، والظهير الصادر سنة  1927 المتعلق بالتعويض عن حوادث الشغل، والظهير الصادر سنة 1943 المتعلق بالتعويض عن الأمراض المهنية، وبعد الاستقلال تم إحداث الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي سنة 1959 والذي عدل سنة 1972. أما بخصوص حوادث الشغل فقد صدر ظهير 1963 تم تعويضه بموجب قانون 12ـ18.

لكن وبالرغم من هذا التنصيص فالواقع أفرز ضعف ومحدودية هاته الحماية، لاعتبارات متعددة، أبرزها غياب الديمقراطية والعدل والمساواة… كما أن الدولة لم تعمل على وضع سياسات وبرامج تهدف إلى تقليص الفقر والهشاشة، من خلال دعم سوق العمل وتقليص تعرض الأفراد للمخاطر وتعزيز قدرتهم على حماية أنفسهم.

فعلى مستوى التغطية الصحية فالأرقام المصرح بها جد مخجلة، حيث أن المستفيدين من التغطية الصحية لا يتجاوز 40% من ضمن الفئة النشيطة، أضف إلى ذلك إشكالات أخرى مرتبطة بالاستفادة، فعوض أن تتحمل الدولة مسؤوليتها في العمل على تحقيق الإنصاف في مجال الاستفادة من الخدمات الطبية كما نصت عليه مدونة التغطية الصحية تلجأ إلى الاستجابة إلى لوبيات الفساد واقتراح تعديلات تخدم بالدرجة الأولى أهداف من احترفوا الاغتناء على حساب معاناة وآلام المرضى، فالدولة ملزمة أن تعمل على تعبئة كل الوسائل لتيسير أسباب استفادة المواطنين على قدم المساواة من الحق في العلاج والعناية الصحية وأن تكون الخدمات موزعة توزيعا كافيا على سائر التراب الوطني من أجل توفير هاته الخدمات بما يحقق العدالة المجالية، وعليه فالأمر يقتضي النهوض الشامل بالقطاع الصحي، وتأهيله وإعطاءه الإمكانيات اللازمة، حتى لا تتكرر المشاكل التي كانت في نظام “راميد”، الذي كان يصطدم بضعف البنيات والإمكانيات والموارد البشرية.

فإذا كانت الأرقام تشير إلى أن 22 مليون مواطن مغربي لا يتوفرون على تغطية، لأنهم وبكل بساطة ليس لهم دخل قار، وبالتالي لا يمكن أن نطلب منهم المساهمة، وهذا بالطبع يقتضي توفير شغل لائق والحد من طوابير العاطلين الذي هو في تزايد مطرد  (سنة 2020 انضاف حوالي نصف مليون شخص جديد، كي يتعدى معدل البطالة 12 في المائة، وهو مستوى لم يعرفه المغرب منذ 19 عاماً، وتفيد بيانات المندوبية السامية للتخطيط، حول البطالة والتشغيل، بأن عدد العاطلين ارتفع ب 496 ألفاً في مقارنة بين الربع الثاني من العام الحالي والفترة نفسها من العام الماضي، حيث انتقل عدد العاطلين من 981 ألفاً إلى 1.48 مليون، وهو ما يمثل زيادة بحوالي 50 في المائة.

أما بالنسبة لشروط العمل بالقطاع الخاص، فالدولة لم توفر بعد الحماية اللازمة للأجراء، ولم تحمهم من جشع واستغلال الباطرونا غير المواطنة، والتي لا تلتزم بالحد الأدنى للأجور (70 % مـنهم لا يتوفرون على الحـد الأدنـى للأجـور) ولا تمنح التعويضات والعطل المؤدى عنها، وجل المقاولات تدلي بتصريحات غير حقيقية وغير سليمة… (59 في المائة من النشيطين لا يتوفرون على عقود عمل) أضف إلى ذلك أن القوانين لا تحمي العمال من الطرد التعسفي ولا تؤمن لهم تعويضا مناسبا على فقدان الشغل. وهيئة تفتيش الشغل ضعيفة جدا عددا وعدة، وعزم وزارة الشغل توظيف 182 مفتش شغل جديد هذه السنة لن يغير من واقع معاناة العمال شيئا وهذا العدد لا يعدو إلا أن يكون ضحكا على الذقون، أضف إلى ذلك أن صلاحيات مفتش الشغل محدودة جدا، فهو لا يملك سوى تأطير جلسات مصالحة لتسوية النزاعات، وإذا تعذر ذلك فليس بوسعه سوى تمكين المتضرر من محضر اللجوء للقضاء.

من أسس نظام الحماية الاجتماعية أيضا توفير معاش تقاعد مريح لكل نشيط، وهو ما نفتقده أيضا في هذا البلد، هناك فئة عريضة من المهنيين والأجراء المياومين لا يستفيدون من الحـق فـي معـاش التقاعـد (حوالــي 60 % مــن الأشــخاص النشــيطين المشــتغلين، أي 2,6 مليــون نســمة، غيــر مشــمولين بــأي نظــام مــن أنظمـة معاشـات التقاعـد. إذ تقتصـر أنظمـة التقاعـد الإجباريـة علـى موظفـي وأجـراء القطاعيـن العـام والخـاص) وبالنسبة للمنخرطين في الصندوق المغربي للتقاعد CMR فقد أنزلت الحكومة ما أسمته إصلاحا مقياسيا لأنظمة التقاعد، والذي بمقتضاه تقرر مدة عمل أطول (63 سنة) واقتطاعات أكثر (زيادة 4 نقط في نسبة الاقتطاع) ومعاشا أقل (احتساب2%  بدل 2.5% مع 8 سنوات أقدمية فالدرجة) والكارثة أن هذا الإجراء لن يجنب صندوق التقاعد خطر الانهيار، بل منح مهلة مؤقتة فقط لاستدامة التوازن المالي للصندوق. والدولة الآن تبحث وبشكل انفرادي في دمج صناديق التقاعد لإحداث قطب عمومي، ولم تكشف بعد عن شروط ومخاطر وكيفية هذا الاندماج والجدول الزمني لتنفيذه.

أمام هذا الوضع المزري لمعيش الشغيلة المغربية والذي زادته جائحة كورونا قتامة، وبدل إشراك الجميع في مشاورات تفضي لتدابير احترازية ناجعة لوقف النزيف، قرر المخزن  وكعادته إبعاد الجميع، حتى أنه لم يشرك أحدا بما فيهم الشركاء الاجتماعيون في تهيئ مشروع التغطية والحماية المزمع تنزيله، ولازال يجتهد في فرض مزيد من القيود لتكميم الأفواه، ضاربا عرض الحائط كل تحذيرات الأزمة الاقتصادية التي تلوح في الأفق والأخطار المحدقة بنا، وهذا ما يؤكد مرة تلو الأخرى أن الدولة تفتقد للإرادة السياسية للتعامل مع الحركة النقابية كشريك في الحياة الاجتماعية، وهمها الوحيد هو تكريس مشهد نقابي متحكم فيه، همها الوحيد هو تحييد كل الفاعلين، ليخلو لها المجال للعبث بحقوق الأجراء بل بحقوق الشعب برمته، فلازالت الدولة للأسف تصر على تكريس التبعية، وتتمادى في رهن البلاد لإملاءات صندوق النقد الدولي وباقي اللوبيات المالية العالمية المستكبرة، لازالت الدولة تمعن في نهج سياسات جائرة لا شعبية، تضرب في العمق كل التوازنات الاجتماعية، وتتنصل من كل واجباتها الاجتماعية…

إن الرهانات المستقبلية كبيرة جدا، والظرفية الراهنة تفرض على الدولة مراجعة كل اختياراتها الاقتصادية والاجتماعية السابقة، وأن تأخذ العبرة من الأزمة الراهنة، والقطع مع كل الخيارات التي تبنتها سابقا وتأكد فشلها فأوصلتنا للنفق المسدود، ولن يتأتى ذلك إلا عبر إصلاح سياسي شامل وجذري، يفسح المجال للإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، التي تبني اقتصادا وطنيا تضامنيا منتجا، يقوي القدرات الاقتصادية للبلاد ويكون في خدمة الحاجيات الأساسية لأغلب المغاربة.

على الدولة أن تفتح نقاشا عميقا وقويا يؤسس لمرحلة جديدة، حـوار وطنـي حقيقي، شفاف وجريء، تنخرط فيه كل الأطراف (أرباب عمل وهيئات سياسية ونقابية وإطارات تنظيمية مهنية وسلطات حكومية معنية وأكاديميون…) يُتوج بإعداد وتطبيق خطط وبرامج لحماية اجتماعية فعلية شاملة وغير منقوصة وبدون أي تمييز، أما ما يروج له في الأفق فنتمنى أن لا يصيبها ما أصاب التنمية البشرية ونظام “راميد”. 

أما النقابات فخيارها الوحيد لتعبئة الطبقة العاملة والتأثير النضالي في قرارات السلطة هو توحيد الصف النقابي في جبهة نقابية مناضلة وموحدة، يؤسس لها بحوار جدي ومسؤول بين مختلف المؤسسات والفعاليات النقابية يفضي إلى ميثاق أخلاقي نضالي، ويشكل أرضية تنسيق الجهود وتوحيدها، فبشيء من نكران الذات، يمكن بناء وحدة نضالية متماسكة وقوية توحد الجهود وتصمد أمام التسلط المخزني وتعنته، وقد تفرض بناء دولة اجتماعية حقيقية تضمن مواجهة أزمات وصدمات المستقبل.